لم يكن من السهل على التونسيين تلقي التهديد بالقتل بشكل مباشر في برنامج التاسعة مساء ليلة استضافة «ابو زيد» العائد من سوريا ابو زيد التونسي. أبو زيد لم يتردّد في القول إنّ الجهاديين مستعدون للعودة لتونس والقتال فيها وتحويلها الى أرض للجهاد إذا صوّت التونسيين للعلمانيين في الانتخابات القادمة. تصريح مرّ مرور الكرام دون أيّ تحرّك رسمي من الحكومة أو النيابة العموميّة.
هذا التصريح وغيره من التصاريح المشابهة المهددة بالعنف بهدف فرض الرأي الواحد واللون الواحد بالإضافة الى تواتر أحداث العنف والتهديدات جعلت متابعين للشأن السياسي في تونس يقرّون بواقعيّة الصعوبات والمخاطر التي باتت تهدّد مدنيّة الدولة في تونس.
الحفاظ على الحرية دون وصاية
يقول المحلل السياسي والخبير في القانون الدستوري قيس سعيد إنّنا لا نقول دولة مدنيّة بل نقول حكومة مدنيّة: «لأنّ الدولة ذات معنويّة ليس لها دين أمّا الحكومة المدنيّة فهي من تتولى ادارة شؤون البلاد بناء على قانون ودستور في المقام الاول يحفظ الحريات».
ويؤكّد سعيّد أنّ الحفاظ على الحريّة هي المقدمة الأولى لأيّ حكومة مدنيّة ، ويضيف: «لا يجب أن تنصّب الدولة نفسها وصيّة على أيّ كان في اختياراته الشخصيّة المتصلة بحرية المعتقد وهذه هي الضمانة الاولى لما يسمى بالدولة المدنية».
وحول جدّية التهديدات التي باتت تواجهها مدنية الدولة في تونس يقول سعيد إنّ «الصراع مستمر وأعتقد أنّه صراع مسقط على المجتمع التونسي لأنّ هذه القضايا محسومة في تونس منذ عقود وللأسف تمّ افتعالها واسقاطها على التونسيين بهدف تقسيمهم الى نصفين. فقضايا الاحوال الشخصية محسومة ولم يطرح أحد تعديلها لكن هناك من اعتقد ان الفرصة متاحة له لتمرير مشروعه».
وكان سعيّد قد اقترح منذ حوالي سنة وضع اعلان تونسي لحقوق الانسان يتم عرضه على الاستفتاء ويكون في مرتبة أعلى من الدستور فيحسم بشكل نهائي في جميع القضايا حتى لا تبقى موضوعا للصراع بين الأطراف السياسيّة كلّما اتيحت لها الفرصة.
التداخل بين السلطة الدينية والسياسية
من جهته قال ماهر حنين عضو المكتب التنفيذي للحزب الجمهوري إنّ أبرز التهديدات التي تواجهها مدنيّة الدولة هي قناعات من هم في السلطة. «هؤلاء يؤمنون بالتداخل بين السلطة الدينية والسياسية وهؤلاء يوظفون المساجد للقيام بالدعاية السياسية وهؤلاء يمارسون العنف ويضغطون على القوى المدنيّة لاخراجها من العمل السياسي وبهدف اضعاف القوى المدنيّة والعلمانيّة».
موقف آخر مشابه أطلقه أمين عام الحزب الاشتراكي محمد الكيلاني وهو يقول إنّ «السلطة القائمة هي المعيق الرئيسي لمدنية الدولة فهي انحرفت بمسار الانتقال الديمقراطي».
تغيير أسس الدولة
يتهم الكيلاني أيضا نوّاب الأغلبيّة في التأسيسي بمحاولة تغيير الاسس والمبادئ التي تقوم عليها الدولة التونسية وأولها كتابة دستور تتناقض مبادئه ومقدمته مع النمط المجتمعي التونسي وللمنظومة الكونية لحقوق الانسان. «هؤلاء هم من خلقوا المعوقات وهم من يقودون الدولة بالارتكاز على المنظومة السياسية الديكتاتورية السابقة من خلال المزج بين الاجهزة الحزبية والاجهزة الاداريّة» على حد قوله.
ويقرّ محمد الكيلاني بأنّ الأمن الوطني بعد أن كان يعيش ارهاصات تحوّل الى أداة استبداد جديدة بدل التحول الى أمن جمهوري. يقول أيضا إنّ المنعرج حصل منذ 9 افريل 2012 وهو تاريخ الانحراف الصريح عن الانتقال الديمقراطي. ثمّ تلت هذا الحدث أحداثا أخرى كبرى مثل الاغتيال السياسي – اغتيال منسق نداء تونس لطفي نقض في تطاوين يوم 18 أكتوبر 2012 إثر مظاهرة نظمتها رابطة حماية الثورة بالجهة لإخراجه من قيادة الاتحاد الجهوي للفلاحين واغتيال امين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد شكري بلعيد صباح 6 فيفري الماضي رميا بالرصاص امام منزله – واستخدام الرش لتفريق المحتجين في سليانة والاعتداء على مقر المركزية النقابية بتاريخ 4 ديسمبر 2012 وغيرها من الاحداث.
ويقرّ الكيلاني بأنّ الحكومة الحالية غير قادرة على تغيير المسار واصلاحه باعتبارها مواصلة لحكومة الجبالي السابقة كما أن رئيس الحكومة العريض عضو في المكتب السياسي للحركة على حد قوله.
يضيف «باستثناء وزارات السيادة تظلّ بقية الوزارات خاضعة للمحاصصة الحزبية نحن لم نخرج من المشهد القديم ولا يمكن للحكومة أن تأتي بالجديد لذلك انا لا أترقّب شيئا من حكومة العريّض».
لم يكتف محمد الكيلاني بانتقاد الحكومة بل صوّب أيضا سهم انتقاداته للمعارضة قائلا «المعارضة عاجزة الى حدّ الآن عن الخروج من دائرة النقد السلبي لأنها لم تتقدّم ببرنامج موحّد». يقول أيضا إنّ الوضع الراهن تتحمل جزء من مسؤوليته المعارضة لأنّ رهاناتها تظلّ حزبيّة الى حدّ الآن وليست رهانات وطنيّة.
ضعف الإرادة السياسية
وكانت القاضية كلثوم كنو قد صرّحت مؤخرا في ندوة انعقدت بولاية سيدي بوزيد حول مدنية الدولة أنّ ضعف الإرادة السياسية خلق معوقات لا يمكن تجاوزها بسهولة لإصلاح القضاء. كما قالت كنو رئيسة جمعية القضاة إنّه تمّ المساس بجوهر العدالة الانتقالية المتمثل في تداخل السلط والإعفاءات الجائرة لعديد القضاة باعتماد آلية مدمرة استعملت فيها الأغراض و الإيديولوجيات الشخصية وذلك من أجل التغطية على القضاة الفاسدين وإجهاض المشروع.
في نفس الندوة تحدّث الخبير الاقتصادي ووزير المالية السابق حسين الديماسي ليقول إنّه لا بدّ من «اليقظة والتصدي لكل التجاوزات التي تحصل من حين لآخر» مشيرا الى «تباعد الفئات الاجتماعية عن بعضها البعض و تآكل الطبقة الوسطى و هذا ما يسهم في قطع دابر الديمقراطية على حد قوله بالغوص في القضايا الجانبية وإهمال القضايا الحقيقية بسبب ما أسماه بالانفتاح على الرأسمالية المتوحشة و الجباية و قضية الدعم و احتداد المضاربة بمختلف أشكالها و انكسار سلم الرقي الاجتماعي».