بقلم الدكتور المنجي الكعبي* ما يحدث في مصر لا بد من فهمه على وجهه الصحيح، لأن نجاح الثورة في قطر يعزز نجاحه في آخر. ومفتاح المعضلة في مصر العلاقة "الثورية" بين الاخوان والعسكر. فكلاهما عنصر في معادلة لا حل لها إلا بهما. ولا حساب في مهمة أحدهما بعزل الآخر. فدور العسكر من قديم إنما هو حماية الحدود من الطامعين ووأد نار الفتنة بين المتغالبين. إنهم عنصر رئيس في دائرة الدولة (السلطان - العدل - الجند - المال - الرعية). وكل عنصر من عناصرها يمكن أن ينحل وتنهار بسببه الدولة، إلا الجند تأخذه الهمة والنعرة لحفظها من الاختلال والسقوط. ولذلك فإنه إذا لم يُبق على وحدته لدفع كل خطر داهم تكون المنازعات بينه قاتلة، وكذلك إذا تصارعت قياداته على السلطة وقامت المغالبات بينهم على المسك بزمام الدولة. وليس غير دعوة حق، من دين ونحوه كما يقول ابن خلدون، توحّد صفوفه خلف قائد أو رئيس منقذ للأوطان من التشتت ومعيد لبهاء الدولة وقوتها من جديد. وهو ما يسمى بالعادل المستبد في بعض المصطلحات. والوضع في مصر، بعد سقوط حسني مبارك بثورة عارمة ترك رأس الدولة كالمقطوع ما لم تحتله قوة العسكر. لأنها الوحيدة الكفيلة ببسط الأمن والاستقرار في الفترة الانتقالية. وتَعيّن أن تسعى كل القوى السياسية القائمة والتي استجدت في ميدان التحرير وغيره في سباق من أجل الامساك بدواليب السلطة والنظام، لإعادة الحياة الى نصابها في الدولة ورد الجيش الى دوره المعهود. وهنا المشكلة، إذ لا بد من رد الجميل للجيش وإن كان واجبه تأمين مقام رأس الدولة لفترة بحزم وحيادية؛ فكان لا بد أن تكون له قرارات مسموعة من الجميع وفوق كل اعتبارات الجميع. والأمر بينه وبين غيره من القوى السياسية والثورية لا يدخل تحت طائلة أية ديمقراطية إذا لم يتعد المشورة والأخذ بالرأي الصحيح في الموقف الصحيح. والمؤتمن على أمر لا يخوّن عند التباس الأحوال. لكن القوى السياسية والثورية المناهضة بعضها لبعض بحكم الضرورة النفسية والاجتماعية في كل صراع على السلطة واقتضاء الأفضلية في درجات الاستحقاق. ولذلك بدت الخريطة لوناً من التهافت على منجزات الثورة قبل أوان الغنيمة. فالقوى الثورية حالة شبابية بامتياز، مطلقة ومفتوحة على كل التيارات غير المحزّبة ضرورة، ودون رؤية استراتيجية في الغالب إلا الآني والقريب، وسد الرمق والشغل ولقاء التضحية والاستشهاد والنضال. والأثرة طبيعة في البشر وليس الإيثار. ولذلك وجدت نفسها كثير من القوى السياسية المنظمة بعد الثورة مجرورة لا جارة لتيارات الشباب في الميادين وعلى صفحات التفاعل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنت، حتى أنها وجدت حالها في زحام من أجل اقتضاء أولوياتها في المرحلة، كقوى سياسية مهيمنة رغم القمع والنفي والسجون الى آخر أيام حسني مبارك وحتى بعد خلعه بأيام. هذا الزحام ولد سوء الظن بينها وبين شرائح من قوى الثورة لم تعد كما كانت تُردد لا سياسية ولا حزبية. لأن السياسة والحزبية لا تدع مجتمعاً من المجتمعات أو تكويناً من تكويناته بريئاً من التوجيه والاستغلال. فأصبح ائتلاف شباب الثورة أكثر من ائتلاف؛ وتحركت قوى الردة في الداخل والخارج للأخذ بنصيبها من التأثير في المجاذبات والأحداث، لصالح انقضاضها على هؤلاء وهؤلاء، من القوى الشبابية وقوى الأحزاب الوطنية التي منحتها الثورة زخماً جديداً. فدخلت قوى الثورة المضادة بمرور الوقت عنصراً في معادلة الصراع بين "الثوريين" إذا صح التعبير و "الإخوان" لتتبلور في النهاية - سواء بإيعاز من العسكر أو بدونه - في منافسين اثنين على السلطة الجديدة: الدكتور محمد مرسي مرشح الإخوان والسلفيين والفريق أحمد شفيق مرشح خصوم الإخوان وأعداء السلفيين. والاخوان، الذين ظلت كثير من الأصوات تؤاخذهم على تأخر نزولهم الميدانَ في 25 يناير، لم يكونوا في مطلق الحرية وقلة الخبرة بأساليب النظام ليهرعوا الى الميدان كالأبكار والأغرار في السياسة. والكل يعلم وجود قياداتهم في الزنزانات حين كانت الساحات تهدر بشعارات تسريحهم من الاعتقال ورد الاعتبار؛ وما كانت نضالاتهم إلا لخير مصر، على مدى ثمانية عقود. وإن يكن تقيةٌ أو تطرفٌ أو غلوّ في مسيرة نضالهم فمرده الى سرية النضال وتعميق القطيعة مع النظام، لا الى مباديهم في جوهرها ورؤاهم في صفائها أو لعقم وتحجر في مواقفهم. ولولا تعاطيهم مع الوضع كما ينبغي للحكيم، لكانت الدوائر تدور عليهم كالماضي حين يخطئون التقدير ويظنون أن النظام ينهار وهو لا ينهار وإنما يتماوت قبل أن ينهار على رؤوسهم ربما في آخر تقدير. ولذلك تعاملوا مع العسكر بحنكة العالم وحذر المرتاب. وفي وضع ثوري منفلت وأحزاب كالفراش تتهافت، قليلة العدة والعدد، وشباب طائش لا يكاد يلوى على حقيقة بخمر الثورة، لا يجد العسكر خياراً غير خياره في التعامل مع الإخوان. أكثرهم قوة وأوضحهم سياسة وأضخمهم مدداً. فمن يقول شعب مصر بعد السادات ومبارك هو غير شعب الإخوان خاطئ. هل كان العسكر ليغمض عينه عن دورهم فيردهم الى سجونهم ليطفي نار الحقد عليهم في قلوب أعدائهم من أقباط أو غير أقباط. أو يتوجس منهم خيفة إذا أمدهم بما هو من حقهم من بسطة في السلطان على الدولة بالديمقراطية، أن ينقلبوا عليه يوماً ولا يكافئوه بالجميل. في السياسة، الأمور بعواقبها. والإخوان لم يَخدعوا لتحقيق أهدافهم، وكانوا ليُخدعوا لو فوّتوا على العسكر ومجتمع الثورة تخليص حريرها من أشواك المتصارعين دون أقدارهم على غدها. إن التاريخ وحده سيشهد للإسلاميين في مصر، إخواناً كانوا أو غيرهم، وحتى من غير المغارمين لهم من أقباط وليبيراليين وقوميين ويساريين، وأحرى أن يشهد للإخوانيين أنهم أداروا الصراع مع العسكر ومع الأحزاب المتطفلة ومع مجموع المتعطشين للسلطة دون جراب، أولاً لمنع خروج السلطة من يد المجلس العسكري، وثانياً لانتقالها عبر مراحل دستورية وقانونية شديدة التعقيد والتوازن، قبل أن تصب بالكامل في يد أغلبية حاكمة، تطمئن ويُطمأن لها؛ لا تفتيتَ كتفتيت الغنائم في مثل مصارع المغامرين. فهل ترد الثورة جميل العسكر إن لم يرده باسمها الإخوان؟ تونس في5/6/2012 أ. د المنجي الكعبي *(برلماني تونسي سابقاً صاحب المداخلات المشهورة والمنشورة في كتاب "مداخلات عضو بمجلس الأمة" وكذلك "مداخلات عضو باللجنة المركزية" المصادرين في أيام النظام البورقيبي وكتاب "السياسة والرئاسة" الممنوع كذلك في أيام نظام بن علي).