للدكتور عبد الله النفيسي في قلبي وعقلي مكانة وتقدير، لما بذله الرجل من جهد فكري، ولا يزال يبذل، وقد قرأت كثيرا من كتبه، وأبرز ما فيها أنها نقد لأوضاع في الأمة العربية والإسلامية، وركز في بعض كتبه على نقد الحركة الإسلامية، وهو أمر محمود لا ريب، ونفس المكانة أحملها للأستاذين جمال ومحمود سلطان، ولو سألني سائل عن أول موقع أقرأه في مفتتح عملي صباحا لقلت له: (المصريون)، ولو سئلت عن أول مقال أحرص على قراءته، فهو مقال الأستاذ محمود سلطان، رغم أنه لا يوجد بيننا سابق تعارف كما بيني والأستاذ جمال سلطان، وجماعة الإخوان لها نفس المكانة في القلب، وهي معقد الأمل مع بقية الحركات العاملة للإسلام في نهضة الأمة، ورفعة بنيها، ويهمنا دوما تسديد خطاها، وترشيد حركتها. قدمت بهذه التقدمة لأتناول بالنقد ما نشره موقع (المصريون) ومجلة (المنار الجديد)، من مقال الدكتور النفيسي (الحالة الإسلامية في قطر)، وما دار من نقاش اتسم بأوصاف مختلفة جمع فيها بين الحدة والرقة، وبين الموضوعية والسطحية، وبين العلمية والعاطفية، وأردت أن أنتظر حتى تنتهي التعليقات، لأدلي بدلوي في الموضوع، لما أعلمه يقينا، ويعلمه القائمون على التجربة وغيرهم من إلمامي بهذه التجربة تماما، وبالواقع الإسلامي في قطر، حيث تربطني علاقة ود وتعاون مع كل التيارات الإسلامية العاملة في قطر والحمد لله. كما أني مكثت ولا زلت في قطر ما يقرب من تسع سنوات، لم أنقطع فيها عن العمل الدعوي بكل أطيافه، واللقاء بالناس من كل جنسيات الأرض، ومن كل دياناتها كذلك، وتربطني بالجميع علاقات عمل وتفاهم. ومسألة النقد والتجديد في الأفكار للأسف تواجه عند الإسلاميين بنوع من الريبة وبخاصة لو كان النقد من خارج إطار المؤسسة المنتقدة، وهذا من محض الخطأ، وأرى أن هناك جملة مؤاخذات على الجميع في هذا الموضوع، على الدكتور النفيسي، والأستاذين: جمال ومحمود سلطان، وكذلك على الإخوان المسلمين. المأخذ الأول: وهو ما آخذه على الدكتور النفيسي والأستاذين محمود وجمال سلطان، أنهم تحدثوا عن تجربة أزعم زعما أقرب لليقين أنهم لم يسبروا غورها تماما، ولم يلموا بكل أطرافها، ولم يتضح بعد نجاحها من إخفاقها، وأستطيع أن أقول بحكم قربي من أطراف الخلاف عامة، ودراستي للتجربة عن قرب من أطرافها. كما أن الدكتور النفيسي جعل عنوان الدراسة أو المقال عنوانا فضفاضا غير محدد، فجعله (الحالة الإسلامية في قطر) ولو جعله (الحالة الإخوانية في قطر) لأصاب، فالعنوان يوحي بأنه سيتكلم عن كل التيارات الإسلامية في قطر، أما مقاله فيوحي بأنه لا يوجد في قطر إلا الإخوان، والإخوان الذين قاموا بحل التنظيم فقط، مع أن التيارات الأخرى في قطر أكثر تواجدا، كالتيار السلفي، والتيار التبليغي، والتيار السروري، وهم لهم من التواجد القوي أكثر من التواجد الإخواني في قطر. لقد التقيت قبل نشر دراسة الدكتور النفيسي بيوم واحد بالتحديد، مع المنظر الأول لهذا التوجه (توجه حل تنظيم الإخوان)، ودار بيننا حوار مطول، حول هذه التجربة، وهل تم تقييمها أم لا؟ وهل ثبت نجاحها أم لم يثبت؟ وكيف يستفاد منها، وما الأخطاء التي يجب تجنبها؟ كل هذا على المستوى الإسلامي عموما، والقطري خصوصا. وما انتهيت إليه: أن التجربة لم تقيم بعد. ونفس السؤال سألته لمعظم هذا التيار، فكانت الإجابة واحدة: إنها تجربة لم يثبت نجاحها من فشلها، والأمران قائمان، ولا يستطيع أحد منصفا كائنا من كان أن يحكم بالنجاح أو الفشل الآن، فهي تجربة لم تتعد السنوات الثلاث، وليس كما ذكر الدكتور النفيسي سنة 1999م. كما دعاني تطفلي العلمي أن أسأل من قاموا بتجربة الحل: هل تصلح هذه التجربة في باقي دول الخليج، ومصر؟ وكانت إجابة معظم من التقيتهم: لا، هي تجربة خاصة بقطر، وعوامل نجاحها خارج قطر ليس بنفس الدرجة، بل وأكدوا: أنها لا تصلح لا في السعودية ولا الكويت ولا البحرين ولا الإمارات، ولا مصر، لأسباب لست مخولا في الإفصاح عنها، والمجالس بالأمانة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل إن أطراف التجربة القطرية وردود الأفعال الإخوانية حولها في وقتها وما بعدها، وصلتني تفاصيلها كاملة، من معظم الأطراف المشاركة في الموضوع، وكلها عندي بين ما هو مكتوب، وما هو شفهي من الأفواه، لعل الله ييسر إذا أذن أصحاب الشأن بنشرها أن أتناولها بالتفصيل للوقوف على سلبياتها وإيجابياتها. المأخذ الثاني: وهو على جماعة الإخوان المسلمين، فليس كل فكرة مهما كانت غرابتها أن تقابل بهذا السيل من العاطفة المجردة من العلمية الذي بدا من كثير من شباب الإخوان، كان ينبغي أن يكون الرد علميا، وأن نقول: لا مانع أن ندرسها ونرى صحتها من خطئها، إننا نحن الإسلاميين للأسف، لا نعرف كيف ندير حواراتنا، وفي أحيان كثيرة نصنع أزمة من فكرة، هي مجرد فكرة، ليس خطأ أن تطرح، ولكن يأتي الخطأ في التعامل مع الطرح، وهل كان يتوقع الإخوان الذين عاصروا حسن البنا أن يأتي يوم يتبنون فيه القبول بالأحزاب، ومعلوم كلام حسن البنا في الأحزاب، لو أن أحد تلامذة البنا قال هذا الكلام في عام 1950، أو في حياة البنا لقوبل اقتراحه باستهجان واستغراب. بقي سؤال منهجي على الإخوان أن يتساءلوه ويجيبوا عنه: هل الإخوان جماعة أبدية؟ وهل التنظيم وسيلة أم هدف؟ لا أظن أن عاقلا ولا عالما في جماعة الإخوان سيقول: إن التنظيم هدف، إلا كان يجهل رسالة دعوته، وغايتها، ويكون قد جاء بقول هو أشبه ببدعة في فكر الإخوان والإسلام قبل الإخوان، فالتنظيم وسيلة يستعين به الجماعات والأمم والشعوب على إدارة وتحقيق الهدف، وهذا التنظيم قد يصاحبه السرية أو العلنية على حسب حال الجماعة الأمني، وكلنا يعلم: أن الإخوان يلجأون للتنظيم المحكم الدقيق والسرية الشديدة، كلما زاد الضغط عليهم، بل تخطط الحكومة في التعامل معهم لدفعهم لهذا دوما، رغم إعلان المرشد السابق مأمون الهضيبي لاستعداده الكامل لنشر أسماء الإخوان على الإنترنت، شريطة ألا يمس أحد منهم بسوء في رزقه وأمنه! لكن ما لا يقبل بحال من الأحوال لجوء الإخوان في بلاد تتسم بالحرية والعلانية إلى السر، وتعميم مبدأ رفعه الإخوان المصريون: علانية الدعوة، وسرية التنظيم، ليصبح شعارا عاما حتى في بلاد أوروبية تعطي المواطن والمقيم على أرضها حق العمل العلني دون حرج أو مساءلة، ما دام في إطار القانون، وهو ما بادر بتصحيحه مرشد الإخوان في حواره مع جريدة الشرق القطرية منذ ايام ، وجعله علانية الدعوة ودقة التنظيم. ورأيت نفس الأمر في بلدة عربية، وقلت معلقا بما يعرف عن الأزهريين بالنكتة، حيث نشاط الإخوان رسمي وعلني، فقلت لرئيس كتلة الإخوان الدكتور محمد الكتاتني: لماذا لا تملأ استمارة عضوية هنا، حتى إذا عدت إلى مصر، لم يجرؤ أحد على أن يقول لك: إنك تنتمي لجماعة محظورة؟! وضحك وقال: فكرة. ولكن هذا العمل العلني المسموح به، فوجئت أن مبدأ: علانية الدعوية وسرية التنظيم، يردده الشباب هناك، ويبتنونه! فيبدو أن هناك خطأ في التربية لا بد أن يصحح عند الإخوان، وهو: أن الأصل في العمل الدعوي الإسلامي العلن والصراحة، ولا يضطر إلى العمل السري إلا في الظروف الاستثنائية. ما لاحظته أيضا من الردود والتعقيبات: أنك عندما تلتقي بكوادر كبيرة في الإخوان تجد تفهما لما تقول، وما تطرح، بينما يغيب هذا التفاهم عند الدرجات التي تلي مستوى الكبار، وقد قال بعض الكتاب مرة: إن الإخوان جسد بلا رأس. ويبدو أن الصورة ليست كما قال الكاتب، فهناك رأس يفكر ويتعقل ويفهم، ولكن يبدو أن إشارات الرأس أو المخ لا تصل بصورة جيدة لباقي الأطراف. وهو ما يحتاج إلى مراجعة دقيقة من الإخوان. الأمر المهم الذي أريد الالتفات إليه: وهو قبول النصيحة، والتأمل العميق في كل فكرة تطرح، وعدم مقابلتها بالنقد والتشكيك في النوايا، حتى وإن خرجت الفكرة من إنسان لا تجمعك به ثوابت فكرية، أو من إنسان لا تلتقي معه في كل الحقائق، قد تلتقي معه في ثلث الحقائق الفكرية، أو في أقل أو أكثر، وليس أدل على ذلك من حسن البنا نفسه، الذي استفاد من تشكيلات الشيوعيين وغير الإسلاميين في تشكيلات الإخوان المسلمين، وهي نظام الأسر في الإخوان، والخلايا في الشيوعيين، واستفاد من تجربة النظام الخاص (التنظيم السري) من بقية الأحزاب المصرية في هذا الوقت. ليس معنى أن الفكرة لا تناسبك الآن، أنها على طول الخط مرفوضة حتى التفكير فيها، أو التشكيك في نوايا أصحابها، ولو قال النبي صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي في فكرة الخندق: إنها فكرة غريبة عن مجتمع العرب ورفضها لما جعل الله الخندق سببا في نجاة المسلمين من غزو كاسح من المشركين للمدينة، ينبغي على الإخوان أن يستفيدوا من كل ما يلقى في سلتهم الفكرية، وأن يأخذوا ما يناسبهم، وأن يقدروا ما لا يناسبهم، وعلى المفكرين أن يقدروا في الإخوان عوامل أصابت جماعتهم كما أصابتهم هم من قبل، وأصابت كل المؤسسات الفكرية والعلمية في العالم العربي والإسلامي، فهم ليسوا فصيلا غريبا عن جسد المجتمع، يصيبهم ما يصيبه، ويمدهم بالعافية ما يمده. كما أنهم يجدون أنفسهم في كثير من القضايا وحدهم في العراء، ولا يرون من بعض المفكرين سوى كتابات لا تساوي الحبر والورق الذي كتب عليه، وهذه ليست أزمة الإخوان فقط، بل أزمة كل العاملين للتغيير، فهم يسمعون جعجعة ولا يرون طحنا من أصحاب الفكر إلا ما رحم ربي من الذين يجمعون بين القول والعمل، بين التنظير والمشاركة الفعالة. هذه بعض ملاحظاتي على ما دار من نقاش حول دراسة الدكتور النفيسي، والتعقيبات والمقالات التي أعقبتها.