يحفل المشهد التونسيّ في المدّة الأخيرة بالكثير من الصُّوَر والأحداث والتصريحات التي تُذكّرُ مباشرةً بمسرح العبث، الذي صوّرَ لنا الإنسان تائهًا في العالم، حيث لا معنى لشيء ولا جدوى لفعل ولا استقامة لمنطق! لكنّ الفارقٍ كبير: فلا شيء من «الفنّ» في عبثيّة المشهد السياسيّ التونسيّ، ولا أثر لتلك الرؤى والجماليّات التي ساهمت في تخليد أعمال مثل «المُغنيّة الصلعاء» لأوجين يونسكو (1951) و«في انتظار غودو» لصامويل بيكيت (1952). لنتوقّف عند زيارة الدكتورة نوال السعداوي إلى تونس!
كادت هذه الزيارة تخفَى على الجميع وقد يجوز الزعمُ أنّها مرّت بشكلٍ شبْهِ سرّيّ لولا قيامُ فخامة رئيس جمهوريّتنا المؤقّت بتكريمها على مسيرتها النضاليّة دفاعًا عن حقوق المرأة.. ولولا تطوُّعُ أحدهم بالهجوم عليها في الجريدة الناطقة باسم الحزب الحاكم بدعوى أنّها داعيةٌ للدعارة والشذوذ الجنسيّ! فإمّا أنّ المقال صادقٌ وإمّا أنّه كاذب! إمّا أنّ الدعوى ثابتة ممّا يضع الرئاسة في موضع التشجيع على الدعارة والشذوذ الجنسيّ! وإمّا أنّ الدعوى باطلة ممّا يضع الجريدة الناطقة باسم الحزب الحاكم في موقع المدّعي بالباطل!
إلاّ إذا صحَّ الأمران!!
أي أن تكون الحقوقيّةُ المصريّةُ الشيءَ ونقيضَه: مُناضلة تدافع عن حقوق المرأة وكرامتها وداعيةً في الوقت نفسه إلى الدعارة والشذوذ الجنسيّ!! وهو ما ينسف نسْفًا أحد المبادئ التي تزهو باكتشافها الفلسفة اليونانيّة أعني مبدأ «الثالث المرفوع»، في غير ما إحالةٍ على ما جاء به أحدُ أساتذتنا من «تخميس» وتلك قصّة أُخرى.. فأيّ منطق هذا وأيّ عبث؟! لنتوقّف مثلاً عند تحوير الحكومة.
كانت الحكومة السابقة صاحبة الأكثريّة لكنّها فهمت (أو هكذا شُبّه لبعضهم) أنّ شرعيّتها العدديّة غير كافية فأرادت التوسّع لتحصين شرعيّتها العدديّة بشرعيّة توافقية!
لم يتمّ ذلك طبعًا بل تقلّصت قاعدتها وتمّ في أفضل الأحوال إعادةُ الأكثريّة تشكيلَ نفسِها مع المؤلّفة قلوبهم والتصويت لنفسها بنفسها وتهنئةَ نفسِها على النجاح ضدّ نفسِها!! فأين الانتصار في ذلك؟ ولماذا هذه الزفّة التي لا ينقصها إلاّ الزغاريد وحلويّات العيد؟!
قد تبدو هذه «الغريبة» هيّنةً بالمُقارنة مع أُختها التي تتعلّقُ بما صدر من ردود فعل بعد حادثة أليمة أعادت إلى الأذهان بؤس الوضع الذي نحن فيه.. أعني حادثة إقدام الشاب عادل الخزري على إحراق نفسه في شارع الحبيب بورقيبة قبل بضعة أيّام.. مضيفًا حلقةً أخرى إلى سلسلة شبابنا المأسوف عليه! فجأةً انبثق ذهن «الشيخ» عن حكمة تقول إنّ هؤلاء الشبّان لم يضطرّوا إلى ما اضطرّوا إليه بسبب مُعاناتهم وأوضاعهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة المتردّية بينما حُكّامُهم مُنشغلون بالمحاصصة وتأمين البقاء في الحُكم! بل أقدموا على ما أقدموا عليه بسبب الإعلام! أي نعم! الإعلام الذي صوّر لهم الوضع تصويرًا يدفع إلى اليأس!!
يعرفُ الشيخُ طبْعًا وهو مَنْ هو حكمةً وحنْكةً أنّ مِثْلَ هذا المواطنِ قد لا يُتابِعُ الإعلام أصلاً في خضمّ صراعه من أجل لقمة لا يجدُها. وأنّ مثْلَ هذا المُواطن لا يحتاجُ إلى الإعلام كي يشعر بأنّ تحت قدميه نارًا حامية؟ فما الحكمةُ من هذا الكلام إذنْ؟
الجوابُ بسيط:
دعوةُ الإعلام إلى تصوير الواقع بشكلٍ يدفع إلى الأمل والتفاؤل والإحساس بالبحبوحة ورغَد العيش وفرحة الحياة! وإذا لم يكن هذا الواقع موجودًا فلابدّ من اختراعه! أمّا إذا تمَّ اختراعُ هذا الواقع دون أن يشعر أصحابُ المُعاناة بأنّ مُعاناتهم خفَّتْ حقًّا، فَلْيَحْتَرِقُوا.. المُهِمُّ أن يحترقوا بعيدًا عن عيون الإعلام!!
أيّ منطقٍ هذا وأيّ عبث؟!
بل أيُّ مَسْرَحةٍ هذه للعبث في ساحتنا السياسيّة، حيث يكادُ التواصل ينعدم وتكادُ اللغة تتعطّل ويكادُ المنطقُ يلتبسُ بالعوَجِ نفسِه وتكادُ النفوسُ تُختزلُ في بيادق تُحَرَّكُ على رُقعة الشطرنج السياسيّ بأيْدٍ باردة لا صلة لها بالرحمة؟! ألا يعلم بعضُ هؤلاء أنّ في مثل هذا المسرح السياسواتيّ العابث ما يدفع إلى الشعور بالإحباط واليأس والرغبة في إحراق الذات أكثر ممّا يفعل الواقعُ المريرُ نفسُه؟!