تحدثنا فيما سبق عن مفهوم الانسان من خلال المنظور القرآني. وكان ذلك بعد تحليلنا لسورة التوبة التي حددت مكانة المؤمنين والمؤمنات من جهة، ثم الكفار والمشركين من جهة ثانية، ثم أهل الكتاب من جهة ثالثة. هذا بالاضافة الي المنافقين والبدو او الأعراب. كما وذكرنا الاعلان الشهير الذي أصدرته الثورة الفرنسية عن حقوق الانسان والمواطن والذي يتموضع داخل منظور آخر غير المنظور القراني او الديني بشكل عام. نقصد بذلك المنظور العلماني الحديث للانسان. ومعلوم ان الساحة الفرنسية كانت مقسومة اثناء ظهوره الي عدة فئات متمايزة عن بعضها البعض من الناس. فهناك فئة اصحاب الامتيازات من نبلاء اقطاعيين وطبقة رجال الدين. وهناك فئة البورجوازية الصاعدة التي تريد ان تحل محلهم، وقد حلت لاحقا. وهناك اخيرا فئة عموم الشعب الفقراء. وكل هؤلاء ساوي بينهم الاعلان الشهير لحقوق الانسان والمواطن ولم يعد يميز بينهم كما كان يحصل سابقا ابان العهد القديم السابق علي الثورة الفرنسية. لقد ساوي بينهم علي الاقل نظريا اما عمليا فلم تكن العملية سهلة. واما الان فنريد ان نقارن بين الماضي والحاضر ونقول ما يلي: لكي نكمل ما قلناه سابقا ينبغي القول بأنه يتوضع داخل تحقيبات زمنية مختلفة قديمة وحديثة. فهناك المنظور الزمني الأخروي، والاسطوري، والاسطوري التاريخي، والتأريخي، والتاريخي النقدي. ولا ينبغي الخلط بين هذه المنظورات المتنوعة والمختلفة. ولكن بقي علينا ايضا ان نقوم بدراسات مقارنة لكي نتعرف علي الانسان ضمن المنظور اليهودي التلمودي، والانسان ضمن المنظور الانجيلي ورسائل بولس، والانسان ضمن منظور الميتافيزيقا الكلاسيكية، والانسان ضمن منظور عصر التنوير ابان القرن الثامن عشر، والانسان بحسب مفهوم البورجوازية الفاتحة والصاعدة، والانسان ضمن منظور النزعات الشكلانية والانشائية، والانسان الذي أعلنت البنيوية عن موته، والانسان ضمن منظور الشيوعية المتمركسة، والانسان ضمن منظور الفلسفة الليبرالية والسوق الحرة، وانسان الارهاب العالمي، الخ..ان جميع هذه التجليات التاريخية للوضع الانساني تهدف الي تعرية مزاعم الاديان والاشكال المتغيرة للحداثة في امتلاك النزعة الانسانية الكونية، هذه الكونية المحتفل بها بكل صخب في كل مكان..نقول ذلك علي الرغم من ان العقل لم يفتح بعد كل ورشات المعرفة والممارسة القابلة للتعميم كونيا. فعلي مهلكم قليلا ايها السادة! فنحن لم ننته بعد من استكشاف الامكانيات المتاحة لبلورة تصور واسع، كوني، جديد، متسامح فعلا، عن الانسان. انه لمن الخطر ان نواصل هذه المقارنة الحامية بين مختلف التصورات المشكلة عن الانسان عبر العصور بدون ان نصطدم بعقبات كثيرة مرتبطة بتراكمات اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه. وهي ناتجة عن تراكمات النزعة المحافظة لكبريات التراثات الدينية وعما يمكن ان ندعوه بالهيمنة العنجهية فكريا وسياسيا لعقل التنوير الغربي. ومعلوم ان هذا العقل يواجه حاليا او قل واجه سابقا ولا يزال يواجه حتي الان ثلاث إيديولوجيات حديثة منافسة. وهي علي التوالي: ايديولوجيا البورجوازيين الفاتحين للقرنين التاسع عشر والعشرين والتي استمرت هيمنتها حتي عام 1945. ثم الايديولوجيا الماركسية- اللينينية- الستالينية التي هيمنت علي جزء كبير من العالم من عام 1917 وحتي عام 1989 تاريخ انهيار الشيوعية. وأخيرا ايديولوجيا نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما وصدام الحضارات لصموئيل هانتنغتون والتي يحاول بعضهم اتقاء شرها عن طريق طرح فكرة حوار الحضارات علي طريقة رئيس الوزراء الاسباني المستنير زاباتيرو. وكل هذه الاشياء تمثل ورشات عمل هائلة تفتح علي طفرات كبري جديدة للفكر والثقافات والحضارات. ولا استطيع ان أعالجها كلها هنا ولا حتي ان احاول تقديم قائمة مراجع نقدية بها او حولها. وهي مراجع يمكنها ان تشكل ركائز موثوقة من اجل استكشافات مطولة لاحقة. ولكني سأتوقف عند مثلين مفيدين يخصان العلاقات النظرية والعملية الكائنة بين الدين والسياسة كما كانت قد عولجت اثناء الاحتفال بالمئوية الثانية للثورة الفرنسية عام 1989. المثل الاول يخص تلك الفكرة التي طرحها المنظمون للاحتفالات والقائلة بضرورة دعوة أعلي الممثلين للاديان الكبري الموجودة في فرنسا لكي يعبروا عن رأيهم بالثورة الفرنسية اليوم ولكي يساهموا في تقييم محصلتها الختامية بعد مرور مائتي سنة عليها. والواقع ان هذا الاقتراح اتي من جهة السياسي المخضرم ادغار فور الرئيس السابق للبرلمان الفرنسي والرئيس آنذاك للجنة الاحتفالات. ولكنه توفي لاحقا بفترة وجيزة وقبل ان تبدأ هذه الاحتفالات بالذات. ولأسباب مجهولة لا ندركها تخلي الشخص الذي حل محله عن هذه الفكرة ورفض دعوة رجال الدين الكبار كما كان مقررا سابقا. وهكذا حرمنا من وثيقة مفيدة كانت ستعلمنا عن موقف مختلف رجال الدين من مسيحيين ومسلمين ويهود بخصوص المحصلة التاريخية للثورة الكبري. نقصد موقفهم من تلك المسألة التي لا تزال مفتوحة والخاصة بسياسة الدول العلمانية تجاه ليس الاديان الخصوصية بحد ذاتها وانما تجاه معرفة المسألة الدينية وكل ما يخص التعليم النقدي لها. المثل الثاني مرتبط ايضا بالاحتفالات الخاصة بالثورة الفرنسية. وهو يؤكد ايضا علي متانة هذا التوجه بل وضرورة القيام بتحقيق غير متحيز ومهديء للامور بين كلا المعسكرين الديني والعلماني. هذا المثل يخص القرار الذي اتخذه الرئيس فرانسوا ميتران في ان تحتفل البلاد بادخال الاب غريغوار الي البانتيون: أي الي مقبرة العظماء في فرنسا تخليدا لذكراه نظرا لمواقفه التقدمية ابان الثورة. وهنا نجد أنفسنا في صميم الانقسام الذي أصاب الوظيفة الرمزية الدينية التي هيمنت طيلة قرون طويلة في فرنسا من خلال المسيحية الكاثوليكية والوظيفة الرمزية العلمانية التي دشنتها الثورة الفرنسية. لقد حصل انشطار بين هاتين الوظيفتين او قل حصل صراع ضار بين الرمزانية الدينية والرمزانية العلمانية. ان اختيار الاب غريغوار لنقل رفاته الي البانتيون يعود الي كونه صوت علي دستور الكهنة الذي شكلته الثورة لحل المشكلة الدينية والذي رفض من قبل معظم الكهنة الآخرين المضادين للثورة. وبالتالي فان هذا الاختيار يعبر عن رغبة الرئيس الاشتراكي في شق طريق داخل تاريخ فرنسا لتجاوز الصراع بين المتدينين والعلمانيين وهو صراع لا تزال جراحاته دامية. انه يحدث الانقسام بين فرنسا البنت الكبري للكنيسة، وبين فرنسا الثورية العلمانية المضادة للاكليروس المسيحي. وعندما دعي الكاردينال لوستيجير بتاريخ 12.12.1989 لكي يشرّف بحضوره هذا الاحتفال الرسمي علي شرف الاب غريغوار رفض تلبية الدعوة. وقد عبر بذلك عن رفضه لخلع المشروعية علي موقف الاب غريغوار حتي بعد مائتي سنة علي الحادثة لان هذه المسألة حساسة وتخص السلطة العقائدية الكاثوليكية. هذان المثلان يظهران نقصا في التواصل بين الطرفين حول الرهانات الروحانية والسياسية للثورة الفرنسية. وهذا النقص نجده ايضا في مسارات تاريخية اخري مشابهة. وهو يعبر عن عدم كفاية الوسائل الفكرية المتوافرة لدينا. فنحن بحاجة الي ادوات فكرية ومنهجية جديدة تكون من المتانة بحيث انها قادرة علي فك التشنجات والتصلبات المرتبطة بالانحرافات الدوغمائية والايديولوجية. وهي انحرافات خاصة بمشاكل واقعية مرتبطة بكل ما ذكرناه آنفا عن التراثات الحية. وهذه الوقائع المتعلقة بالتاريخ المحوري لمسار تاريخي ذي أهمية نموذجية تحيلنا الي تفحص تراكمات المستحيل التفكير فيه واللامفكر فيه المؤبدتين في موقفين معرفيين واصطلاحيين تمارسان عملهما كتراثين حيين. والسؤال المطروح هنا هو التالي: كيف يمكن ان نقيم الاختلافات والرهانات المتعلقة بالثورات الدينية في مواجهة الثورات العلمانية الحديثة؟ وكيف يمكن ان نحدد بالنسبة لكل المتخاصمين الرهانات الفلسفية والانتربولوجية لثقافة الايمان وثقافة اللاايمان آخذين بعين الاعتبار انعكاس موازين القوي بين الطرفين طبقا للانظمة السياسية السائدة حاليا؟ وماالذي يمكن قوله عن التفكك الذي أصاب الوظيفة الرمزية في كلتا الحالتين وفي جميع المجتمعات البشرية؟