(شاعر من سوريا) وجه شارون وأعماله المجرمة يملأن شاشات تلفزيونات هذه الأيام.. وكلما هجم عليّ هذا الوجه الوقح عادت إلى ذاكرتي أيام حصار بيروت ومرارة الأيام التي أسفرت عن مذبحة صبرا وشاتيلا في ذلك الصيف الذي لا ينسى من سنة 1982، وتحديدا الصباح الفاجع الذي اكتشفنا نحن المقيمين في بيروت مع طلوع شمسه الفائحة برائحة البارود وقوع المذبحة.. الواضح أننا لا نزال نعيش اليوم فصولا تتصل بتلك الأيام، الضحايا أنفسهم والمجرمون أنفسهم.. فهل نحتاج إلى مناسبة لاستعادة تلك الأيام الدامية في بيروت؟ في ذلك الصباح مضى الشاب الذي كنت إلى موعد مع صديقة إيطالية تعمل مصورة في الأسوشيتد برس، وبباب فندق الكومودور حيث كان الموعد، وصل مراسل عسكري «اسرائيلي» وقال لمعارفه من الصحافيين اليابانيين ان في المخيمات مذابح مروعة ترتكب منذ ثلاثة أيام وأربع ليال، ومن دون توقف. من هناك انطلقنا أنا وباولا كروتشياني نحو المخيم نريد دخوله من جهة المدينة الرياضية، فسمح لها الضابط «الاسرائيلي» بالدخول وردني. كنت أعرف طريقا أخرى، فسلكتها ووجدت نفسي في زقاق يسمونها نزلة فتح. منذ سنوات وأنا أحاول تدوين وقائع مما رأيت، وفي كلّ مرّة كنت أفشل، ربما بسبب اعتقاد بأن الكلمات أفشل من أن تنقل الصور الفاجعة، فلتبق الصور، إذن، في شريطها الأسود. أما وقد اخترت، اليوم، أن أكتب عن الشاب الذي كنت من خلال ذلك الحادث، فلم يعد أمامي إلا أن أقتطف من مدونتي الشخصية سطورا من قصاصة. *** لا أذكر الآن كم مرّ عليّ في قعودي الذاهل في نزلة فتح المشرفة على شارع صبرا، كنت كمن يجلس في يوم قيامة لم تسبقه مقدمات تنبئ به. كانت حالتي مزيجا من استثارة شعورية قصوى وتهالك جسدي، لا يشبهه إلا ما كان يتسبب لنا به فزع الطفل من عواقب تفوق قدرته على الاحتمال. خبرت هذا الشعور في أوقات من طفولتي. أفقت من هذه الحال على صلية رصاص في جهة لم أتمكن من تحديدها، تلتها طلقات متباعدة لعلها كانت من مسدس. خيل إليّ ان أحدا من الفلسطينيين ما يزال يقاوم، وأن آخر كان يجهز على شخص ما يزال حيا. إذ ذاك شعرت أنني دفعت بنفسي في تجربة لن يكون في وسعي التنبؤ بنتائجها، ولم أعد أجرؤ على مغادرة مكاني. شلل نفسي واستسلام جسدي إلى الموضع الذي لبثت فيه وشعور فاجع. لا أستطيع أن أتابع المضي في المخيم، وبي خوف وتوجس شديدان من فكرة العودة. ربما كانت ساعة مرت أو أكثر غرقت خلالها في تداعيات حملتني إلى حوادث كثيرة شهدتها في حياتي، حوادث قديمة كان جلها يتصل بالشعور بالخطر، أو وقوع الموت. تذكرت طفلا صغيرا كان أهله يقطنون في جوار بيت أهلي في دمشق، لم يكن تجاوز الخامسة من عمره عندما مضى به صبية آخرون إلى النهر حيث حواكير الصبار، وبينما رجعوا هم إلى بيوتهم، واستحموا وناموا كان طفل الخامسة يرقد في قاع النهر ووالداه يطوفان المدينة بحثا عنه. لم يروعني موت في الطفولة كما روعني موت هذا الطفل. كنت أكبره بست سنوات على الأقل. لكن كم كان عمر الطفولة الممددة ورائي الآن؟ لم أتمكن من المتابعة على هذا النحو لأن ضجة أصوات بعيدة، لكنها واضحة، انبعثت من أقصى الشارع ورائي ودبت في حياة ما. راحت الأصوات تقترب، وصرت أتميز فيها عويلا وصراخا، وسرعان ما تبين لي أن كل هذه الضجة مصدرها امرأة يمسك بثيابها صبي صغير ويصرخ عليا شخص من مكان أبعد في أقصى الشارع، لم أتبين هويته، لكن الواضح ان المرأة التي مرت بي ولم يلفتها وجودي في شيء، والتي مزقت أكثر شعرها أو مزقه لها أحد، وذهلت عن الصبي شبه العاري الذي راح يتمسك بها، الواضح ان هذه المرأة تركت وراءها ما لم يبق فيها عقلا. كانت تنوح وتلطم بوهن ووجهها غارق في الدم حتى رقبتها. *** لن يكون في وسعي أن أصف الدافع ولا القوة التي سرت في ولا قدرة لي الآن على تحديدها أكانت أخلاقية، أم روحية، أم محض جسدية، ولا ان كانت وليدة الخوف أم المهانة، أم الغضب، أم التهور. كان ما يزال في وسعي من مكاني الذي استعددت لمغادرته أن أرى جثتي الطفلة والشيخ اللذين قتلا وقذف بهما إلى عرض الشارع مقابل صناديق خشبية كثيرة تبعثرت وكانت قبلا تشغل مكانها في مدخل دار السينما المقفلة منذ سنوات. لقد ألفت وجودهما على حالهما من دون أن أعود فأتأكد ما إذا كان المشهد الذي رأيت حقيقيا. شيء عميق فيّ كان يكافح لاستيعاب الأمر. هل كانت حواسي طوال الفترة التي قضيتها قريبا من الجثتين تتدرب على امتلاك الجرأة التي لابد أن تبلغ درجة الشراسة حتى يمكنني أن أكون هنا وبالاستعداد الذي يعوزني لأواصل؟ لعلي لم أتحرك من مكاني ذاك في اتجاه المخيم إلا عندما هيئ لي أنني شاهد على جريمة ما أزال لم أعرف حدودها، لكن كل ما وقع ورأيت حتى الآن يؤكد أنني سأكون شاهدا على فاجعة كبيرة تفوق كل الفواجع التي رأيتها في حياتي من حوادث السير والغرق والموت مرضا والانتحار، وصولا إلى المآسي التي شهدتها خلال فصول من الحرب اللبنانية، خصوصا مذبحة الطيران الاسرائيلي في الفاكهاني صبيحة 17 يوليو / تموز 1981 الذي ترك وراءه مئات القتلى والجرحى بينهم عدد كبير من الأطفال المحروقين والمشوهين، وصولا إلى الغزو الاسرائيلي للبنان وحصار بيروت. لقد مسني في قعودي بجوار طفلة وشيخ نائمين وسط الشارع بوداعة، وسلام مؤلمين، شعور قوي لا عقلاني، لكنه كياني، بأن الحياة والموت هما شيء واحد، وانتابني احساس بأنني لم أكن أرغب في اختبار حقيقية هذا الشعور كما أرغبه الآن. كانت تلك وداعة وسلام المنتهكين، وكانا معا طرفي كينونة، ومسيرة حياة، وأقصى صورة لشعب بأكمله. خجلت من خوفي. أحاول الآن أن أكون أمينا ما أمكنني ذلك؟ هل أستطيع، وهل ان ما أدونه الآن هو المشاعر نفسها التي انتابتني؟ هل يعقل أن يحتفظ المرء في حال كتلك بالمشاعر والهواجس والأفكار نفسها، وهل تفلح ذاكرته باستبقاء التفاصيل المختلفة كبيرة وصغيرة. لقد نسيت تفاصيل كثيرة من المؤكد أنني رغبت في نسيانها لشدة ما كان يؤلمني أن تسارع ذاكرتي إلى استحضارها كلما كان هناك ما يستدعيها. أما الآن فإنني أرى المشهد حيا أمامي. ولن يتاح لي دافع قوي لأصفه بأدبية أو بتزويق لغوي أو بفلسفة توهم أنها تحيط بما فيه من معان وأبعاد مختلفة، سأظل أحاول أن تكون شهادتي تسجيلا شخصيا ووصفا ما رأيت وللأثر الذي تركته الأحداث في كياني كشخص. سأصف الطريق الذي عبرتُ. إنه شارع المخيم من ربعه الأول. كان ورائي بقايا أكمة صغيرة من الرمل الأحمر الذي جلبه المقاتلون أثناء الحصار ليتحصنوا وراءه. أظن الآن ان طول الشارع كان بضع مئات من الأمتار وعرضه لا يتجاوز السبعة أمتار.