لم يجتمع التونسيون منذ الثورة وإلى اليوم على موقف واحد كالذي اجتمعت عليه النخب والأحزاب والحكومة والرئاسة والمجلس التأسيسي في موقفهم من حادثة العلم بجامعة منوبة، فهل هذا مؤشر أن السبب الحقيقي للأحداث والفاعل الأساسي في هذه الأزمة قد تم كشفه وانتهت بذلك المشكلة وحلت الأزمة؟ هل نطمع بان تونس قد انتصرت على أهم أعدائها من كان يهدد كلية منوبة ومن خلالها تونس والعالم الحر بأسره؟ الحقيقة أن الناجح والمنتصر في تفجير أحداث كلية الآداب بمنوبة هو ذاته من جعل من الأحداث هناك بؤرة تجلب الأنظار وتشيع المخاوف وتشحن الأجواء وتبرر الاعتصامات والانفلاتات ... ولكن ما لم يتفطن إليه انه يعاود إذكاء الموضوع كلما كانت الحكومة على موعد مع حدث يدعم الاستقرار، أو قرب انفراج في أزمة ما، أو للفت الأنظار عن موضوع آخر بدا يستقطب الرأي العام (مناقشة الميزانية، بداية عمل الحكومة المنتخبة، محاكمة مدير قناة نسمة ولفت الأنظار عن اعتصام التلفزة والأحداث الأخيرة تتزامن مع زيارة الرئيس التركي؟؟؟) وهو ما يزيد من ترجيح القول بأن المقصود من الأحداث في كلية منوبة ليس بحال موضوع النقاب ولا السلفية وإنما يراد منها داعما للاضطراب ومنطلقا لمهاجمة الحكومة وعنوانا لفشلها في التعاطي مع السلفية والتطرف...ولكن لا احد منهم قدم البديل في التعامل مع الظاهرة هل يجب أن يوضع كل ملتحي أو من أسدل عليه القميص في السجن، هل يمكن اعتبار اللباس أو الانتماء إلى المجموعات السلفية ذنبا يوجب السجن والملاحقة؟ المحرك للأحداث مهما كان انتماؤه ومقصده، الذي لاشك معطل لمسار الثورة والانتقال الديمقراطي، استطاع تحقيق مراده من خلال أطراف متدخلة بشكل ما في الكلية وفي تداعيات الأحداث فيها ومن حولها، وهؤلاء متواطؤون مهما زينوا مواقفهم وبرروا تعاطيهم مع الأحداث، لأن ثورة كالتي حدثت في تونس ونخب علمية في الجامعة صدعت آذاننا بالحديث عن انجازاتها ومكتسباتها الحداثية والتقدمية لا يمكنها أن توصلنا فجأة إلى فشل تربوي بحيث نعجز بعد سنة واحدة من استيعاب نفر قليل من أبناء تونس ونلجأ معهم باستمرار إلى العنف والتجريم. المتواطئون هم أولا: العميد وإدارته ومساعديه.. فالمنقبات ظاهرة موجودة في عديد الكليات والمعاهد العليا، وقد تم الاتفاق بينهن وبين الإدارة في كل الكليات وتواصلت الامتحانات ولم يتفجر الوضع إلا في منوبة، بينما في بعض الأجزاء الجامعية لم يكلف الأمر العميد سوى جلسة قصيرة مع الطالبات فامتثلن وتم التوصل إلى اتفاق يحفظ النظام داخل الكلية، بينما أطال عميد كلية منوبة عمر الأزمة باستعمال كافة الأساليب كمن يزيد للنار حطبا كلما خمد لهيبها وهو في الحقيقة لا يدلل بذلك إلا على فقدانه الأهلية لان يشارك في ترسيخ ثقافة الاختلاف وقبول الآخر والحوار بين الفرقاء وهو من المهام الرئيسية لمؤسسة جامعية المفترض أن تقدم المثال لباقي المؤسسات التعليمية والتربوية فإذا بالجامعة تفشل في إدارة أول حوار يفترض أن يبدأ بعد الثورة وهنا لا ريب أن اللوم يوجه للعميد قبل الطالب الشاب المتحمس قليل العلم دينا ودنيا، وثانيا: أصحاب السعادة الأساتذة الجامعيون بموقفهم التاريخي وهم من علمونا تواضع العلماء وتفاني الباحثين ورسخوا فينا الجنوح إلى العقل وتغليب الحوار والتدافع الفكري وعدم قبول المسبق من الأحكام والموروث من القوانين والقيم فإذا بهم يتراجعون دفعة واحدة مطالبين الوزارة والدولة والكلية والدنيا بأسرها أن تطبق قوانين الإقصاء ورفض الحوار ونبذ هؤلاء الطلبة وهم أصحاب رأي ولو لم يعجب أحدا سواهم فالحرية لا تجزؤ والقيم لا تطبق نسبيا أو فارقيا بينما كان الدور التاريخي المنتظر من الأساتذة الأجلاء أن يبادروا إلى فتح الحوار والإصغاء إلى الطلبة والطالبات وليأخذ الموضوع أسابيع وأشهر ونحن في فترة تأسيسية المفترض أن تحتمل المراجعة والمصارحة فيلقى فيها كل التونسيين موطأ لهم وهو نصف الطريق إلى التفاعل والتوافق بينما يزيد الصد والنبذ والتشويه من الفجوة والتباعد ونعود إلى مربع الظلم والإقصاء...فأي المواقف اختار أساتذتنا الفضلاء؟ ثالثا: السلفيون من هم ومن ورائهم أما الطرف الذي ينظر إليه نظرة الفاعل المجرم العدو المخيف..فهم شباب السلفيين إن ثبت أن لدينا جسم أو فريق واحد منسجم منظم بهذا الاسم وثبت انه من يقف وراء هذه الأحداث فهؤلاء مجموعات وأفراد متناثرون هنا وهناك وراءهم وبينهم ومن خلفهم شكوك كبيرة عن تدخل واختراق من قبل التجمعيين فاقدي الاعتبار والثروة وما أسهل إطلاق اللحية وبالتالي تشويه الشباب المتدين الذي عرفناه منذ زمن طويل. هؤلاء مهما كانت انتماءاتهم وتصنيفاتهم هم من التونسيين أصحاب رأي ومواقف لا مجال اليوم لإنكارها عليهم ولا لأحد الحق في الوصاية على احد في فكره ومعتقده ولباسه وشانه كله، مع ذلك فهم متواطئون أيضا باستعجالهم استثارة مواضع خلاف متعددة غير مألوفة لأغلب التونسيين بحكم ما رسخه فيهم النظام البائد من مخاوف وهواجس من التدين ومظاهره، أيضا زاد هؤلاء الشباب ومن يقودهم في المساجد ويوجههم من تهييج مشاعرهم فكان تفاعلهم مع الأحداث انفعاليا في بعض الأحيان وخطيرا جدا في أحيان أخرى وما حادثة العلم منا ببعيد وقبلها مشادات واعتداءات متبادلة. رغم قناعة الكثيرين بان الاختلاف حق مكفول للجميع والرأي لا يدفع إلا بالرأي فإن المغالاة موجودة والانفعال قريب للجوارح أكثر من العقل ولذلك على السلفيين ومن يدور في فلكهم أن يدركوا أن الانتصار للدين لا يعقل أن تكون نتائجه خوف الناس منه أو ابتعادا عنه وإنما يفترض التقاط هذه اللحظة التاريخية لإعادة تقديم الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة فهي أبقى من ابتزاز العواطف خوفا أو طمعا والإسلام لم يكن يوما مصدر خوف ولا فرقة وإنما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجمع الناس ويذهب الخوف عنهم ويدعوهم إلى الله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. إننا اليوم في تونس على موعد مع التاريخ لأننا أول بلد تنطلق منه الثورة العربية وبالتالي سيكون لتداعيات الوضع التونسي آثار على البلدان الأخرى وهو ما يحملنا مسؤولية تاريخية، ثانيا نحن لا نكاد نخرج من حقبة الاستبداد بما يعنيه من تشوه في جميع أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية وبالتالي فإن الخروج من هذا الوضع يتطلب صبرا وجلدا لكافة التونسيين وتفهما للمواقف والانفلات بل لعلنا في حاجة لحصص علاج نفسي جماعي على المثقفين والجامعيين والمحللين القيام به باعتبار أن الشعب كله لا يزال تحت وقع الصدمة، فمنا من كانت له الثروة والسلطة والاعتبار وفقدها أو يفقدها وبعضنا كان مضطهدا لا يملك شيئا وأورث سلطة مفخخة وآخرون يتحسسون التوبة ويبحثون عن مواطن نضال وثورية مفقودة.....وكل هذا يجعلنا فعلا في مربع التأسيس الجماعي للمشهد التونسي الجديد ولسنا في موضع الحكم والمعارضة كما يريد لنا البعض أن نفهم تصرفاته وانزلاقاته ....أخيرا المسؤولية ليست متساوية فشتان بين شاب أو معطل عن العمل أو مواطن مثقل بالمشاغل مهموم بالاحتياجات العاجلة فيأتي سلوكا هنا أو هناك وبين مثقف وسياسي وخاصة أستاذ جامعي لا يقدر على تحمل مسؤولية تاريخية فيشارك في تفادي المزالق والألغام بل يدفن رأسه في التراب أو يزيد من تفاقم صراع مصطنع حول قضية هامشية أريد لها أن تكون عنوانا لفشل الثورة التونسية.