منذ ظهرت جماعة الإخوان المسلمين وملأت السمع والبصر خرجت من محاضنها التربوية ومشروعاتها الدعوية إلى الشارع المصري علانية ومهما أطلقوا عليها محظورة حينًا ومنحلة حينًا آخر، ووصل الحديث عن الإخوان ورموزهم في الحارات والأزقة والقرى رغم المحاكمات العسكرية والاعتقالات وتأكد الظهور الفعلي للإخوان عندما تغطرس النظام الحاكم وتبجح في انتخابات 2010 التي كان للإخوان دور كبير من خلالها في فضح النظام الحاكم داخليًّا وخارجيًّا. وجاءت الثورة وكان للإخوان المشاركة المؤكدة في التحضير لوقفتها الأولى عن طريق شبابهم الواعي وشاباتهم، والتي لم يكن من المتوقع أن تمتد لثورة فاعلة مؤثرة، ثم جاء دور حماية الثورة والكل يعلم كيف قيض الله لها من فضله أبناء الإخوان وقادتهم ليتنادوا بالنصرة لشعبهم وثورتهم، فكان النصر حليفهم. والآن تنتهي مرحلة من الانتخابات ويفوز المرشحون عن حزب الحرية والعدالة الذي أسسته الجماعة ليتولى ممارسة العمل السياسي وفق حرية مرتقبة وشفافية مأمولة ووحدة جلية لأبناء الوطن الأحرار على اختلاف انتماءاتهم العقدية والفكرية. وكثر الحديث واللغط حول الإخوان ومواقفهم وأهدافهم من جهات عدة منها المعادون لفكرة الإسلام الشامل ومنهم قليلو الاحتكاك بأفراد الإخوان وقليلو القراءة في أدبهم وتاريخهم ومنهم بعض المحللين السياسيين المحايدين وغيرهم، وكلها كانت منصبة على الإخوان كفصيل سياسي يتسابق إلى السلطة وهو حقه وله نضاله، وكم دفع من ثمن لذلك ولم يشكك أحد أبدًا في وطنية الفصيل ولا نضاله ولا دوره. ودعاني ذلك إلى كتابة هذه السطور لعلني ألفت نظر أحبابنا من المصريين وغيرهم في العالمين إلى أهمية الزاوية التي ننظر من خلالها إلى الإخوان المسلمين، لنرى الحقيقة واضحة ولا يقع أحد في الغلط أو خلط الأوراق أو الجزافية في الأحكام. فالإخوان المسلمون لا ننظر إليها على أنها حركة سياسية وإن كانت السياسة جزءًا مهمًّا من فروع نشاطها وتوجهاتها، كما قال مرشدها الأول الإمام البنا: (فإن قيل لكم إلام تدعون قولوا ندعو إلى الإسلام والحكومة جزء منه فإن قيل لكم هذه سياسة قولوا هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه المسميات). فالإخوان المسلمون امتداد لمنهج النبوة وحلقة من حلقات السلسلة الربانية في حماية الدين وشرائع الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خلال قوله صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"، ومن خلال قول الله عز وجل: (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) (يوسف: من الآية 108)، ولذلك قال الإمام البنا: (أيها الإخوان، أنتم لستم حزبًا سياسيًّا محدود الأهداف، ولستم جمعية خيرية محدودة المقاصد، ولكنكم روح جديد يسري في قلوب هذه الأمة فيحييها بالقرآن، وصوت عالٍ يعلو مدويًّا مرددًا دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ونور يشرق فيبدد ظلام المادة بنور الإيمان). فمن النظرات القاصرة أن ننظر إلى الإخوان فقط من زاوية النضال من أجل حكم الشعب وإدارة شئون البلاد والعباد وفق ما يحب ربنا ويرضى ومن وحي الكتاب والسنة. فهذا جزء تتساوى فيه الجماعة مع كثير من المناضلين السياسيين المخلصين في البلاد، ولكنها تعلو بأهدافها أنها لا تطلب زعامات ولا كراسي، ولذلك لا يلعب الأفراد ولا مصالحهم دورًا في هذا، إنما هو المنهج الرباني الواعي المتفق مع مقدرات شعبنا وأصوله وفق حاجات الشعب وتطور حياته الطبيعي، بل ربما أجزم أن الإخوان بعد الثورة يثقون بأن الذين سيحكمون باختيارات شعبية هم من الأحرار المخلصين لهذه البلاد، وإن لم يكن فيهم واحد من الإخوان، وإن كانوا مع الإخوان فالتعاون مع الجميع من منطلق الهدف الواحد، وخلو الساحة من المنافقين والأفاكين، الأمر الذي تأكد الإخوان منه بعد الثورة، ومن ثقتهم في الشعب واختياراته مهما كانت. لا ننظر إلى الإخوان المسلمين على أنهم مجموعة مخصوصة منغلقين على أنفسهم لهم أسرارهم وأبعادهم وأهدافهم، فالإخوان منكم ومن جلدتكم ليسوا مجموعة خاصة بل إن الإخوان مجرد فكرة لحماية الإسلام ونشر قيم الحق والحرية والرحمة في العالمين، وهذه الفكرة يؤمن بها أقوام كثيرون من المسلمين ومن المنصفين، فمن آمن بهذه الفكرة هو مع الإخوان المسلمين، أليس كل المسلمين إخوة؟ ويؤمنون بفكرة الإسلام وصلاحيته لإصلاح الأرض؟ لذلك قال الإمام البنا: "الإخوان فكرة في نفوس أربعة مؤمن ومتردد ونفعي ومعاند". ننظر إلى الإخوان من خلال أفرادهم الذين هم بشر يخطئون ويصيبون، فالرجال ليسوا حجة على المنهج ولكن المنهج هو الحجة على الرجال، فإن نجحوا في تمثيله وتطبيق قيمه فهم أولى الناس بالانتساب إليه، وإن أخفقوا وغلبتهم بشريتهم فهم أبعد الناس عنه وهو بريء منهم، وهذا يجعلك واحدًا من الإخوان إن صدقت في فهم مرامي الإسلام والتزمت بمنهجه وإن لم تنضم يومًا إلى صفوفهم، فهذا ما قاله الإمام البنا رحمه الله: (كم منا وليس فينا وكم فينا وليس منا). ولا يمنع هذا أن تكون هنالك نماذج بشرية فذة تمثل عناصر القدوة من الإخوان على مدى تاريخهم وتبرهن على إمكانية تحقيق المثل في حياة الناس. لا ننظر إلى الإخوان على أنهم يعملون في سرية وداخل تنظيم فأما السرية فكان ذلك من ضروريات مرحلة تعرض فيها الإخوان للبطش والافتراء منذ عهود وكم نادوا: لو أعطيتمونا الحرية لأعطيناكم أسماء الإخوان كلهم وبياناتهم، وقد حلل ذلك المهندس خيرت الشاطر قائلاً: كنا نخفي أبناء الصف لأننا كنا كمن له جار مجنون يضرب أولاده كل يوم إذا رآه يوصلهم للمدرسة، فكان يخفيهم عنه لجنونه، ولكن لما مات المجنون ما عاد يخشى جنونه فأظهرهم، وهذا ما حدث تمامًا بعد الثورة وفي أجواء الحرية، ولنا في قصص الصالحين عبرة وهذا خطاب الله للشباب من أهل الكهف الفارين بدينهم من الملك الظالم: (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)) (الكهف). أما أنهم يعملون في تنظيم فالعمل للإسلام لا يكون إلا بنظام يرتب الصفوف ويوزع الجهود، ويحسن توظيف الطاقات (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4)) (الصف). ولكنه بنيان علني ظاهر الأهداف ظاهر الأشخاص، فليس لديه ما يخجل منه ليخفيه وهذه إضافة لهم لا عليهم. لا ننظر إلى الإخوان على أنهم غامضون في حساباتهم المالية كما يدعي خصومهم ويتهمونهم بالتمويل الخارجي، بل انظروا إلى جهاد أبناء الإخوان بمالهم وجودهم به رخيصًا في سبيل الله، نعم إن من ينظر لأموال الإخوان له الحق أن يتعجب فمن في عصرنا يتخيل هذا البذل المادي من أفراد الدعوة من أبناء الجماعة الذين يقتطعون من أقواتهم وأقوات أبنائهم على اختلاف رواتبهم ودخلهم ليدفعوا تبرعًا لدعوتهم، ولو تجمعت القروش من هذه الأعداد الكثيرة فإن الجبال من الحصى، إن أفراد الإخوان لم يبخلوا يومًا على دعوتهم ولا على إخوانهم في الماضي ولا في الحاضر وخاصة في أوقات الأزمات والحاجة، وهذا نظام قائم منذ تأسست الجماعة علاقاتهم قائمة على ثلاث التعارف والتفاهم والتكافل. لا ننظر إلى الإخوان على أنهم مغرورون كما يروج البعض ولو كانت هذه من خصالهم وشيمهم ما قال البنا: (نحن جماعة من المسلمين)، ولم يقل نحن جماعة المسلمين، حتى لا يزدري غيره من المخلصين العاملين لهذا الدين ويحتكر الفهم وحده والحق وحده، وما كان الإخوان ليتعاونوا في كثير من البلدان مع روابط وجمعيات تعمل للإسلام وفق منهج وسطي يوافق منهجهم كجنود فكرة تتفق مع الكتاب والسنة دون الظهور أو إعلان كلمة الإخوان. وما كان الإخوان ليخفوا جهودهم في الثورة وقال مرشدهم الحالي: (نحن نكثر عند الفزع ونقل عند الطمع). ولكنهم حافظوا على وطنهم أن تصيبه مؤامرات الخارج فيتهمون ثورته أنها شرقية أو غربية، ويحاصرونها وشعبها، وما كانوا ليحرصوا على ألا يرشحوا للرئاسة واحدًا منهم للغرض نفسه، وما كانوا ليحددوا نسبة مشاركتهم في الإدارة السياسية للبلاد ليفسحوا المجال للجميع. أما إن أطلق المغرضون على هذه التصرفات لفظ غرور فنقول لهم هذه ثقة الإخوان بربهم ومنهجهم وصدقهم مع ربهم وثقتهم في وعي شعبهم وذكائه وإيمانه، فهم يثقون في الله ثم في شعوبهم أكثر من ثقتهم في جهودهم وحركتهم ومشروعاتهم ورموزهم. لا ننظر إلى الإخوان على أنهم فصيل يريد تغيير المجتمع وعاداته وما ألفه الناس طوال سنوات من عمرهم. ولكن ننظر إليهم على أنهم يريدون الإصلاح فقط للأوضاع المغلوطة ولو تعودنا عليها لسنوات، وألفناها لعهود وأجيال فليس معنى بقاء الوضع المائل والزيف الهائل والخداع المحكم لسنوات طويلة حتى ألفه الناس وتوالدت فيه أجيال، أن يبقى بعد زوال وجهه القميء وكشف زيفه وضلالاته. فقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زمانًا سيأتي لا يرى الناس فيه إلا الباطل لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يلبث الجور بعدي إلا قليلاً حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره، ثم يأتي الله بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء، ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره". مع الإيمان بوجود الفئة المتمسكة بدينها إلى أن تقوم الساعة فلا مانع إذا من أن تتغير الأوضاع على يد الصالحين المصلحين للأحسن والأفضل، وتبقى الحريات الشخصية والخلوات مصونة محترمة والحساب على الله ولقد سعدت البشرية بالإسلام وما كان إلا ثورة على العادات الجاهلية السيئة للعرب وغيرهم وأبقى الصالح منها وأثنى عليها. لا ننظر إلى الإخوان على أنهم سيمنعون الفن ويقتلون المواهب، فلقد كان شباب الإخوان في الجامعات خير من يقدم عملاً فنيًّا هادفًا وبدراما عالية المستوى، وكذلك في أفراحهم ومناسباتهم ومنهم الأدباء وأهل الإخراج والتمثيل وغيرهم، ويكفيك في قراءة تاريخهم أن تعرف أن أول مسرحية للإخوان المسلمين تم إنتاجها عام 1934 وافتتحها الإمام البنا بنفسه، أتعرف من أبطالها؟! إنها المفاجأة طبعًا: عزيزة أمير ومحمود المليجي وعباس فارس وفاطمة رشدي وجورج أبيض. والممثل حسين صدقي فكر يعتزل التمثيل لأنه أحس بأنه حرام وذهب للشهيد سيد قطب ليسأله أتدري ماذا قال له سيد قطب؟- المتهم بالتشدد- إنني أكتب عشرات المقالات وأخطب عشرات الخطب، وبفيلم واحد تستطيع أنت أن تقضي على ما فعلته أو تقويه، أنصحك أن تستمر لكن بأفلام هادفة. لا ننظر للإخوان على أنهم كارهون للسياحة والسياح بل العكس لقد فاجأ الإخوان الجميع بأول تحرك سياسي لهم عقب المرحلة الأولى من الانتخابات، أن عقد حزب الحرية والعدالة صفقة سياحية واسعة مع تركيا لكن باحترام سيادة دولتنا وقوانينها. لا ننظر للإخوان المسلمين على أنهم شيء ونحن شيء بل استمع إلى الإمام البنا وهو يقول: (وليعلم قومنا أنهم أحب إلينا من أنفسنا بل نقدم أنفسنا فداء لهم إن كان فيها الفداء)، ويقول: (نحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب ولن نكون عليكم يومًا من الأيام). ولا ننظر إلى الإخوان على أنهم جماعة خرجت من تحت عباءتها كل جماعات الإرهاب كما يروج المفلسون فإن كانت قيادات أو بعض أفراد جماعات التطرف والتشدد كانوا في بدايتهم مع الإخوان وانفصلوا عنهم أو انفصل عنهم الإخوان، فلننظر إلى الناحية الإيجابية ولنعترف لهذه الجماعة أنها تلفظ التطرف وترفض العنف، ولذلك لم تقبل أن يكون بين صفوفها من تشدد أو عمل على تكفير المسلمين أو استعمال العنف في الدعوة تحت أي مسمى. وخير دليل على هذا ما أعلنه المرشد الثاني حسن الهضيبي رحمه الله حينما انتهج بعض الإخوان منهج العنف والتكفير وهم في السجن نتيجة ما فعله معهم الطغاة فقال لهم: "نحن دعاة لا قضاة"، وألف كتابًا بهذا العنوان ليكون منهجًا للفكر الإسلامي الوسطى. وكذلك في السنوات الأخيرة رفضت الجماعة من يقدم النظرة السياسية والمكسب السياسي على حساب الوطن وأمنه وحمايته أو مقابل تنازلات عن ثوابت الدعوة ومرجعيتها من الكتاب والسنة وأخبار الجماعة معلنة للجميع. الإخوان منذ بدايتهم أهل شورى وقياداتهم يأتون بانتخابات داخل الصف بكل قواعده، وحوكموا عسكريًّا عام 1995 بسبب عقد اجتماع للانتخابات الداخلية لمجلس الشورى للإخوان ونشرت نتيجة الانتخابات في الصحف. فلننظر إلى الإخوان على أنه الحلم المصري الذي تحقق بوطنية أبنائه وشجاعتهم، فكم من أثمان مدفوعة دفعها الإخوان ومعهم المخلصون من أبناء هذا الوطن، وكم من أثمان مدفوعة في هذه الرايات المرفوعة فلا تنكسوها ثانية بخلط الأوراق وجزافية الأحكام واستباق الأحداث والنظر تحت الأقدام، فلا خوف ولا شكوك والله تعالى يقول: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50)) (النور). ------------------ * مدرس بجامعة برلين والمنسق العام للتجمع الأوروبي للأئمة والمرشدين