* محمد المحسن الإدارة الجهوية للتعليم تطاوين 30 مارس 2004 إنها الذكرى الثامنة والعشرين لانتفاضة يوم الأرض تجيء وقد كفّ الفلسطينيون عن أن يكون دورهم هو مجرد القيام بتعداد السنين، وكتابة الرقم في دفتر المأساة لقد افتتح الشهداء «دفترا» جديدا يسجل الفلسطينيون يومياتهم فيه. لربما ينشغل البعض في البحث عن صلة «لغوية» ما بين المأساة ودفتر الشهداء وسوف يكتشف أنّ سنوات تلك هي سنون هؤلاءوأنّ عنوان السفر لم يتغيّر منذ البدء حيث مضى الفلسطيني حتى الاستشهاد في مقاومة الاقتلاع فأن تزرع دما في الأرض فهذا فعل انتصار الإرادة الإنسانية إرادة الحياة على آلة الموت والاقتلاع وكلّما مرّ الوقت اكتشف العربي الفلسطيني قواعد جديدة للإجابة على سؤال البقاء والاستمرار.. والتحدي. واليوم... على القاتل اليوم أنه يبحث عن حدود دهشته ويواري صدمته بالأطفال ا لذين كانوا مرشحين لأن يمثلوا «جيل النسيان» فإذ بهم يمتلكون ذاكرة مفعمة بالتفاصيل يصغون لندائها على نحو خاص، ويبتكرون بناء على النداء شكلا متطورا للفعل يبتدىء من مغادرة الصمت ليباشر كتابة التاريخ الحقيقي. لم يكن الفلسطينيون في أراضيهم المحتلة عام 48 بحاجة إلى اعتراف القاتل لأنّ جراحهم ظلّت تنزف طوال العقود التي انصرمت من عمر الاحتلال والنكبة ولكنهم كانوا بحاجة إلى احداث صدمة في جدار الوعي اليهودي الذي تخيل أنّه احتلّ الأرض واقتلع منها ما اقتلع ولم تبق سوى خطوة واحدة حتى تكتمل الجريمة أن يبدد هوية من بقي على الأرض من الفلسطينيين عبر الدمج، أو عبر التهميش الذي يبقيهم مهزومين ومستكينين لإرادة الغاصب فيطلق ماشاء عليهم من الصفات والتصنيفات بوصفهم «كما» بشريا فائضا يستطيع المحتلون أن يتصرفوا به على هوامه. ولكن قانون الصراع هو الذي ظلّ يحكم العلاقة بين الغاصبين للأرض ومن اغتصب أرضهم ومع الحاجة إلى الصدمة اللازمة لتثبيت هذه المعادلة انفجرت انتفاضة يوم الأرض عام 1976 التي تجمعت نذرها لوقت طويل. فعشية الانفجار كتب الصهيوني «شمعون شامير» إنّ الجيل الناشىء له طبائع سياسية مختلفة عما كان لدى جيل الوجهاء والمخاتير إنّه غير الذين ورثناهم عام 1948. الصهيوني شامير كان يقول حقيقة وهو يحاول تقديم تفسير لنمو المشاعر القومية والتمركز حول الهوية العربية الفلسطينية من قبل الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال الصهيوني منذ نكبة فلسطين. ولكن شامير لم يستطع مغادرة الاستعلاء العنصري لحظة واحدة حتى وهو يؤشر إلى فشل «الدمج». التحول الحاسم في معركة الهوية يمكن اعتبار السعي الصهيوني إلى تهويد الجليل بمثابة الصاعق المفجر لانتفاضة الأرض في الثلاثين من مارس عام 1976 لكن هذه الانتفاضة لم تكن برقا في سماءصافية وإذا كان الفلسطينيون قد استطاعوا في ذلك اليوم تمزيق مشاريع التقسيم والتهويد وأثبتوا أن الشعب الفلسطيني لم يتروض ولم يتشرذم ولم ينس هويته وتاريخه ولم يفقد إنسانيته فإنّ ما حدث كان محصلة لتراكمات نضالية ولاستمرار الشعور العميق بالهوية الوطنية والقومية رغم المحاولات الصهيونية الحثيثة لقمع هذا الشعور وضرب أشكال التعبير عنه. ففي عام 1958 ظهرت إلى الوجود الجبهة العربية وهي أول تشكيل مناهض للصهيونية في فلسطينالمحتلة عام 48 وقد قمعها الصهاينة لأنّها تعمل على التطرف الطائفي والعنصري كونها لا تقبل سوى ا لعرب في صفوفها». ثمّ تأسست «حركة الأرض» التي تعرضت لقمع صهيوني شديد وصولا إلى إصدار قرار بحلها عام 1964. وفي عام 1970 ظهرت «حركة أبناءالبلد»... وهكذا كانت هذه الأشكال جميعا محاولات تنظيمية لمواجهة السياسات الصهيونية وفي العمق كان الشعور بالغضب يتزايد ويتحين الفرصة المؤاتية للضهور والتعبير عن نفسه بقوّة. لقد لعب ظهور العمل الفدائي المقاوم عام 1965 ولاحقا حرب أكتوبر عام 1973 دورا بارزا في تقوية المشاعر القومية والإحساس بالانتماء إلى أمّة فاعلة وقوية وهو ما قابله استخفاف بالدعاية الصهيونية عن «دولة وجيش» لا يعرفان سوى الانتصار ويستطيعان «تأبيد» الهزيمة العربية. كمحصل لكلّ ذلك انفجرت انتفاضة يوم الأرض ليبدأ التحوّل الحاسم باتجاه مسار جديد يدلل أوّل الشيء على فشل السياسات الصهيونية ويعكس ثانيا حقيقة أن فلسطيني الأراضي المحتلة عام 1948 هم جزء من الشعب الفلسطني والأمة العربية. وأوقفت انتفاضة يوم الأرض الاندفاع الصهيوني لتهويد الجليل وأكدت أنّه سوف يواجه كلّ مرّة بمقاومة أشد. ومنذ ذلك الوقت تزايدت المشاركات النضالية لفلسطيني الأراضي المحتلة عام 48 في الكفاح ضد الصهيونية ومشروعها على أرض فلسطين ليصاب الصهاينة في كلّ مرة بالذهول ويقترحون صياغات جديدة على أنّها أجوبة على واقع يصفعهم بقوة. حدث هذا في النظر إلى مشاركات فلسطيني ال48 في انتفاضة 1987 1993 وصولا إلى ما أحدث صدمة قوية لدى الصهاينة بسبب كثافة المشاركة الفلسطينية في مدن وقرى فلسطينالمحتلة عام 48 في انتفاضة الأقصى وهي الصدمة التي عبّر عنها أحد الصحافيين الصهاينة بالقول : «إنّه عبر صور الانتفاضة المعروفة ظهر لاعبون جدد : عرب «إسرائيل» وبنفس حركة الجسد المعروفة من المناطق (يقصد الضفة والقطاع) بنفس مظاهر الكراهية بنفس اللحن فعلا». في كلّ مرّة كان الصهاينة يقولون : «إنّ الأسوأ لم يظهر بعد... وسوف يأتي اليوم الذي تلاحقنا فيه السكاكين إلى حيفا ويافا» ولكن في كلّ مرّة أيضا كان يجري اللجوء إلى «الخرافة» لاقتراح الحلول التلفيقية الجديدة. اليوم... الفرق واضح بعد ستّة وخمسين عاما يعيش الغاصب الدموي تحت وطأة الخوف ودون هوية.. بينما يستطيع العربي الفلسطيني أن يشعر بالفخر بهويته ويعد من تبقى من وقت كي لا ينبلج الصبح على فلسطين الجريحة..