من تبعات العمل الصحفيّ الناجح أن يطغى على صورة ممارسيه فإذا هم صحفيّون أوّلاً وأخيرًا مهما كتبوا من رواية أو شعر أو مسرح. وهو ما يصحّ كثيرًا أو قليلاً في شأن إبراهيم عيسى الصحفيّ المصري البارز الذي تولّى رئاسة تحرير أكثر من صحيفة، وقدّم برامج تلفزيونيّة عرفت جماهيريّة واسعة بسبب مهنيّته وأسلوبه الساخر، وكذلك بسبب جرأته في مُعارضته السياسيّة التي عرّضته أكثر من مرّة إلى أحكام متتالية بالتغريم والمصادرة والسجن. اختطف هذا النشاط الصحفيّ والسياسيّ الأضواء وقد يكون احتكر النصيب الأكبر من جهد صاحبه. وأيًّا كان الأمر فإنّه غطّى نوعًا ما على العديد من مؤلّفات الرجل: مريم التجلّى الأخير/ صار بعيدا/ أفكار مهددة بالقتل / العراة / دم على نهد / فى وصف من يمكن تسميتها الحبيبة / مقتل الرجل الكبير.. لكنّ الأمر قد يتغيّر، وقد يتقدّم الروائيّ فيه على الجوانب الأُخرى بعد روايته الأحدث: مولانا «منشورات بلومزبري»2012.
تستمد هذه الرواية بُنيتها الفنيّة ونسيجها السرديّ وطرافتها الأسلوبيّة من ملامح شخصيّتها الرئيسيّة الشيخ حاتم الشناوي أو مولانا، خرّيج الأزهر الذي بدأ واعظًا بأحد المساجد ثمّ أصبح نجمًا تلفزيونيًّا يردّ على أسئلة المشاهدات والمشاهدين ويوزّع الفتاوى على طريقة الشيوخ نجوم فضائيّات الإفتاء.
ومن خلال هذه الشخصيّة يصوّر لنا الكاتبُ مصر في الثلاثين سنة الماضية.. بما شهدته من استبداد وفساد طال المنظومة السياسيّة والإعلاميّة والدينيّة والاجتماعيّة.. وبما واجهته من ظواهر، بدايةً من أعباء الطغيان والقهر، مرورًا بمسألة الأقباط ومسألة التنصير والتوظيف الدينيّ، وصولاً إلى واقع الفقر والجهل والتهميش وانهيار القيم. وفي هذه الرواية بعد معرفيّ، غلب على ما يقارب نصفها الأوّل، حضر فيه التراث والفقه وعلماء الكلام ورواة الحديث النبوي، وهو حضور مرّ بسلاسة لأنّ طبيعة الشخصيّة الرئيسيّة جعلت هذه المعارف جزءًا من الحكاية، ولم تكن عبءا ثقيلا على السرد ولم تكن مقحمة على البناء الروائيّ.
وبنفس هذه السلاسة يسجّل النصف الثاني من الرواية حضورًا أكبر لحبكة قريبة من حبكة الرواية البوليسيّة أو رواية الجوسسة حيث يجابه مولانا محنة المرأة وألعاب الكواليس والمخابرات وما تستحضره من تيمات كالتعذيب والإرهاب، دون أن يشعر القارئ بأيّ تصنّع، فلكلّ ما يحدث بذوره ومقدّماته.
صيغت الرواية بسرديّة انسيابيّة، وجدت ما يدعمها في استعمال ال«فلاش باك» بحساب لا يربك القارئ، كما وجدت ما يدعمها في تخلّي الكاتب عن الفصول لفائدة فقرات طويلة، تسمح بتسلسل الأحداث دون تعقيد، مع الكثير من الشدّ والتشويق اللذين جعلا الرواية شديدة الإمتاع على الرغم من طولها.
غلب على الرواية أسلوب ساخر مُحبّب مألوف في أعمال الكاتب لكنّه هنا شديد الالتصاق بطبيعة الشخصيّة الرئيسيّة، ومستمدّ منها. وهو ما يصحّ في شأن اللغة أيضًا، فاللغة في هذه الرواية ترطن وتتفاصح، تمامًا كما هو شأن لغة الدعاة في الفضائيّات، من ثمّ أصبحت لغة مطابقة للسرد نابعة منه واستمدّت وحدتها وتناغمها التامّ داخل النسيج الروائيّ.
احتفت الرواية بعدد كبير من الشخصيّات القويّة ذات الحضور المؤثّر. وقد تعدّدت بتعدّدها الأماكن وزوايا النظر ممّا مكّن الكاتب من تقديم صورة مكثّفة عن الحقبة التي أراد تصويرها.
إلاّ أنّ من أهمّ ما نجح فيه الكاتب في نظري، بناءُ شخصيّة بطل الرواية وحامل عنوانها، بحرفيّة روائيّة وبكثافة سيكولوجيّة عالية، بعيدًا عن القوالب الجاهزة والأهجيات المانويّة، فإذا نحن أمام بشر من لحم ودم وتناقضات، يختلف عنّا بقدر ما يشبهنا ويشبهنا بقدر ما يختلف عنّا، يمارس خياراته مضطرًّا حينًا ويذهب إلى الضرورات مختارًا أحيانًا، تمامًا مثل الكثيرين، ولكن مع شيء من المسافة واللعب، وكأنّه لا يحمّل الأمر فوق طاقته من الجدّ، وهو ما جعل من مولانا شخصيّة روائيّة حيّة، غير نمطيّة، قادرة على الرسوخ في الذاكرة.