"... فَكَانَ مُعَاوِيَة يعلّق قَمِيص عُثْمَان على الْمِنْبَر تحريضا على قتال عَليّ..." *** كفى صخبا!.. فتونس وطن لجميع بَنَاتها وبنيها مهما اختلفت ألوانهنّ وألوانهم وتمايزت لهجاتهنّ ولهجاتهم وتباعدت أفكارهنّ وأفكارهم وتفاوتت أشواقهنّ وأشواقهم.. وليس لأحد أن يدّعيَ تفرّده ببنوّتها أو أن يباريَ سواه في عشق ترابها المعجون بدماء شهدائها ودموع عشّاقها وعرق عمّالها.. وإلاّ كنا كمن يعيد إنتاج منطق التخوين الذي نروم نفيَه من أرضنا.. والتخوين شقيق التكفير وبعضٌ منه... *** سطوة الصورة: كلّما تحوّلتَ إلى قناة من أقنية الأرض والفضاء، هذه الأيّام، في برّ تونس الثورة وجدتَ عويلا في صحارى المعاني.. نواحا لا يراد له أن يتوقّف.. ولسان حال النائحين يستصرخ: وا علَمَاهُ! وا تونساه!.. يستنفر القوم أصواتهم والصورَ لشجب مشهد عجيب غريب يحدث مرّة كلّ ثورة.. مشهد اعتداء على الوطن.. كيف؟ ولماذا؟ شابّ من غُلاة السلفيّة نفاة الديمقراطيّة "ينتزع" عَلَمَ تونس – هكذا قيل والعُهدة على روَاة لم يعودوا عُدُولاً، ويُحلّ مكانَه علماً آخر.. وتقفز في التوّ والحال فتاةٌ إلى السطح مصادفةً أو اتفاقاً لتتصدّى لهجمة شرسة تستهدف عَلَمَ البلاد المفدّى... تتلقّف الفتاة العَلَمَ وتحمل المشعل للناظرين المنتظرين.. تضجّ القاعة بالتصفيق.. مشهد فرجويّ.. دراماتيكيّ.. حريّ بأن تقتنصه عدسات السينما الوطنيّة الرائدة تعويضا لها عن فشل "لا ربّي... لا سيدي"... إنّها بلا شكّ أنوثة الحداثة الحالمة تتصدّى لسلفيّة ذكوريّة ظالمة.. ولقد ردّد شاعرهم من قبل "نساء بلادي نساء ونصف".. مشهد به حبكة عجيبة.. خيال لافت وتنفيذ موقوت.. وعدسات تتربّص للشهادة لا تخطئ الإصابة.. إنّ الوطنيّة كانت على بعض المتربّصين كتابا موقوتا.. فاشهد.. هؤلاء بَنوك أيّها الوطن.. فلا تدعْ بنيك طرفة عين ولا أقلّ من ذلك.. أمّا سواهم فليس لهم إلاّ أن يجمعوا قرآنهم وينصرفوا.. كما أمرهم صاحب الأمر من قبل ومن بعدُ.. صبيّ الوطنيّة الموقوتة.. صبيّ الخطابة القريحة والبلاغة الجريحة.. ذاك الذي ترى، إذ تراه، سقراطَ يخطر بين الورى.. *** لقد كان الاعتداء على العَلَم فعلاً شنيعا بلا شكّ لأنّ به تعدّياً على آخر رمز لإجماع التونسيين بعد أن شتّتت شملَهم حسابات السياسة ومزّقت وحدتَهم غوايات الكراسي... ولكن ردّ الفعل لم يكن أقلّ شناعةً من الفعل إذ جعل قومٌ من العلَم قميصًا يعيدون به إنتاج سلوك قديم فاعلُهُ معاوية بن أبي سفيان.. رفع قميص عثمان ليقتل ابنُه يزيدُ الحسينَ بنَ عليّ.. عسى ألاّ تكون موقعة العَلَم مقدّمة لكربلاء تونسيّة.. فردّوا على عثمانَ قميصَه حتّى لا يُقطعَ رأس الحسين من جديد وحتّى لا نرى بيننا طالبي دسم مائدة معاوية يتاجرون برموزنا وكنوزنا في غفلة من شعب أغلب بنيه إذا حضروا لم يُعرَفوا وإذا غابوا لم يُفتقَدوا.. ولقد أرى بالمشهد ما يعيد ذلك المشهد التاريخيّ الذي استثمره بنو أميّة لينشروا بالجبرية استبداد الساسة واستسلام المسوسين.. كأنّ في ما شهدنا محاكاة لذاك المشهد القديم... فقد جاء في كتب التاريخ: "وَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ خَرَجَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ وَمَعَهُ قَمِيصُ عُثْمَانَ مُضَمَّخاً بِدَمِهِ، وَمَعَهُ أَصَابِعُ زوجته نائلة التي أصيبت حين دافعت عَنْهُ بِيَدِهَا، فَقُطِعَتْ أصابعها مَعَ بَعْضِ الْكَفِّ.. فَوَرَدَ بِهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، فَوَضَعَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْمِنْبَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَعَلَّقَ الْأَصَابِعَ فِي كُمِّ القميص، وندب الناس إلى الأخذ بهذا الثأر والدم وَصَاحِبِهِ، فَتَبَاكَى النَّاسُ حَوْلَ الْمِنْبَرِ، وَجَعَلَ الْقَمِيصُ يُرْفَعُ تَارَةً وَيُوضَعُ تَارَةً، وَالنَّاسُ يَتَبَاكَوْنَ حَوْلَهُ سنة، ويحث بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِهِ..." ولقد يذهب بي التأويل بعيداً فأقول إنّ العلَم ليس سوى قميص لعثمان جديد.. يتخذ منه معاوية الجديد ذريعة لاغتيال الحلم.. فالعلَم حقّ يراد به غير الحقّ.. ولقد أقول إنّ فتاة العلَم تلك إنّما هي نسخة جديدة لزوجة عثمان المغدورة نائلة بنت الفرافصة.. وليس يعني القومَ منها غيرُ أصابعها المقطوعة ودمهما المخلوط بحمرة العلم المفدّى... لا يزايدنّ أحد على أحد.. وإلاّ صرنا إلى مصير صنّاع الفتنة الكبرى... دعوها، ولا تعودوا لمثلها، فإنّها مفجعة منتنة... نورالدين الغيلوفي