لازال السيد حمادي الجبالي لم يعلن عن تشكيلة حكومة التكنوقراط التي التزم بتكوينها، غير أن مبادرته قد حقّقت بعد أهدافا أخرى ربما لم يكن يرمي إليها يمكن تصنيفها تحت المسمى العسكري «بالأضرار الجانبية». من هذه الأهداف المحقّقة ولعل أهمها جميعا إنهاء الترويكا. انتهت الترويكا لا نقاش في ذلك. انتهت لا فقط كائتلاف حاكم أدار دفّة سفينة الدولة لمدة تزيد عن الخمس عشرة شهرا ولكن أيضا كتجربة سياسية فريدة جمعت أحزابا مرجعياتها الفكرية مختلفة، متباينة وأحيانا متضاربة، لكن وحّدت بينها مصلحة السلطة وإرادة الحكم.
ولقد نجح هذا التحالف في أن يتماسك في الأشهر الأولى من تكوينه مستمدا من نشوة الثورة الشعبية الناشئة وما فتحته من آفاق مستقبلية طاقة للاشعاع في الداخل والخارج. غير أنه ومع مرور الأشهر بدأت بوادر الفشل تظهر واتضح مع تأكد تعطّل الانتقال الديمقراطي أن التحالف الترويكي كان في الحقيقة زواجا غير طبيعي وأنه آيل للانفصام في أول امتحان حقيقي. وجاء هذا الامتحان في شكل الدعوة إلى التحوير الحكومي حيث انكشف سريعا أن كل حزب من أحزاب الترويكا كان منشغلا بمسألة البقاء في السلطة أكثر ممّا كان يعمل من أجل انجاح مشروع الانتقال الديمقراطي الذي يشكل الأسّ الأهم في بناء التحالف الحاكم وهدفه الأول والأخير.
لقد كرست مبادرة الجبالي نهاية الترويكا كتحالف ولكنها عرّت كذلك عيوب كل واحد من الأحزاب الثلاثة وأظهرت أخطاؤه التي قد تكلّفه غاليا في الانتخابات المقبلة، وما من شك في أن الأزمة الخطيرة التي تعيشها بلادنا اليوم وهي تنتظر خلاصها بميلاد حكومة الجبالي التقنوقراطية المعلنة هي من أزمة أحزاب الترويكا فأما النهضة فقد أخطأت أساسا لما لم تحسم في علاقاتها مع المتشددين من السلفيين وأمثالهم وظنت أنه في الامكان ترويضهم واستمالتهم إلى شقها وضمان بذلك خزّانا هاما من الأصوات في الانتخابات المقبلة. إذ سرعان ما تبين أن ترويض السلفيين غير ممكن بل وأنهم يمثلون خطرا على النهضة قبل غيرها لا سيما وهي في مركز الحكم الذي يحتاج توفر أسباب التوافق والتهدئة والاستقرار.
وأخطأت النهضة كذلك لما أعطت الأولوية المطلقة في تسييرها لشؤون البلاد وفي ظرف انتقالي إلى تثبيت مراكز قواها في كل مفاصل الدولة بمختلف مستوياتها الوطنية والجهوية عبر تسميات كثيفة ومفضوحة آثارت الشك حول جدية النهضة في الاسراع في تحقيق عملية الانتقال الديمقراطي.
كل هذه الأخطاء وغيرها هيأت إلى انقسام التنظيم الاسلامي إلى برغمائيين ومتصلبين ما أن أعلن حمادي الجبالي عن مبادرته التي أحدثت تحوّلا هيكليا عميقا في الحزب الذي لا يمكنه مستقبلا العودة إلى ما كان عليه قبل «خروج» أمينه العام. فإما أن يتطوّر خطابه في النهج البرغمائي الذي اختاره الجبالي وإما أن يقبل الانقسامات والانقسام إلى أحزاب عديدة متقاربة متنافسة.
حزب التكتل الحليف الذي ظهر بمظهر المطيع الأكبر لحزب النهضة داخل التحالف الحاكم دفع ثمن اصطفافه غاليا وقبل التهرئة إلى حدّ الانحلال ولم يبق بارزا من التكتل غير رئيسه مصطفى بن جعفر الذي اختار أن يلعب آخر أوراقه ويركب وبعض ما تبقى من التكتل زورق النجاة المتمثل في الدعم الكامل والواضح لمبادرة الجبالي ولكن ماذا عن «المؤتمر» الحزب الثاني من الحجم في الترويكا؟
لنقلها بشكل صريح: إن فشل الترويكا هو فشل شخصي للرئيس منصف المرزوقي الذي جعل من نجاح الترويكا وتماسكها رهانا لم ينفك ينظّر له في الداخل والخارج مبشرا في كل ناد بمثالية التشارك بين العلمانيين والاسلاميين لانجاح المشروع الثوري التونسي.
لكن السيد الرئيس المؤقت أوضح في نفس الوقت التردد وأحيانا من التضارب في المواقف ما جعله يقف في وضع «بين بين» دائم. فهو يدعم النهضة داخل الترويكا وينقلب عليها في مؤتمرها، يبارك التزامها الديمقراطي ويتّهمها بإرادة الهيمنة وعمل الرئيس المؤقت على أن تكون الأدوار محكمة التوزيع بينه وبين مستشاريه لكن تكرار مسرحية قول الشيء ونفيه باستمرار أصابت صورة السيد منصف المرزوقي بالتآكل وزاد من إضعاف مصداقيته إصراره المفضوح على الركوب على كل الأحداث الوطنية وتحويلها إلى فرص للظهور الشخصي والبروز في مظهر الحامل الأول للضمير الوطني الباحث دوما عن الوفاق ودرء الصدع. لكن هذا الظهور المتميز لرئيس الجمهورية سريعا ما ينقلب إلى وهم ما أن يستعيد السيد منصف المرزوقي دوره المحبّذ والمتمثل في داعية للتحريك الثوري مطالبا بمحاسبة لا هوادة فيها للفاسدين.
والحقيقة أن السيد منصف المرزوقي الذي راكم الفشل في الداخل والخارج بمبادرات بقيت حبرا على ورق مثل مؤتمر اقتراح تنظيم لجمع قادة المغرب العربي أو بعث مجلس دستوري دولي.. لم يتوقف منذ دخوله قصر قرطاج عن القيام بحملته الانتخابية للبقاء في هذا القصر.
ولعل اصراره الواضح على المحافظة على كرسي الرئاسة هو المتسبب في كل هذا التذبذب الذي تتميّز به مواقفه وكان آخرها امتداح حمادي الجبالي في خطاب تلفزي كان محوره نفي إشاعة استقالته من الرئاسة، قبل أن ينقلب عليه باسم المحافظة على الشرعية.
لكن أكثر المشاهد تأكيدا لما سار عليه الرئيس منصف المرزوقي من نهج التردّد والتذبذب والبقاء «بين بين» هو إقدام حزبه «المؤتمر من أجل الجمهورية» في بحر أسبوع واحد على إعلان تقديم استقالة أعضائه في الحكومة قبل نفي الاستقالة والعودة لتعليقها. منصف المرزوقي مثل حزبه حاضر غائب، مقبل مدبر، معلنا نافيا.
وللتأكد نهائيا من ذلك نذكر بما راج من أن الرئيس المؤقت كان على علم بالتهديدات بالقتل التي كانت تستهدف الشهيد شكري بلعيد. الرئيس أعلم الفقيد بالتهديدات لكنه لم يفعل شيئا لمنع حصول الجريمة. هذا هو الرئيس يقول ويمضي. والسؤال اليوم هو كيف يمكن لرئيس لم يحم شخصا واحدا أن يحمي شعبا كاملا؟