اغتيال الشهيد شكري بلعيد كان زلزالا تمنى او توقع البعض ان يعصف بتونس ، ويزج بها في دوامة الفوضى والفراغ خاصة بعد إعلان رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي مبادرته بتشكيل حكومة تكنوقراط، ورفضها من طرف حزبه حركة النهضة. كثيرون توقعوا - وربما رغبوا- في ان يتحول مسلسل التحوير الوزاري والتشويق السياسي الى أزمة خانقة، تنتهي بحل المؤسسات القائمة وإلغاء شرعية انتخابات 23 أكتوبر وتعليق مسار الانتقال الديمقراطي والعودة الى مربع الصفر، ولكن « الدرس التونسي» فرض نفسه على العالم مرة أخرى والثورة التي أثمرت الربيع العربي عرفت كيف تحمي نفسها من الفشل والفوضى. الشعب التونسي أبهر العالم بانضباطه وشجاعته وتماسكه في وجه المخاوف وأشباح الفوضى المطلة برأسها من أكثر من مكان ، كما ان النخبة السياسية تعاملت بإيجابية مع صدمة الفراغ وأظهرت قدرا كبيرا من المسؤولية وضبط النفس وتغليب المصلحة العليا للبلاد.
مؤسسات الدولة وخاصة مؤسستي الامن والجيش أظهرت أنها جمهورية بالفعل وأنها ملتزمة بإنجاح المسار ومواصلته في هدوء واستقرار ، والقوى الخارجية أثبتت ان التوازنات العالمية الجديدة باتت تقرأ ألف حساب للشعوب وحقها في تحديد مصيرها وأن صفحة التدخلات الخارجية للإطاحة بهذا او دعم ذاك قد تكون طويت نهائيا او في طريقها لذلك.
كما ان مبادرة الجبالي ومقترحه وما قبله من مقترحات وتصورات واقدام الرجل على الاستقالة من اهم موقع في الحكم والسلطة وما تبعها من جدل ورؤى مختلفة والطريقة التي عالج بها الحزب الاغلبي القضايا والملفات المطروحة وما رافقها من تشويق وانتظارية وقراءات قانونية ودستورية كلها مؤشرات عن شيء جديد تعيشه البلاد لاول مرة على مر تاريخها. لكن ..
هل يعني ذلك ان المشهد وردي مائة بالمائة ؟ هل يعني ذلك أننا تجاوزنا مرحلة القلق بل لنقل الخطر؟ هل يعني ذلك ان المخاطر زالت وأن المتربصين بتونس وثورتها قد يئسوا من تحقيق أهدافهم؟.
لا أعتقد ذلك صراحة ، ولكن المطلوب ليس التوجس او التردد ، او الاستغراق في حسابات الربح والخسارة والبحث عن «الغنائم السهلة» ، بل ان تستفيد كل الاطراف وخاصة الفاعلين السياسيين والاجتماعيين من « الدرس التونسي» وتبني عليه وفاقا حقيقيا أساسه تشخيص الأخطاء التي قادتنا للوضع الراهن وتعرية منظومة الفشل التي ضربت البلاد خلال الفترة الماضية وكادت تعطل مسار تجربة الانتقال الديمقراطي، واستثمار نقاط القوة في العقل التونسي لتكون أزمة الأسابيع الماضية خلاقة بالفعل. كلمة السر التي يجب على الجميع ان يرددها اليوم هي ضرورة الخروج السريع من حلقة الحسابات الخاطئة والأحقاد والتخوين والتجييش والتجييش المضاد وتذهب البلد راسا في اتجاه مصالحة شجاعة لا تضيع حقوق الضحايا ولا تحمي من أجرم في حق تونس وشعبها.
ليس من المعقول ان تبقى بلادنا رهينة بعض الإرادات المتشنجة او الشعارات الفوضوية الانتقامية،ليس من المعقول ايضا أن يعطل مسار المحاسبة ضرورة المصالحة وتنقية الأجواء ورفع المظالم التي وقعت قبل الثورة وبعدها.
تونس تحتاج اليوم، داخل الاغلبية الحاكمة وفي المعارضة وفي المجتمع المدني ، المزيد من أصوات الحكمة والتهدئة والعقلانية والتسامح حتى لا يغرق الدرس التونسي في التجاذبات والصراعات وتصفية الحسابات التي لا تخدم إلا مصلحة أعداء الثورة والمتربصين بتونس وشعبها.