ليست هذه المحطة الأولى التي يعرف فيها التيار الإسلامي مجسّدا في حركة النهضة، رجة باتجاه الانشقاق والتصدع... ولن تكون كذلك الأخيرة نظرا الى أن الأيام القادمة حبلى بالتطورات الحمّالة لمشاكل واختلافات... هي المرة الأولى التي يعلن فيها على الملإ أن في حزب النهضة انشقاقا... ذلك أن التصدعات التي عرفتها النهضة أو الاتجاه الاسلامي، متعددة ومتنوعة وأسسها كما تداعياتها مختلفة.
يوم أمس ولأول مرة كذلك لا «يكظم» السيد راشد الغنوشي غيضه، تجاه ما أتاه السيد حمادي الجبالي وأمس الأول كذلك فجّر السيد عبد الفتاح مورو قنبلة، يعتقد العارفون بثنايا حزب حركة النهضة والمتابعون لمسيرته كحزب للاسلام السياسي، أنها كانت منتظرة.
ففي حين يقول أمس السيد راشد الغنوشي في جموع ظنّها النهضاويون أنها ستكون غفيرة، لكنها جاءت جموعا لا تتعدى بضعة آلاف، يقول إن مبادرة الجبالي هي انقلاب على الشرعية بواسطة حكومة تكنوقراط، فإن السيد عبد الفتاح مورو الذي يقول المقرّبون منه انه ما فتئ يتصيد الفرصة التي تكون فيها «النهضة» التي أسسها فلفظته على شفا التصدع، ليستمرئ تفككها... ذلك ان السيد عبد الفتاح مورو الذي ترشّح في انتخابات 23 أكتوبر 2011 على رأس قائمة مستقلة لينال بعض العشرات من الأصوات... والذي كلما تناول الكلمة في اجتماع او ملتقى شعبي فكريا كان أو سياسيا، إلا وتعرّض الى اعتداء بالعنف، من قبل شباب مشككين في انتمائه وفي أقواله، والذي وجد نفسه كذلك وزيرا بدون ان ينطق اسمه في قائمة الوزراء المقدّمين للتزكية من قبل التأسيسي، ووجد نفسه كذلك نائب رئيس الحركة، وهو الذي وطئت قدماه قاعة معرض الكرم، نصف ساعة بعد انطلاق أشغال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر العلني الأول بتونس، لحركة النهضة، هذا الرقم اذن، وجد نفسه وفي نفس الوقت خارج وداخل معادلة حزب حركة النهضة وحكومة الترويكا، دون شرعية انتخابية ودون سلطة قرار أو مشاركة في صنع القرار، هو نفسه الذي ظهرت خلافاته القديمة الجديدة مع السيد راشد الغنوشي بداية الثمانينات، حين تفصّى من «عنف» حركة أرادها عند التأسيس سياسية مدنية، وهو نفسه الذي انتقد بشدة عملية باب سويقة في بداية التسعينات وهو نفسه كذلك السيد عبد الفتاح مورو الذي بان خلافه مع السيد راشد الغنوشي، منذ عودة هذا الأخير من الخارج في 2011.
أما السيد حمادي الجبالي فهو الذي وبعد أشهر قليلة من الحكم بدأ يلوّح بكسر عصا الطاعة، إن للحركة ككل رغم أنه أمينها العام أو للسلطة الأدبية التي امتلكها السيد راشد الغنوشي...
اليوم يجد الجبالي نفسه أمام أحد أمرين: إمّا أن يتقدم الى الأمام، ويطبقّ وجهة نظره التي لم تعد خافية في الأشهر القليلة الماضية، وخاصة داخل مجلس الشورى حين انقسم المجلس الى فريقين، أحدهما يرى في برنامج الجبالي انقاذا للحركة (حركة النهضة) والثاني ويتزعمه السيد الحبيب اللوز ويرى أن الحركة السياسية التي دخل باسمها ومن أجلها السجن لعقود، يجب أن تكون حركة سياسية دينية، تغيّر ما بالمجتمع ولا تخضع الى شروط الشركاء ولا الحلفاء السياسيين ولا كذلك المعارضين وإما أن يغادر الحكم والحركة إلى غير رجعة.
كل الخلافات التي كانت مكبوتة داخل حركة اعتمدت كغيرها من أحزاب المعارضة، السرية في العمل السياسي مبادئ الانضباط والنضالية سوف تخرج اليوم الى العلن. وهنا علمت «الشروق» من مصادر عليمة بشأن حزب النهضة أن المشكل الآن ليس انقلابا من الجبالي على الشرعية بل هو تصحيح لمسار تقادمت معضلاته منذ كانت النهضة فريقين أحدهما لاجئا بالخارج وثانيهما معذّب في السجون بالداخل.ولكن مصدرنا يقدّر ان خلافات أخرى قد تقع في الأفق، لأن ما يمكن ان يطلق عليه بالخلافات والاختلافات الحادة التي تشقّ النهضة اليوم ليست فقط بين مجموعتي الداخل والخارج بل كذلك هناك تشققات واردة فيها الفكرية ومنها العقائدية وبين هذه وتلك هناك اختلافات سياسية تهم كيفية إدارة الشأن العام.
كثيرون هم الذين علّقوا على مبادرة الجبالي وردّ حركة النهضة عليها بأنه سيناريو الرئيس السوداني عمر البشير مع حسن الترابي... مع فارق ان البشير هو عسكري والجبالي مدني لكن رأينا كيف انه وفي تشكيل رئيس الوزراء التونسي لهيئة الحكماء كيف كان رئيس أركان الجيوش الثلاث، ببزّته العسكرية الى جانب بقية الاسماء ومنها اسم السيد عبد الفتاح مورو..
فقد علمت «الشروق» أن المؤسسة العسكرية التونسية والتي هي مجبولة على الوقوف على نفس المسافة على من يحكم البلاد، عبرت عن تبرّمها إن في خطاب الوزير الزبيدي أو في خطاب قائد أركان الجيوش الثلاث رشيد عمار، من الوضع الأمني الصعب على الحدود وداخل البلاد، وكيف أن حكومة النهضة لم تتصرف بحكمة تجاه بعض مظاهر العنف ودواعي الفتنة كذلك.
ولسائل ان يطرح السؤال التالي: هل دقق السيد حمادي الجبالي حساباته، وهو يدخل هذه التجربة، التي انتصر فيها الى تونسة حكم او سلطة الاسلام السياسي؟ وهل سيقبل الجبالي بالانسحاب من الساحة السياسية، أم تراه سيلج «عهدا جديدا» من حكم الاسلاميين في تونس عن طريق باب ثان يكون حزبا جديدا على طريقة «العدالة والتنمية» لأردوغان في تركيا الذي خلف حزب الفضيلة لنجم الدين أربكان، فيكون الجبالي قد جنّب حكم الاسلاميين، التفكك دون رجعة، والأفول المؤكد إن هو واصل التعاطي «الحكمي» الذي دأبت عليه النهضة منذ انتخابات أكتوبر 2011؟
ثم هل يكون خطاب السيد راشد الغنوشي أمس أمام المتظاهرين في الشارع، بمثابة رصاصة الرحمة، لحزب لطالما تكتّم عن اختلاف أعضائه العميقة وتصدعاته العديدة؟ اليوم، يتجالس أعضاء مجلس الشورى، على وقع الخلافات العلنية، وعلى وقع الاتهامات والاتهامات المضادة..
وهنا لا ينكر أحد مصادرنا ممّن لهم علاقة قوية وتاريخية بشخصيات نافذة في النهضة، أن السيد عبد الفتاح مورو قد يكون أسرّ إلى أحد أصدقائه بمعنى هذا القول: لنتركهم يمسكون بالحكم (السلطة) وسنرى.
ويضيف مصدرنا موضحا ان مورو الذي كان مغتاظا من تصرفات قيادات النهضة تجاهه إن في الانتخابات، حيث أسديت التعليمات بأن لا تصوّت له جماهير وناخبو النهضة، وكذلك عندما سارع الجبالي إلى مهاتفته وقد افتُتحت الجلسة الأولى للتأسيسي وقال له إن لك مكان الوزير في الحكومة!
أضف إلى ذلك أن الخلاف الكبير الذي تدخلت فيه لرأب الصدع بينهما (مورو والغنوشي) جهات إسلامية إقليمية (تركيا وإيران) وشخصيات دولية وإقليمية، وهو خلاف لم يكن يقدر على فهم ملابساته وجزئياته، إلا من كان داخلا أو مرافقا لمراحل نشاط حركة النهضة، نقول إذا إن ذات الخلاف عمّق من الأزمة إلى درجة أن أحد مصادر «الشروق» ممّن عايش قيادات النهضة بالداخل والخارج، جزم بأنه ليس هناك أي عضو داخل النهضة يمكن أن تكون له رغبة في الانفصال والانتقاد، إلا ووجد السيد عبد الفتاح مورو مساندا له، مضيفا أن مورو الذي يعرفه لن يرتاح إلا متى رآها مفكّكة الأوصال.. لما يحسّ به مؤسس حركة الاتجاه الاسلامي من غيظ وغبن..
هذا الرأي الذي قد يكون بعيدا عن الموضوعية وفيه شيء من الانطباعية و«الكاريكاتورية» لا يمكن تركه كله خاصة إذا ما تأملنا قائمة مجلس الحكماء.. فالإسلاميون في ذات المجلس، هم كلهم ضدّ خط النهضة المتطرف.. على أن جميع أعضاء هذه الهيئة (مجلس الحكماء) ودون استثناء، كانوا إلى وقت قريب أو بعيد جاهروا بالنقد لحكومة تسيّر أعمالها مكاتب «مونبليزير» وليس مكاتب القصبة (الأول مقر حركة النهضة، والثاني مقر الحكومة).
بالتأكيد أن حزب حركة النهضة اليوم مختلف عن النهضة بالأمس..
إذ قبل 14 جانفي 2011، كان حزب حركة النهضة كغيره من الأحزاب العقائدية المهيكلة وفق نظرية موريس دي فيرجيه Maurice Duverger الأحزاب الجماهيرية التي ذكرناها آنفا، يعمل بالداخل وبالخارج. ففي الداخل كانت السرية تحتّم عليها الالتزام والنضالية الشديدة والتضحية، أما بخروجها إلى العلن، فإن هذه الأحزاب تتوخى قوانين مختلفة.. ففي حين يجعل العمل السري من قيادات النهضة متحمّلين للمسؤولية القصوى التي تجعلهم يتعاملون برفض حتى مع انفتاح قد توخاه النظامان السابق والأسبق وذلك انطلاقا من تجربتي: انتخاابات 1981 (مع بورقيبة) وانتخابات 1989 (مع بن علي)، بحيث ترفض النهضة كغيرها من الأحزاب المعارضة والعقائدية، حتى مجرّد الالتفات إلى المناصب السياسية، فإنها اليوم وفي فترة تسلم النهضة الحكم أضحت المناصب السياسية غاية حُكمية، يتنافس حولها المتنافسون، ويصل الاختلاف حدّ الانقسام.
حزب حركة النهضة، الذي عانى من انقسامات ومحطات انشقاق متعدّدة، يجد نفسه اليوم وبعد وصوله إلى السلطة على اثر انتخابات شرعية ونزيهة، مهدّدة ليس بالانقسام والتشطير فقط، بل بالازاحة من السلطة ومغادرة الحكم..
هنا، لا بد وان نلتفت قليلا إلى المعطيات الخارجية، ومدى تأثيرها في المشهد الحزبي والحكمي لتونس.. بين ممارسة السلطة والتوق لها، نجد ثمنا لا بد وأن تدفعه جهة بعينها.. ولقد رأينا حلقة جديدة من الفعل السياسي الحزبي في تونس، والذي يذكّرنا بسيناريوهات داخلية وخارجية، قوامها تقسيم المقسّم.. وتشطير المنشطر، أكانت أحزبا أم دولا.. في حلقة أخرى نعود، لإضاءات قد تكشف عنها تفاعلات ال48 ساعة القادمة.