في الوقت الذي تتلكأ فيه نقابة الصحفيين في الكشف عن قائمة العار للصحفيين المورطين في قضايا الفساد، والتي باتت معلومة لدى الرأي العام ومنها أسماء ما زالت تمارس التطبيل بعد أن لبست قميص" شي غيفارا" وتحولت الى أبواق ثورية، تتعالى الأصوات هنا وهناك من أن الاعلام التونسي يتعرض الى " التضييق" بعد الثورة وهو كلام لا يصدقه عاقل يرى أن اعلامنا لم يخرج من جلباب الماضي بممارساته وأساليبه حيث بقيت المضامين الصحفية في الصحافة المكتوبة والفضائيات لا تخرج عن دائرة الهرج كظاهرة صوتية لا تقدم ولا تؤخر.. ولم يعد خافيا على أحد أن عددا من الصحفيين والاعلاميين التونسيين كانوا غارقين في الفساد من الرأس حتى أخمص القدمين، ويتقاضون مبالغ خيالية وهدايا وهبات ويتمتعون بامتيازات. كانت هذه العطايا تغدق عليهم بلا حساب من الرئيس المخلوع وزمرته الممسكين بمفاصل هذا القطاع، بعد أن نفذوا اليه من الباب الخلفي ليدجنوه. لم تكن العطايا تمنح لهم لسواد عيونهم، بل لغاية في نفس الدكتاتور لارضاء غروره وتمسكه بالحكم، فكان حريصا على أن تتولى هذه الأبواق المجندة، والأقلام المأجورة تلميع صورته الملطخة بالقمع والبطش، وتوجيه الرأي العام وتغييبه في قضايا هامشية، كان هؤلاء عيدان الكبريت لابقاء بريقها فكانوا يتلقون الجزاء الأوفى على خدماتهم وتفانيهم في خدمة النظام وتثبيته على كرسي الاستبداد، وتلميع " انجازاته" في الداخل والخارج. لم يكن قوم تبع قانعين بما يجنونه في صحفهم وصحف سخرت لهم أعمدة قارة، ولا مكتفين بما تدره عليهم تجارتهم من مراسلات وكالات الأنباء الأجنبية، فكانوا أكثر جشعا ونهما، خوفا أن تنقطع النعمة، أو يحل بهم سخط السلطة في أي عثرة، جمعوا المال وأحبوه حبا جما، وأقاموا المشاريع، ومشوا في الأرض مرحا بالنعيم الذي لا ينفذ، حتى جاءت الطامة وهرب الطاغية ووجدوا أنفسهم أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام، لكن الثورة فتحت عليهم أبواب جهنم. سقطت ورقة التوت وبان المستور، فمنهم من فر بجلده خوفا على ماله المنهوب، ومنهم من ركب " حمار الثورة القصير" وخاض مع الخائضين، و"قلب الفيستة" وتبرأ من دم الذبيح، وآخرون ذرفوا الدموع ندما وحسرة وقالوا " كنا ضالين" بعد أن فتنوا الناس بنعيقهم، وكانوا ظهيرا للطاغية، وانخرطوا في جوقة التطبيل و" التكمبين" لضرب الأحزاب والمنظمات وانقلبوا على نقابة الصحفيين، وتنادوا من مقرها مصبحين: " اعل هبل". مسكسبون وباعة زيف قال قائل منهم: كنت ضحية اغراءات مالية تفتح الشهية، وتجعل عقل الحليم حيرانا فأرى الدولار ألوانا، واني ما كنت أومن بما أقوله في الدكتاتور، بل ذلك ما سولت لي به نفسي، فسحقا لنفسي الأمارة بالسوء. تبرير لا ينطلي على أهل البصيرة، فكل يلقي بمعاذيره، ومن غرائب الزمن المنسي أن صاحب مجلة" الملاحظ" كان أذن سوء على الصحفيين والوطنيين، وكان مخبرا يتقول عليهم الأقاويل، ولم يكن يكتب افتتاحية مجلته بل كان يكتبها أحد الصحفيين بالمجلة، وصاحبنا يوقع بلا حرج. وكان له عمود في جريدة" الصريح" تربع فيه دهرا حتى كاد يمتلك فيه الحق التجاري. صحيح أن هؤلاء تحولوا الى أشباح يخشون أن يتخطفهم الناس، بعد أن انكشف زيفهم، ولكن أصحاب الصحف استغلوا هذه الفضيحة ليداروا سوءاتهم، ويبعدوا عنهم الشبهات، ويقيموا على غيرهم الحجة. هؤلاء كانوا بدورهم متمعشون من دولة الفساد، ومنهم من تعلل بأن ولاءه كان قهريا لا طوعيا، ولبس جبة الورع وصاح في العلن " خاطيني" وخبرهم يعلمه القاصي والداني، حيث كانوا يتسابقون على الاشهار، فمن ينبطح أكثر يجزى بنصيب أوفر، وهذا معلوم في وثائق محاسباتهم، وأرشيف وكالة الاتصال الخارجي – ان لم يتم حرقه - وكان مال الاشهار سيفا مسلطا على رقاب المعارضين وصحفهم، فمن مول صحفا كانت لا تجد ثمن الورق حتى باتت تمتلك المليارات والعقارات؟