«كلاوس بودنبرج» شاعر وكاتب دانماركي لا يخفي انفتاحه على البلاد العربية، وهو الذي قضّى فترات طويلة في مصر خاصة وفي تونس والمغرب. وقد أتاحت له هذه الإقامة أن ينظر إلى العالم العربي في تنوعه واختلافه. ذلك ان ما يسيء إلى العلاقة بين الغرب والعرب في تقديره هو التغاضي عن التنوّع عند كلّ منهما. يقول إننا ننزع عادة إلى التحليق فوق بعضنا بعضا، بحيث نرى المدن ولا نرى النّاس.. نرى الطرق ولا نشاهد العربات التي تجري فوقها.. ونرى البحيرات والأنهار دون أن نرى تعاريج الماء وصخب الأمواج. أما التفاصيل وهي ما يميّز الشخصية عادة أو يصنع هويتها فلا تتّضح إلا حين نلامس الأرض ونعيش حياة الناس.. وليس من خلال عدسة ضبابية بعبارة الكاتب، أو من خلال «حديث الأذن» كما تقول اللهجة التونسية المحكية. فكثيرا ما أفضى ذلك إلى شيوع صورة عن العالم العربي هي أقرب ما تكون إلى الواقعية السحرية حيث تلامس الأشياء في غرابتها عوالم الحلم وما يخرج عن المعيش والمألوف من رموز وأشكال. من ذلك اعتقاد كثير من الغربيين أن المدن العربية المشهورة مثل بغداد أو القاهرة أو مرّاكش أو دمشق.. إنما يوشيها الغموض والميل إلى الأسرار، وكأنها صورة من مدن القرون الوسطى المسكونة بالمتع المحرّمة، والكنوز المخبأة...... والجنّ الذي يمكن أن يظهر في أية لحظة.. حتى ان البعض يرى ان مفهوم الغموض العربي لا يتعلق بزي المرأة أو حجابها أو خمارها، وإنما بالعمارة العربية التقليدية أيضا. فالسّاحات الداخلية المغلقة وافتقار الدور للشبابيك الواسعة أو الزجاجية المطلّة على الشارع «يدلّ على أن العربي يميل إلى الغموض ويتسلّط عليه خجل داخلي». ويعلّق كلاوس بودنبرج على ذلك ويقول إنه لا يستطيع أن يسوّغ تفسيرا كهذا. بل هو يجد الأمر على عكس ذلك تماما. وكثير من المدن العربية يشيع فيها جوّ دافئ من الألفة والحميمية وتتميز بالحيوية والانطلاق «وما عدا بوابات البيروقراطية الثقيلة المغلقة، فإن أبواب التواصل والتفاهم يمكن فتحها بسهولة ويسر» بل ان هذا الكاتب ليسخر من هؤلاء الغربيين الذين يرون العالم العربي من خلال عدستهم الضبابية، ويقول ان بإمكانه هو أيضا، لو أراد التعميم، أن يقول عن الدانمركيين أبناء جلدته إنهم أكثر الناس ميلا لحماية سريتهم، وإن لمدنهم وأحيائهم هدوءا غامضا سريا «ولكنه ليس لذيذا. فما الفائدة من نافذة بانورامية واسعة لفيلاّ لا تستطيع الدخول إليها إلا إذا كنت مدعوا لحفلة عيد الميلاد أو لحفلة عشاء تمّ الترتيب لها سلفا.. قبل ألف ليلة وليلة؟!». * * * ما يخلص إليه كلاوس بودنبرج هو أن استخدام صيغة المفرد مثل «الغرب» أو «العالم العربي» يخفي حقيقة التنوع والتعدد. وربما كانت صيغة الجمع أكثر تعبيرا عن الحقيقة وأجلى سبيلا.. فعلى قدر ما توجد عوالم غربية توجد عوالم عربية. وهو يذهب إلى أن ما يعتبره البعض مواجهة ثقافية بين الشرق والغرب إنما هو في الحقيقة سؤال العلاقة مع الماضي والحاضر والمستقبل. فمثلا لا تزال بعض العائلات المغربية التي أجبر أجدادها على الرحيل عن اسبانيا، تحتفظ بمفاتيح بيوتها القديمة في غرناطة وقرطبة.. «نحاول جميعا أن نحافظ على المفاتيح الصدئة لماضينا».. الأوروبيون بمفاتيحهم الكولونيالية القديمة وهي تصقل ثانية.. والأصوليون الذين لا يرون في «اليوتوبيا» وهج المستقبل البعيد، وإنما الماضي والتقاليد التي لا تتغير. فهم «ليسوا قلب الإسلام أو العصر الذهبي للثقافة العربية». يقول كلاوس إننا نحتاج غربيين وعربا إلى نسيان أنفسنا أحيانا، لا لنصبح جزءا من «النّحن» المحدودة غير المتسامحة وإنما لننصهر في العالم دونما حاجة إلى تجانس ثقافي أو سياسي أو ديني. وهو يرى أن هذه النظرة الصوفية أجمل ميراث قابله أثناء ترحاله في العالم العربي. فلا غرابة أن ينهي نصّه الجميل ببيت ابن عربي: أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت