عثرت على هذه الرواية، ذات زيارة الى العاصمة في الشتاء الفارط ورغم ما أخذني من شوق الى الاطلاع عليها فقد أبت إلا أن تقرأ... ربما لأنها طويلة ولأنها تؤرخ لأيام وأوجاع عشناها جميعا ونعرف كيف انتهت... ولكن لا أعتقد هذا فمازالت لهفتنا على الكتب والمذكرات التي تحمل بعدا تاريخيا شديدة لاننا لم نستوعب ما حصل ما بالنا برواية ترتبط بحرب الخليج الثانية مطلع التسعينات وهي الحرب التي فتحت باب الحزن والدمع العربي ورجّت العقل العربي في العديد من القناعات والاحاسيس والمفاهيم وبدأت معها حالة انهيار هذا الجيل... ما ان توغلت في قراءتها اندلعت الحرب الثالثة التي جمّدت الاقلام والعقول والاحلام فوضعتها جانبا لأن الوقت لم يعد آنذاك للقراءة ولأني وجدت فيها ما بدأ يؤلمني ويحبطني ويثير في ذاتي تململا وإحساسا بالخيبة لكني كتمته وتجاهلته وتناسيته الى أن حصل ما حصل... في تلك الايام كنت أرى أننا نعيش عنوان هذه الرواية وكنت أرى أن تلك الصرخات وتلك الضربات وتلك المشاهد التي نقلت الى كل العالم هي بالفعل «تراتيل وأد». كانت تلك تراتيل وأد بغداد... ووأد العراق... ووأد حضارة كاملة... هذه الايام، وبما أن المرارة جرت في عروقنا... أصبح من الممكن لي أن أعود الى هذه الرواية وأقرأها وأقلّبها وأمرّ على جمل المرارة... وبقطع النظر عن تقاطع الاحاسيس والافكار فهذه الرواية قدمت عدة جوانب: الجانب التاريخي ويخص الحرب الثانية على العراق. الجانب الانساني ويتعلق بمأساة الانسان العراقي. وهي مع هذا كانت تحمل بوادر النهاية والسقوط وهو ما جعلني آنذاك أنفر من قراءتها لانها تقدم شيئا كان آنذاك ضد عاطفتي وعواطف ملايين العرب رغم أنها صادرة عن مؤسسة رسمية عراقية آنذاك. ولعل هذه الجوانب هي التي سأتوقف عندها في هذا العمل أو هذه الرحلة التي امتزجت فيها الاحلام بالاوهام والاوجاع. ّIّ تراتيل الوأد ترتيل الوأد رواية عراقية للكاتب العراقي جاسم الرصيف وهو كاتب من الموصل وله روايات عديدة أهمها: الفصل الثالث (ج1 و2). القعر (ج1 وج2). خطر أحمر. حجابات الجحيم. أبجدية الموت حبا. وقد فازت رواياته بعدة جوائز عراقية. وجاءت روايته هذه في 302 صفحة وقد قسمها حسب أيام الحرب فكانت البداية بالخميس 17 كانون الثاني (جانفي) 1991 وهو تاريخ بداية الحرب أما النهاية فكانت ب 27 شباط فيفري وهو اليوم الثاني والاربعين من الحرب أو يومها الاخير. إن الامر الظاهر أن هذه الرواية واقعية تسجيلية ولكنها تتخلص من بنيتها المفروضة عليها حتما ومن منطق التاريخ لتصبح رواية تحليلية لنفسية الانسان العراقي وقد اعتمد الكاتب أسلوبا سرديا اعتمد فيه على الرؤية الداخلية حيث يتكلم أبطال الرواية ويتحدثون عن أنفسهم وحياتهم وتخلص السارد من الوظائف الاخرى إذ قسمت الرواية الى أيام وكل يوم الى اعترافات بعض الابطال ومواقفهم التي يقدمها بطريقة مباشرة لا وساطة فيها، حيث يكفي بذكر اسم الشخص المتحدث في كل جزء. ولقد تعددت الشخصيات في هذه الرواية وتحملت بطولة جماعية... فلم تكن الصراعات بينها وإنما كانت جميعها في صراع روائي من أجل الحياة ومن أبرز هذه الشخصيات: زيدان خلف وجواد خلف والقشعام وأم نهاد. (1) جواد خلاف : وهو موظف حكومي يعمل في دائرة بلدية ويتسم بالطاعة: «كنت قد حدثتها عن كل شيء، إلا كوني موظفا مطيعا في البلدية لا حدود لطاعته ومثاليته» هكذا أكد مديري البدين المتأمل أبدا في ساعات وحدته الذي يحمل على كتفيه رأسا كبيرة. كله مخ أكبر من أي رأس في الدائرة، لواحد من ضيوفه الكبار وأنا أدخل غرفته ذات مرة فأسعدني اعتراف المخ الكبير بجدارتي وكبر أملي في نيل كتاب شكر يحفظ في اخبارتي الوظيفية»... ص 7 يواصل جواد عمله رغم ظروف الحرب ويمكث في المدينة فيعيش تلك الظروف القاسية التي فرضتها الحرب ويعاني من الفقر والافلاس ويعيش أياما من التشرد. «أمس وأنا أجمع الاغصان المهملة من براميل الزبل رأيت بقايا طعام تلمست أصابعي صدفة دسم الرز والعظام والخبز المنقوع بالمرق. كان حيا من تلك الاحياء الفارهة المنازل. ثمة تجار ومقاولون وموظفون كبار. كان الشارع مظلما لا بشر فيه، لا سيارات وأنفي يمتلئ برائحة طعام مسكرة ولكن؟ هل أقول لها أني اكتشفت طعاما في براميل الزبل، في الحي المجاور يمكن أن نستفيد منه مؤقتا ريثما ينفك الحصار...». ص 86 (2) زيدان خلف : شاب أعزب، ومقاتل سابق في الحرب العراقية الايرانية وهو شقيق جواد «صحت رافعا كأسي الاولى وأنا أتخيل رفاقي القدامى في السلاح في الحرب ضد ايران. كثرة كانوا حتى أني ما عدت أتذكرهم جميعا بالاسماء، ثمة وجوه بلا أسماء وثمة أسماء بلا وجوه...». ص 189 ويعيش زيدان مع القشعام، وقد ظهر مرتبكا في هذه الحرب وضجرا منها يقضي أيامه بين الحيرة وممارسة الجنس مع أم نهاد وقد انتهى الى حالة من الفوضى مثل استحمامه بالمياه الآسنة ويبدو أن نهايته كانت الجنون وإن لم يعلن الكاتب ذلك فلقد أوضحه بالاحداث السردية، فآخر كلام زيدان قوله: رددت بصوت عال وأنا أضحك. عاشقا كنت ولم تتغير رتابة الرتل، من رفاقي في السلاح، كانوا يمرون أبدا قادمين أو ذاهبين، من جهة ما الى جهة ما، فشعرت بالخجل، توقفت الحرب، لم أر نفسي بين الذاهبين أو القادمين في الرتل. كبرت حبة الزيتون فيّ وكنت أحاول أن أتعرّى تكفيرا عن ذنب لم أقترفه وخطيئة لم تشوه دمي في عربة الجرار المزدحمة بالناجين من مجازات المدينة وطائرات الاعداء... وحدها مياه الوادي ترحم جسدي من حماه وجذور القصب تمنحني أمان الارض الابدي، توقفت الحرب... علام تبكي الناس؟». ص 300 أما أم نهاد فتقول: «كان زيدان يتعرى من ملابسه على طريق القرية دون أن يبالي بي ولا بالبرد ولا الناس المندهشين». (3) القشعام : شيخ بدوي ناضل ضد الانليز يعيش هذه الحرب بنوع من الحماس والتحدي وهو يقطن القرية وهو يقول معرّفا نفسه: «قالوا ليتها حية الآن فرسي لسابقت الموت ثانية بكيت بلا دموع، أين هم الآن أولادي؟ فضلوا المدينة. ثمة حلوى ونساء وطين القرية يمتزج دائما بروث البهائم. نسوا أن للمدن حروبها إن لم تكن سببا لكل الحروب، نسوا القشعام في قنه هنا وما عاد غير واحد منهم يرسل عشرة دنانير لعينة في نهاية كل شهر وانقرضت الخيل ولكن الحروب لم تنقرض ومازال التبغ الرديء رديئا والقهوة والقرى والآفاق البعيدة والذئاب». (4) أم نهاد : أم نهاد أرملة ترتحل الى القرية وتقيم عند القشعام هروبا من الحرب وهي تعيش على علاقة سرية مع زيدان «لم يألفه الاولاد رجلي الثقيل، عملاق الحب الصامت في سريره الذي ينتظر أن أدخل الغرفة ليطرحني على الفراش بشبق جنوني». ص 25 II شيء من الدلالات وتدور أحداث هذه الرواية بين المدينة والريف ورغم أنها رواية الحرب فلم تكن رواية حماسية ولم تكن ذات مغزى خطابي وإنما امتزجت بالحياة... لم يكن هناك تركيز على المعطى الاخباري الذي يعلن في الاذاعات وهذا ما أفضى الى وجود قصتين: قصة الحرب تبدأ أو تتصاعد حتى تنتهي. وقصة الشخصيات الروائية تعيش مشاغلها وهمومها. وإنه لمن اللافت للانتباه أن هذه الرواية تتوغل الى داخل البيوت العراقية وتحيط بصورة الانسان العراقي ومعاناته حيث أطفال الاعاقة ونساء الدعارة والفقر وصعوبة الحياة والاحساس بالخيبة من الاشقاء العرب وقد تحيلنا جملة النهاية على مواقف عديدة اختزلها الكاتب في تصريح خلف القشعام حيث قال: «... وظل في وجه السماء متسع لكل الغيوم، لذا سأبحث لك يا بني، الآن عن إخوة وزوجة وأولاد وطعام وبندقية، الآن تبدأ معركتي». فكان زيدان الذي يتحدث عنه القشعام، أصبح رمزا للشعب العراقي الاعزل والوحيد الذي لم يجد أحدا معه وخذله العرب وتصير اللذة الحرام التي يمارسها مع أم نهاد، الحلم الجميل الذي حلمه العراق رغم كل التناقضات... أفلا تكون هذه المطلقة رمزا للاحلام العربية المطلقة أيضا؟ إن هذه الرواية جاوزت تاريخيتها وهي قابلة لتأويلات عديدة. أما كيف أربكتني هذه الرواية عند قراءتي لها في المرة الاولى وبعثت فيّ خوفا شديدا فهذا أمر آخر... لقد أحسست ان الشعب العراقي قد يبدو قلقا بل قل غير مبال بما يجري وأثارتني صورة هذا العسكري القديم وهذه المرأة (زيدان وأم نهاد) اللذان يقضيان أيام الحرب في ممارسة البغاء السري وما أكثر اللحظات التي كانا يفكران فيها في مكان آمن لهذا الامر وقد نأخذ مثالا على هذا حديث اليوم الثاني للحرب حيث تقول أم نهاد: «سنموت في الغارة القادمة، انتهت هذه. كنت أفكر ولكننا سنموت في القادمة، هكذا كانت الاذاعات تؤكد وكفّا وحشي تسرحان على جسدي المرتعش رعبا. الاسواق مغلقة، لا طعام لا ماء لا كهرباء والاولاد نيام. ليس تماما يقظين في أسرّتهم ينصتون الى الهمس المنبعث من هذه الغرفة والى حركات السرير ويتشممون تبغ الرجل الذي يشاطرني الفراش منذ أشهر. ما اعتادوا عليه بعد وكانت الطائرات تمزق سكون الليل والانفجارات وأصابع الرجل تعبث بي في الاماكن التي يعرفها مفاتيح لذّتي...». ص 13 إن هذه العلاقة المحرمة بين الجندي السابق والارملة تبدو في أصلها علامة سلبية فما بالنا إذا كان الامر جنديّ؟ إن لجوء هؤلاء الى الحرام بقدر ما فيه من انسانية وأشياء أخرى، فإنه يحيل على فئة من الناس لا تبدو مهتمة بما يجري... إنها علامة زلزلت عواطفي زد اليها الحديث عن قطاع الطرق وعن الاثرياء وعن السرقة وهو ما أفهمني أن الامر قد لا يكون مثلما تصوّرنا أعواما... وفي الحقيقة فإن ما فهمته من جنون هذه الرواية وما أوحت به تلك الاشياء قد باغتني وباغت كل العرب فعلا.