سألني صاحبي بين ضحكتين: هل أصبح تشكيلُ الحُكومات أصعب من تشكيل الحَسْناوات؟ في البداية استغربتُ السؤال، إلاّ أنّي فهمتُهُ ما أن تذكّرتُ سلوك جماعةِ السياسةِ طيلة الأشهر الفائتة، هذا يتبغدد ويتغنّج ويتدلّل وذاك يغمز ويبصبص ويراود.. إلى آخر ما يحدث في ساحات الوغى التشكيليّ!!
ثمّ استبعدتُ الصلة بين تشكيل الحكومات وتشكيل البنات لأسباب لغويّة، لكنّ اللغة سرعان ما كذّبتني! يُقالُ في العربيّة المُشاكَلَةُ هي المُوافَقَة، وشَكّلَ الدَّابَّةَ شَدَّ قَوائِمَهَا بِالشِّكَالِ، وتَشَكَّلَتِ الْمَرْأَةُ تَدَلَّلَتْ. ولعلّ دارجتنا التونسيّة قد استعارت هذه المعاني كلّها لتستنبط عبارة «التشكيل» في سياقها الدارج، بما تعنيه من فنّ المُغازلة وشَدِّ البَنَاتِ بشِكالٍ رمزيّ!!
قال القُدامَى في فنّ «التشكيل» قبل أن تظهر العبارة الدالّة عليه: «وكان أحدُنا لا يبلُغُ فتاتَه إلاّ بعد السفر والنظر والتنهيد والتسهيد فإذا التقيا في الحلال لم يقع اللحم على اللحم إلاّ بعد طُول المداعبة والملاعبة.. أمّا اليوم فما أن يعقد أحدهم على إحداهنّ حتى يبطحها كأنّه طالب ثأر»!!
قد يظنّ البعض أنّ القُدامى كتبوا هذا الكلام منذ قرون أيّامَ كان البطءُ سيِّدَ الإيقاع.. وأنّ ما استنكروه على «مُشَكِّلِي» عصرهم من سرعة في الإنجاز والمُعالجة قد يجوزُ لأهل عصرنا هذا، عصر السرعة بامتياز! وهو ظنٌّ يُجانبُ الصواب لأنّ قواعد فنّ التشكيل لم يطلها التغيير!
لذلك يا سادة يا مادة لا تطلبوا من أصحاب السيادة أن يجنحوا إلى العجَلةِ في تشكيل الحكومة.. فلابدّ للتشكيل من توضيح المُشكِلات، وترويض النافرات، والطبطبة على من يتمنّعن وهنّ الراغبات، إلى آخر المسلسل!!
وقد يكون أحمد شوقي أفضل من عبّر عن مراحل فنّ تشكيل الحكومات بقوله:
«نظرةٌ فابتسامة فسلامٌ فكلامٌ فموعد فلقاء»! أمّا النظرة في سياق تشكيل الحكومات فهي تعني أنا هنا، وأنا أطلبُ الوصال، فانتبهوا إليّ رجاءً. ومن خصوصيّات المرحلة أن يتمّ إرسال هذه النظرة عن طريق التلفزيون أو ال«فايس بوك»، فهُما «يُوزِّران» قبل الأحزاب أحيانًا!!
وأمّا الابتسامة فهي تعني أنا معك وضدّ من ليس معك، وأنا أوافقك على طول، وأقف شوكةً في حلقِ كلّ من لا يُوافقك. ومن الأفضل أن تكون هذه الابتسامة من النوع «الجوتابل» لاستبدالها بالتكشيرة عند الحاجة!!
وأمّا السلام فهو يعني في تشكيل الحكومات التسليم بالأمر لصاحبه. وهو شبيهٌ بما يحدث بين الحيوانات حين يستلقي أحدها على ظهره مستسلِمًا للأقوى! وأمّا الكلامُ فهو يعني في تشكيل الحكومات الاتّفاق على ثمن الصفقة! إذ ليس في قاموس التشكيل الحكوميّ عبارات من نوع يا حبيبي وأحبّك وأموت فيك وما لفّ لفّها من عبارات الغرام. إن هما إلاّ عبارتان: ماذا تبيع؟ وكم تدفع؟
وأمّا الموعد واللقاء فهما يعنيان في التشكيل الحكوميّ إشهار الزواج وفق عقد النكاح! مع اختصاص الزواج الحكوميّ بأنّ الملاحظ يحتاج أحيانًا إلى بعض الجهد كي يعرف مَنِ العروسُ ومَنِ العريسُ ومن أبْلَهُ العرس!!
وبعدُ فهذا نزْرٌ قليل ممّا خطر لي في باب فنّ التشكيل! وللتشكيل الحكوميّ تحديدًا أدبيّات كثيرة مجهولة، بعضها تمّ إتلافُه، وبعضُها يتمّ التكتّم عليه. وإذا كان في قرّائي من يطلُب المزيد فإنّي أنصحه بقراءة ديوان ابنِ كُرْسَوَيْه. وقد عُرف بمعارضته قصيدة أحمد شوقي «خدعوها بقولهم حسناءُ..» قائلاً: خدعوهم بقولِهم وزراءُ.. والوزاراتُ كذْبة خرْقاءُ
سلعةٌ فابتسامة فنِفاق.. فاتّفاقٌ فبيعةٌ فشِراءُ كما أنصح القارئ المستزيد بالاطّلاع على الأعمال الكاملة لربيع بن ثورة العربيّ. وفيها يلمّحُ إلى تلك القصيدة المُغنّاة «قل للمليحة في الخمار الأسودِ»، بقولِه:
قُلْ للحُكومةِ في الخِمارِ المُفْزِعِ ماذا فعلتِ بشعْبِكِ المُتَوجِّعِ قد كانَ شمّرَ للحياةِ حياتَهُ حتى طَلَعْتِ لَهُ طُلُوعَ البُعْبُعِ فسلَبْتِهِ أَحْلاَمَهُ وسَلامَهُ وحَكَمْتِهِ حُكْمَ السَّفيهِ المُدَّعِي