تُرَى ما الذي جناه أعمى «معرة النعمان» كي يُقْطَعَ رأسه ،ويُقْتَلَ رمزيّا في معركة لم يخترها،ولم يكن طرفا فيها لأنّ الزمن لم يسعفه بمعرفة خلفياتها وتداعياتها ؟ ألم يكشف قاطعُ رأسه عن هُويته، وعن إيديولوجيا الموت وقطع الرؤوس التي تحرّكه؟و هل كان يجب قطع رأس تمثال «أبي العلاء المعرّي» كي يثبت صاحب الفعلة أنّه ثوريّ حتى النخاع؟؟ إنّ هذا الثائر الموهوم الذي يوجه سلاحه إلى رمز تاريخيّ متعمّدا اغتيال علامة فارقة في تاريخ أمة العرب التي تاه فيها العقل وأُسْكِنَ السجون والأقبية المظلمة، لا يمكن أن يحظى بالاحترام والتقدير حتى وإن كان يدافع عن قضية عادلة؟ بل إنّ مَنْ يوجّه نار حقده إلى تمثال مسالم يطلّ من كوّة التاريخ ليذكّر بمعاناة من أصيب بداء التفكير في زمن التكفير، يريد أن يستأصل العقل رمزيا ،وأن يكشر عن أنيابه الأيديولوجيّة الرجعية التي تكشف حقده على كلّ ما في هذه الثقافة العربية من نقاط ضوء يمكن أن تبيّن للعالم أنّ العرب ساهموا في نحت العقل البشري ،وتأسيس ثقافة السؤال والجدل الفكري الخلاق..
منذ سنوات، دشّنت حركة «طالبان» حكمها الدمويّ بتفجير التماثيل انتقاما من الفنّ ،ومن التاريخ.ولم يَرْقَ وعي الحاكم بأمره في «أفغانستان» إلى إدراك خطورة جريمته التي اعتدى من خلالها على ثروة إنسانية لا يحق لطرف أن يحتكرها لنفسه،أو أن يسطّر مصيرها.وأين الغرابة في الأمر مادام قائد الجماعة ينظر إلى العالم بعين واحدة لا تستطيع أن تبصر كلّ النور في السواد المحدق بها!!!
و في العراق أقدم النظام الطائفي على جريمة شنيعة لا تقلّ همجيّة وضربا لكلّ ما هو جماليّ فنّيّ إذ حطّم كثيرا من كنوز العراق من التماثيل، وأتلف الرسومات والجداريات بتعلّة أنها ترمز إلى عهد صدّام. ولم يتعامل مع الحجر والألوان على أنها إبداع إنساني يجب أن يخلّد حتى وإن أشرف على تركيزه وتثبيته حاكم ديكتاتور. وفي المقابل، أتى ثوار فرنسا الرافضون للملكيّة مما عزّز أمل الفرنسيين في زوال الظلم بلا رجعة . فقد ذهب حكم الملوك. وزال ظلمهم وجورهم. ولم تبق إلا قصورهم ومنتزهاتهم. ذلك أنّ الجمهورية القائمة على أنقاض حكمهم لم تبع القصور حقدا وشماتة، ولم تهدمها لأنها بكلّ بساطة ترمز إلى حقبة تاريخية لا تريد الذاكرة الجمهورية أن تتجاوزها بالإلغاء والتهديم بل بإشاعة قيم العدل والحرية والمساواة.وتجاوزت فرنسا ماضيها الحزين بحكمة مجموعة من السياسيين آثروا النظر إلى المستقبل وما يعد به من خير، على العودة إلى الماضي وما يمكن أن يفتحه من جراح.
إنّ جريمة قطع رأس تمثال «أبي العلاء» لا تبشّر بخير يمكن أن يأتي على يد هذا «الثوريّ» المزعوم الذي يحمل حقدا دفينا على كلّ ما هو فنّي جماليّ. فثقافة القتل الساكنة في قلبه التي تحوّلت إلى قناعة هي معادية للإنسان وللحياة. والأكيد أنّ مَنْ تجرّأ على قطع رأس تمثال لا يمكن أن يتورّع عن قتل رؤوس كلّ معارضيه. فهل أنّ السوريين الغاضبين لا يريدون في النهاية إلا تغيير «هويّة» الجلّاد مع المحافظة على أفعاله وطريقته في الحكم!!!...
وأيُّ فرق بين مَنْ عمد إلى تمثال يقطع رأسه، وبين مَنْ ترصّد «شكري بلعيد» ليقتله أمام منزله بدم بارد ؟؟؟ ...كلاهما يغتال العقل، ويسجن الحوار والجدل الخصب في أقبية السجون والموت،ويرفض الاختلاف الخصب والتعايش الخلّاق.. أما آن لهذه الأمّة الشريدة أن تعطّل عمل سيوف الغدر وآلات القتل لتفعّل صحوة العقل التي بشّر بها أبو العلاء المعرّي، والتقطها الحكماء في أراض بعيدة ليرسموا طريق العلم والحضارة الشاهد على قدرة الإنسان-متى أراد-على تخصيب الحياة؟