أفرز القرن الأخير عدّة أسماء لإيديولوجيات مختلفة لم تكن موجودة في أمتنا الإسلامية غير أنها وجدت بعد الاستعمار الغاشم الذي تعرّضت له هذه الأمة من قبل الدول الإمبريالية الغربية. لم تسلم الدول العربية والإسلامية من هذا الاحتلال نظرا لقوّة العدو الغربي الذي كان يملك ترسانة قوية من الأسلحة المتطورة والتي لم تكن موجودة إذاك لدى الجانب العربي والإسلامي وللضعف والوهن اللذين أصيبت بهما هذه الأمّة جرّاء تكالبها على السلطة والنفوذ والجاه من قبل الأمراء والسلاطين والملوك وحيادها على الجادة. الأمّة الراشدة التي كانت تجاهد في سبيل الله لإعلاء راية الإسلام لم تكن هكذا. فالفاروق عمر رضي الله عنه حين أتاه يهوديا يريد عطاء من بيت مال المسلمين وهو يزعم أن الخليفة أمر بذلك، غضب غضبا شديدا ثم توجّه نحو أبي بكر الصديق وكان خليفة المسلمين آنذاك، فقال عمر له ما الذي فعلته يا أمير المؤمنين بأي حقّ تعطي هذا اليهودي نصيبا من بيت مال المسلمين. عند ذلك اغتنم هذا اليهودي الفرصة لبثّ الفتنة بين الصحابيين الجليلين قائلا : "يا أمير المؤمنين أأنت الخليفة أم عمر؟ فكان ردّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وله عدّة مناقب وخصال ممتازة فهو صهر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار وصدّقه حين قال له المشركون يزعم صاحبك أنه أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السماء السابعة في ليلة" فقال لهم إن كان أخبر بذلك فقد صدق فسمي صدّيقا. هذا الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إيمانه يعدل إيمان الأمة قال لعمر بن الخطاب "ألم أقل لك يا عمر، أنّك أحقّ مني بالخلافة!". الأمة الإسلامية من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب كانوا يسمّون ب "المسلمين" مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم. أما نحن في هذا الزمن المشحون بالفتن التي هي كقطع الليل المظلم فنسمي المسلمين، "الإسلامي والسلفي والتبليغي والصوفي والحداثي والعلماني". فهذه الأسماء شبيهة بما قام به فرعون مصر تجاه بنو إسرائيل حيث جعل أهلها شيعا أي أحزابا. الله سبحانه وتعالى لا يرضى بالاختلاف ولا الانشقاق إذ هو يقول "إن هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون" وقال أيضا في كتابه العزيز "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيا بينهم. فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" الآية 213 من سورة البقرة. وبيّن العلماء في تفسير هذه الآية أن الناس كانوا مجتمعين على الهدى، وذلك عشرة قرون بعد نوح عليه السلام. فلمّا اختلفوا في الدين، كفر فريق منهم، وبقي فريق آخر على الدين، حصل بينهما نزاع فبعث الله الرسل ليفصلوا بين الخلائق ويقيموا الحجّة عليهم. فهذا شبيه بما يحصل في زماننا تماما إذ أن هناك من المسلمين من يرون أن الدين الإسلامي لم يعد يواكب التطورات والأحداث المتجددة في العالم ولا يستطيع أن يحلّ القضايا الشائكة في عصر الطائرات والسيارات فاختاروا بديل حكم الله أحكاما وضعية ما أنزل الله بها من سلطان. وهناك من المفسرين من قال أن الناس كانوا مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء، ليس لهم نور ولا إيمان، فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم مبشرين من أطاع الله بثمرات الطاعات : من الرزق والقوة في البدن والقلب والحياة الطيبة الكريمة، وأعلى ذلك الفوز برضوان الله والجنة. ومنذرين من عصى الله بثمرات المعصية، من حرمان الرزق، والضعف والإهانة، والحياة الضيقة، وأشد ذلك سخط الله والنار. وأنزل معهم الكتاب بالحق وهو الإخبارات الصادقة، والأوامر العادلة، فكل ما اشتملت عليه الكتب، فهو حق يفصل بين المختلفين في الأصول والفروع، وهذا هو الواجب عند الاختلاف والتنازع، أن يرد الاختلاف إلى الله وإلى رسوله، ولولا أن في كتابه الكريم وسنة رسوله فصل النزاع لما أُمر بالرد إليهما. لما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب، وكان هذا يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم، فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض، وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه، وذلك من بعدما علموه وتيقّنوه بالآيات البيّنات، والأدلة القاطعات، فضلّوا بذلك ضلالا بعيدا. فهدى الله الذين آمنوا من هذه الأمة لما اختلفوا فيه من الحق، فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب، وأخطؤوا، فيه الحق والصواب، هدى الله للحق فيه هذه الأمة بإذنه تعالى وتيسيره لهم ورحمته. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فعمّ الخلق تعالى بالدعوة إلى الصراط المستقيم، عدلا منه تعالى، وإقامة حجة على الخلق لئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، وهدى بفضله ورحمته، وإعانته ولطفه من شاء من عباده، فهذا فضله وإحسانه، وذاك عدل الله وحكمته. فيصل البوكاري تونس