في نفس الاسبوع الذي فرّ فيه الطاغية بن علي، وعلى وجه التدقيق أياما قليلة قبل هذا الرأي المشين، وفي الوقت الذي كان فيه شهداء الثورة يتساقطون بالعشرات، طالعتنا احدى الصحف اليومية بحديث شيّق مع السيدين رشيد صفر والهادي البكوش فيه إشادة صريحة بالنظام السابق وبجهود الرئيس المخلوع في معالجة مشكل البطالة، واستغراب للعنف الذي رافق الحركة الاحتجاجية ودعوة الى التعقل والرصانة. ولم أعثر في ذلك الحديث على أدنى استنكار لعمليات التقتيل المجاني التي كانت جارية لذلك أو حتىمجرد الدعوة الى الكف عن اطلاق الرصاص الحي على المواطنين العزّل من كل سلاح، بل جاء حرفيا على لسان السيد البكوش في نفس الحديث أنه يتعيّن «تأكيد تعلقنا بقيادة الرئيس زين العابدين بن علي الذي قاد منذ ثلاث وعشرين سنة مسيرتنا بحكمة وتوفيق والذي ما فتئ يكد للنهوض بتونس ويجتهد للرفع من شأنها ويتفانى في سبيلها». والواقع أنه بالنظر الى تقاليد التمجيد والتملق التي ساهم الجميع في ارسائها وترسيخها منذ عقود طويلة، ليس غريبا أن يشيد بالنظام القائم وبرأس النظام أي شخص عادي واي وجه من الوجوه البارزة، سواء كان ذلك عن اقتناع او لحسابات خاصة أو حتى على سبيل «ضرب الدف»، وقد يكون ذلك مفهوما في منطق حرية الاختيار. إنما الغرابة كل الغرابة أن تنقلب المواقف رأسا على عقب بمجرد سقوط رأس النظام وخاصة عندما يصدر هذا الانقلاب البهلواني عن وجوه مرموقة اضطلعت بمسؤوليات سامية في فترات سابقة بل واستفاد البعض منها أيما استفادة من النظام السابق ومن المزايا والامتيازات التي وزعها على زبائنه ومريديه. وما كنت لأكتب هذا المقال لو اقتصرت لعبة الانقلاب البهلواني على صالونات الوجوه المحنطة، ولم تتحول الى مقالات وحوارات صحفية غايتها طمس الماضي وركوب الموجة والفوز بموطن قدم في عهد الثورة، كأنهم لم يقنعوا بنصيبهم من الجاه والمنافع في عهود ماضية ويطمعون في بقاء تلك الحظوة مدى الحياة. ومن شواهد هذا الظهور المريب ما جاء من حوارات ومقالات على أعمدة الصحف وفي غيرها من وسائل الاعلام مثلما اتحفنا به السيدان الهادي البكوش والحبيب عمار في حديثين منشورين في جريدة «الشروق» على التوالي يومي 30 جانفي و5 فيفري 2011. ولا يكاد يمر يوم دون ان يخرج علينا بعض محترفي التملق والولاء للسلطان في عهد النظام البائد وقبله، أو بعض المستفيدين من عطاياه مقابل بيع الهمم، أو بعض الضالعين في جرائمه ولو بالصمت ممن لم يجدوا في أنفسهم القدرة على الخروج من صمتهم حتى لما كان الرصاص الحي يحصد الأرواح ببرودة دم لا تغتفر ولا تحتمل الصمت. وفي زحمة السباق لسرقة ثمار الثورة واختطاف نصيب من الغنيمة برزت طوابير من الوجوه المعروفة بولايتها للنظام البائد، وبالدفاع عن ممارساته ان لم تكن ضالعة فيها من قريب او من بعيد، وبمحاولاتها تلميع صورة من كان يوصف بأنه «الخيار الأوحد حاضرا ومستقبلا» في زمن سادت فيه عبادة الفرد في شخص «صانع التغيير» وخانق التعبير، برزت هذه الطوابير على أمواج الاذاعة وشاشة التلفزيون وصفحات الجرائد في محاولة فاشلة لافتعال عذرية جديدة طمعا في مكسب جديد أو دور ما يقومون به في عهد الثورة، شعارهم في ذلك أن «روح السياسة أن تروغ مع الرياح». منهم من يدعي انه كان يجهل ما كابده الشعب من كبت وقمع ونهب، أو على الأقل يجهل الحجم الحقيقي لتلك التجاوزات، ومنهم من يتعلل بأن انفراد بن علي بالحكم المطلق لم يكن يسمح لأحد بالنصح او الاعتراض ولو على استحياء، ومنهم من يزعم انه انخرط في نظام بن علي ايمانا بوعود التغيير فلما تنكر النظام لوعود السابع من نوفمبر وفشلت محاولات التنبيه والاصلاح انسحب من الساحة من قبيل اضعف الايمان، وتكاثر أدعياء الرصيد النضالي وفرسان الحرية. وكأن الثورة ومبادئها النبيلة مجرد موضة لا يليق بهم التخلف عن ارتداء جلبابها وتبني مطالبها، تماما مثلما فعلوا حين تبنوا اللون البنفسجي المحبب الى الرئيس المخلوع حتى صار بمثابة اللون الرسمي للدولة أو حين تسابقوا على المناداة بترشيح بن علي لولاية رئاسية جديدة رغم أنف الدستور. لقد كدنا ننسى الكثيرين من رموز الماضي البعيد والقريب الذين اختفوا من الساحة طوعا أو ابعدوا عنها عنوة فإذا بهم يبرزون اليوم من جديد للمطالبة بدور يقومون به في عهد الثورة التي ليس لهم فيها باع ولا أدنى فضل عليها. ومع الاعتراف لهم بما قدموا للبلاد من خدمات في فترات سابقة يستحقون عليها الشكر والتقدير، عليهم ان يفهموا ان لكل جيل دوره ولكل عهد رجاله، فقد عاشوا عهدهم ولا يحق لهم ان يحرموا الجيل الجديد من أن يعيش عهده. ومن فضائل هذه الثورة أنها فتحت الأعين وأطلقت الحريات العامة ودقت نواقيس الصحوة الى حد لم يترك مجالا للاعتقاد بأن الشعب غبي يمكن التلاعب بعقله عبر قنوات التعبير المفتوحة للجميع. وعلى ذكر قنوات التعبير لابد من كلمة عن منظومة الاعلام التي كثيرا ما اعطت الانطباع بأنها أبواق دعاية سياسية وفضاء فسيح للتخدير الكروي والاشتغال بالقضايا التافهة عوض الاسهام الفاعل في نشر الوعي وكشف الحقائق والتنبيه الى الأخطاء والتجاوزات، بيد أنه اعتبارا للقيود التي كانت تكبل الاعلام لا لوم على الصحفيين الذين كانوا محكوما عليهم بالصمت او بالرقابة الذاتية خوفا من فقدان مورد رزقهم الوحيد ومن القمع الذي لا يرحم،وهنيئا لهؤلاء بمناخ الحرية الذي وهبه لهم شهداء الحرية فانطلقت أقلامهم وألسنتهم في مشهد اعلامي منعش رغم ما يتخلله أحيانا من شطحات وانفلات نلتمس له العذر في ما كانوا يعانونه من كبت وشوق الى الحرية، غير أن في الساحة الاعلامية وجوها أخرى مارست التزلف وتفننت في لعبة الدف والمزمار في ظل النظام السابق وحتى قبله الى حد الايهام بأنهم كانوا يؤمنون بكل ما دافعوا عنه من مواقف وافكار وأنهم كانوا أبعد ما يكون عن التملق وعبادة الشخص. وأقل ما هو مطلوب من هؤلاء ملازمة الصمت من باب الحياء والامتناع خاصة عن لعبة التلوّن المفضوح التي يأباها شرف الكلمة الحرة. ومن حق الثورة على كل الأدعياء أن يراعوا حرمة دماء الشهداء، وأن يتحلوا بشيء من الحياء ليلوذوا بالصمت عسى أن يفوزوا بالنسيان عوض تعريض أنفسهم لنقمة شعب تفتحت عيونه ولم تعد تنطلي عليه ألاعيب المراوغة والتلون حسب أهواء الرياح. وأخيرا، افهموا أيها الادعياء من وجوه الماضي ان تونس في حاجة أكيدة بعد ثورة الشباب الى نظام جديد يقطع مع الماضي وتقاليده المقيتة، والى جيل جديد من المسؤولين المؤمنين بأنهم موظفون لدى الشعب، وبأن ولاءهم الوحيد لتونس وليس لأي زعيم مهما علا شأنه، والمرغوب منكم يا ساسة الماضي ان تستريحوا بعد نضالكم الطويل، وأن تكفوا مشكورين عن عرض خدماتكم الجليلة على جيل جديد لستم على نفس الموجة معه، وأقصى ما يمكن ان تخدموا به البلاد توثيق ذكرياتكم بالحد الأدنى من النزاهة حفظا للذاكرة الوطنية من الضياع.