الادارة الجهوية للتعليم تطاوين ستة وخمسون عاما مضت على الخامس عشر من ماي 1948 وطوى التاريخ صفحاتها دون أن تطويها مواجع الواقع. فالنكبة لا تزال نكبة، والجرح يستمر بالنزف، والدم يراق بدون رحمة، وشارون كأسلافه متمسك بما أباحه التشريع التلمودي... واليوم... أصبح اليوم من المعيب على العرب أنظمة وشعوبا الاستمرار باجترار مقولة المؤامرة الصهيونية الامبريالية على حقهم بأرضهم وفي ثرواتهم في فلسطين وخارج فلسطين لتغطية عجز مخجل بل تواطؤ مراكز قوى هامة بينهم عن مواجهة تلك المؤامرة طيلة ستة وخمسين عاما منذ نكبة فلسطين الى اليوم. والسؤال الذي لا يقلّ مرارة عن النكبة هو أين الشعب العربي امام هذه الصورة التاريخية الدراماتيكية، الذي لم يعد يبرر انكفاءه كلام أجوف عن قمع من هذا النظام العربي أو ذاك!؟ فحرية أي مواطن عربي ودمه ليست أثمن ولا أغلى من حرية أي فلسطيني ولا أقدس من دم أي طفل فلسطيني يتعرض يوميا للقهر والذبح والاعتقال والتشريد على يد قوات العدو الصهيوني... كما علينا جميعا أن نعلم ان العدوّ لا يتجسد فقد بالكيان الطهيوني بل هو يتمثل ايضا بالحاضنة الامريكية لهذا العدو وسلوكه وممارساته المنافية لكل ما تنص عليه شرعة حقوق الانسان. هذه الحاضنة التي ما فتئت تنعم بولاء العديد من الأنظمة العربية وباموال المستهلك على امتداد الوطن العربي من المحيط الى الخليج، تلك الاموال التي ترتد بمعرفة الجميع رصاصا صهيونيا يخترق نحر المقاومين في فلسطين، لبنان، سوريا وبغداد. وإذن... أيار جديد اذا انها الذكرى السادسة والخمسون للنكبة. تجيء وقد كفّ الفلسطينيون عن أن يكون دورهم هو مجرد القيام بتعداد السنين، وكتابة الرقم في دفتر المأساة، لقد اخترقوا بدمائهم سجون الصمت وافتتحوا «دفترا» جديدا يسجلون يومياتهم فيه... لربما ينشغل البعض في البحث عن صلة «لغوية» ما بين المأساة ودفتر الشهداء، وسوف يكتشف ان سنوات تلك هي سنون هؤلاء، وأن عنوان السفر لم يتغير منذ البدء، حين مضى الفلسطيني حتى الاستشهاد، في مقاومة الاقتلاع، فان تزرع دما في الارض، فهذا فعل انتصار الارادة الانسانية، ارادة الحياة على آلة الموت والاقتلاع، كلما مرّ الوقت اكتشف العربي الفلسطيني قواعد جديدة للاجابة على سؤال البقاء والاستمرار... والتحدي. واليوم... على القاتل اليوم ان يبحث عن حدود دهشة ويواري صدمته بالاطفال الذين كانوا مرشحين لان يمثلوا «جيل النسيان» فاذ بهم يمتلكون ذاكرة مفعمة بالتفاصيل يصغون لندائها على نحو خاص، ويبتكرون بناء على هذا النداء شكلا متطورا للفعل يبتدئ من مغادرة الصمت، ليباشر كتابة التاريخ الحقيقي. لم يكن الفلسطينيون في أراضيهم المحتلة عام 48، بحاجة الى اعتراف القاتل، لان جراحهم ظلت تنزف طوال السنوات التي مضت من عمر الاحتلال والنكبة، ولكنهم كانوا بحاجة الى احداث صدمة في جدار الوعي اليهودي الذي تخيل انه احتل الارض، واقتلع منها ما اقتلع ولم تبق سوى خطوة واحدة، حتى تكتمل الجريمة: ان يبدد هوية من بقي على الارض من الفلسطينيين عبر الدمج، أو عبر التهميش الذي يبقيهم مهزومين ومستكينين لارادة الغاصب، فيطلق ما شاء عليهم من الصفات والتصفيات، بوصفهم «كما» بشريا فائضا، يستطيع المحتلون ان يتصرفوا به على هواهم. ولكن قانون الصراع هو الذي ظل يحكم العلاقة بين الغاصبين للارض، ومن اغتصب ارضهم، ومع الحاجة الى الصدمة اللازمة لتثبيت هذه المعادلة، انفجرت انتفاضة يوم الارض عام 1976، التي تجمعت نذرها لوقت طويل، فعشية الانفجار كتب الصهيوني «شمعون شامير» ان الجيل الناشئ له طبائع سياسية مختلفة عما كان لدى جيل الوجهاء والمخاتير، انه غير الذين ورثناهم عام 1948، الصهيوني شامير كان يقول حقيقة وهو يحاول تقديم تفسير لنمو المشاعر القومية، والتمركز حول الهوية العربية الفلسطينية، من قبل الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال الصهيوني منذ نكبة فلسطين. ولكن شامير لم يستطع مغادرة الاستعلاء العنصري لحظة واحدة وهو يؤشر الى فشل «الدمج». ماذا أريد أن أقول؟ أردت القول أن استراتيجية المقاومة للمشروع الصهيوني التي شكلت الساحة اللبنانية ميدانها الأساسي منذ حرب النكسة في حزيران 1967 وكانت خيارا لبعض القوى العربية الرسمية والشعبية رغم ما واجهته من كر وفرّ ورغم ما حملته من شوائب قد أنتجت انتصارا تاريخيا يفتخر به كل عربي اصيل بغض النظر عن قربه او بعده من خط المواجهة مع العدو الصهيوني. فالاندحار المذل لقوات العدو «الاسرائيلي» في الخامس والعشرين من ماي 2000 من جنوب لبنان حول أسطورة الجيش الذي لا يقهر التي أرادوا ترسيخها في وعي الاجيال العربية المتعاقبة الى مهزلة ترتجف من نسيم حجر تطلقه يد طفل فلسطيني تربّى على حبّ فلسطين الجريحة. ان استراتيجية عربية مقاومة تصبح اليوم أكثر الحاحا من أي وقت مضى في ظل مواجهة بات العدو فيها امام مرحلته الأخيرة لحسم مصيره في كيان مرتسم الحدود ترعبه فكرة المستقبل عن وجوده وخوفه من اجتياح الديمغرافيا العربية لطبيعته العنصرية، ولانه يعيش هذه اللحظة فهو يزداد شراسة ويتجه لخلق وقائع جديدة من خلال توسيع عدوانه داخل فلسطين وخارجها تبقي له حدود الصراع مفتوحة على كل الاحتمالات، وبخاصة احتمال تكريس الشرذمة داخل الجسم العربي وتغذية الصراعات العربية، العربية... أقول هذا، لان بعد ستة وخمسين عاما من احتلال فلسطين، عاد الصهاينة الى المربع الاول، اذ عليهم ان يقوموا باقتلاع الفلسطينيين مجددا، وربما كان القمع الوحشي وعمليات التدمير التي يقومون بها اليوم جزءا من الخطة... ولكن ثمة الكثير مما تغير، ببساطة لن يغادر الفلسطينيون أرضهم، وعلى من جاء اليها ان يحزم أمتعته للرحيل...