تسمى دمشق العتيقة بلغة الحضارة والثقافة والمعمار ولكنها بيضة القبان في المعجم الحربي والقاموس العسكري حيث يسعى طرفا القتال في الشام إلى بسط سيطرته عليها وتأمينها لصالحه. الاستنفار الأمني في سوق الحميدية والأسواق المجاورة له في دمشق القديمة حيث تنتشر قوات الجيش والأمن الراجلة مصحوبة بكلاب الحراسة والتفتيش وكثرة الحواجز الأمنية في الجانب العتيق من العاصمة السورية دمشق يشي بأن النظام السوري لا يساوم ولن يتساهل مع دمشق القديمة ولن يتنازل عنها أبدا لصالح قوات المعارضة التي تضعها في بنك أهدافها المقررة.
يدرك النظام والمعارضة المسلحة القيمة المعنوية العالية والأثر النفسي الكبير للسيطرة على دمشق القديمة..
ففيها يوجد الجامع الأموي رمز العاصمة الأموية والشموخ الدمشقي , وفيها أيضا قلعة دمشق عنوان الصمود والتحدي ضد غزوات الغرب والشرق, وفيها أيضا قبر وتمثال صلاح الدين الأيوبي جوهر مقاومة الصليبيين وعنصر الذود عن حرمات الإسلام, وفيها أيضا بقية الحسين عليه السلام... رائحة الرسول الأكرم في الأنام.. وهي فوق كل هذا, شرايين الاقتصاد السوري ورئة التجارة الشامية حيث يستوطن أغلب تجار القماش والحرير واللباس والحلويات والقهوة وحيث مقر اتحاد تجار دمشق. وهي مع كل هذا, الحاضنة والحاملة والمعانقة للعادات والتقاليد الشامية والراعية لمعمار بيوت الآباء الأولين ولفسيفسائية دور الأجداد الأثيلين.
لهذا ولغيرها من الأسباب, يخشى النظام ومعه الكثير من السوريين من سيناريو مدينة حلب القديمة إذ أعدمت المواجهات والمصادمات العنيفة سوق حلب التاريخي وأحرقت سقفه وهو الأطول في العالم وطالت نيران الاقتتال باحة الجامع الأموي ومحرابه قبل أن تصل ألسنة اللهب إلى مكتبته الإسلامية ومصاحف القرآن الكريم وكتب السنة المطهرة.
وعلى غرار خشية النظام, تخشى المعارضة المسلحة ومعها جمهورها في سوريا من سيناريو حلب القديمة حيث أدى دخول مقاتليها إلى أسواقها إلى حنق التجار وأصحاب المحلات وغضبهم حيالها بعد أن فرض عليهم القتال إغلاق مواطن عملهم وأسباب رزقهم وضياع موارد قوتهم وقوت عائلاتهم.
الخشيتان تترجمان عسكريا بين أحياء وأزقة دمشق القديمة حيث يفرض النظام سيطرة أمنية مكثفة ومراقبة شديدة على كل مفاصلها ويقوم بتفتيش دقيق لداخليها والخارجين منها, مستعينا باللجان الشعبية مكونة من أبناء أحياء دمشق القديمة الذين فضلوا حمل السلاح لقتال المعارضة المسلحة ومنعها من تكرار سيناريو حلب التي تتوزع في شكل جماعات مسلحة على مداخل أزقة دمشق القديمة.
يرفض أعضاء اللجان الشعبية نعتهم بالشبيحة أو مرتزقة النظام , لهم فلسفتهم كما يرون, لهم موقفهم الخاص بهم والمتمثل في أنهم يعملون على الحيلولة دون دخول أطراف مسلحة أجنبية إلى أحيائهم ومهم مستعدون للاصطدام المسلح بهم في حال انتقال النزاع المسلح إلى دمشق القديمة.
هم يقرٍون بأن السلاح الخفيف الذي بحوزتهم يعود إلى النظام ولكنهم يعتبرون أنه سلاح للدفاع عن الوطن الذي يحبونه وعن مبادئ التعايش المشترك والتجانس الاهلي الذي عاشوا في كنفه عقود وعقود ... هو سلاح للدفاع عن الوطن وليس للذود عن الحزب أو قائد سياسي معين ... هكذا هم يرون. تزيدهم الأخبار المتناقلة والواردة من الأماكن المشتعلة عن تصفية مؤيدي النظام إصرارا وعزما عن حمل السلاح والبقاء في ذات الخيار.
يقول أحد أعضاء اللجان الشعبية أن سلوك المعارضة المسلحة وأداءها يسميها بالمجموعات الإرهابية المسلحة في حلب وإدلب وغيرها من القرى والمدن التي باتت تحت سيطرتها ضد الأهالي جعل الكثير من المواطنين يتدفقون إلى مراكز الجيش والأمن لحمل السلاح مضيفا أن عدد الذين وقعوا طلبا بحيازة السلاح يزيدون عن 500 ألف. رقم يصعب التسليم بمصداقيته في ظل امتناع قطاعات كبيرة من الشعب السوري عن رفع السلاح وفي ظل رفض الشريحة الكبرى من السوريين للخيار العسكري الذي انخرطت فيه كافة أطراف الأزمة السورية محليا وإقليميا ودوليا مع تمسكها بالحل السلمي القادر رغم سقوط 60 ألف شهيد سوري على الأقل على تجفيف مصادر الاحتقان والتخفيف من وطأة الصدام على الأرض.
في الطرف المقابل , يحدثك الكثير من السوريين عن وجود خلايا نائمة مسلحة تنتظر ساعة الصفر للدخول في حرب كسر عظام ضد اللجان الشعبية وضد قوات الجيش للسيطرة على أجزاء من دمشق القديمة وتحقيق انتصار معنوي في أحد أكبر معاقل النظام السوري.
قد تكون ليلة الخميس 24 جانفي الماضي الصفحة الأولى من صفحات انتقال القتال إلى دمشق القديمة حيث هزت أحياءها وأزقتها سلسة تفجيرات مدوية أضاءت بالدم والنار ليل دمشق الدامس.
5 عبوات ناسفة زنة الواحدة تجاوزت الخمس كيلوغرامات انفجرت تباعا مستهدفة مركزا أمنيا في مدخل دمشق القديمة... والحصيلة خسائر مادية جسيمة وإصابات عديدة في صفوف القوات النظامية.
على إثرها استنفرت قوات اللجان الشعبية عددها وعدتها وأعلنت حالة الطوارئ في المنطقة ووضع السلاح الخفيف في موضع الاستنفار والرصاص في مكان الإطلاق. أخمدت النار التي كانت اللجان الشعبية تستعين بها للتدفئة حتى لا تتمكن المعارضة المسلحة من تحديد مكان تواجدهم.. ووقع منع استعمال المصابيح الكهربائية لذات الغرض.
رويدا رويدا.. بدأ يقين أن المسلحين ما زالوا بعيدين عن دمشق القديمة يتوثق في قلوب الأهالي واللجان ... لن يأتوا الليلة .. وقد لا يأتون في الليالي القادمة ولكن المهم أن دمشق القديمة لن تكون في منأى عن سحابة الصدام التي باتت تظلل كافة المدن السورية. تشير الشعارات المعارضة للنظام الممسوحة من جدران دمشق القديمة أن المعارضين مروا من هنا.. وأن قوات النظام مرت بعدهم بسرعة ومن ذات الممر والممشى... الإشكال أن دخولهم في المرة القادمة في حال نجاحهم في هذا الأمر لن يكون دخول الكاتبين على الجدران شعارات ضد النظام ولا دخول المحبرين على الحيطان هتافات ضد القيادة السياسية ... كما أن ملاحقة النظام لهم لن تكون بالطبشور ولا بالطلاسة .. ولا بالدهان الأسود ... (الحلقة القادمة : الشروق في مخيم اليرموك... والنجاة من رصاص القناصة).