لم يكن الاعلام في تونس والاستثناء قليل جدّا مجرّد لاعب بسيط، منذ تغول نظام الدكتاتورية والاستبداد والفساد في تونس مع بن علي، فقد كان العماد الأساس لمنظومة الطغيان والحصن الحصين لمنهج القمع والفساد والحارس الأمين للعصابات الاجرامية التي نهبت وسلبت الوطن والعباد. ولم يرم الاعلام بسلاحه إلى آخر لحظة من عمر الدكتاتور وظلّ مستميتًا مدافعا شرسًا يبرّر ويزوّق شناعة القتل والقهر وما تصنعه آلة النظام وأركانه ويشيطن أنصار الخير والحريّة والديمقراطية. ولم يكن عسيرا على منظومة أخطبوطية بهذا التجذر والمدى أن لا تستوعب في وقت قياسي انتصار الحركة الثورية الشعبية مباشرة منذ وضع الدكتاتور أرجله في طائرة الهروب وتنتقل إلى الشكل والموقع الذي تظهر من خلاله بعيدة على الجرائم والفظائع التي شاركت فيها النظام الوحشي ضدّ شعبه ولم يكن في الحقيقة تغيّرًا سوى في مستوى الشكل وبطريقة ماكرة حافظت من خلالها الآلة الاعلامية الرهيبة، بكل أدواتها المالية والمادية واللوجستية والفكرية والبشرية، على مصالحها وامتيازاتها وموقعها بل وذهبت إلى أبعد من ذلك وبدأت حتى في سحب البساط من تحت أرجل صانعي الثورة. واليوم إذ تجابه الثورة التونسية العظيمة التي قادها الشهيد البوعزيزي في 17 ديسمبر 2010 وكلّ شهداء وأبطال الحرية والكرامة خاصة من المسحوقين والمقهورين تجابه أعداء متعدّدين ومتنوّعين شرسين، منهم الأيادي الخارجية الغربية والعربية المعادية لمصالح الشعب التونسي ومبادئ الثورة وكذلك أركان النظام الدكتاتوري لبن علي وعصابات التجمع والبوليس السياسي المرتبط بهم وببقايا شركاء عائلة بن علي وقوى الردّة والدفع إلى الوراء والانتهازية القديمة والجديدة والرأسمالية المتوحشة والحكومة الحالية التي لم تقدم إلى اللحظة ضمانات جدّية وحقيقيّة على قطعها مع الماضي، فإنّ الاعلام يظلّ دون شك الخطر الأكبر بين هؤلاء في الوقت الحاضر. فالاعلام التونسي بكل تلويناته: المرئي والمسموع والمكتوب الذي تهجّم على قناة »الجزيرة« وكل المنابر التي فضحته وعرّته وتفنّن في شتمها وسبّها واستغل عبارات »الشرذمة« و»العصابة« و»المرتزقة« و»المفسدين« في حق الشعب التونسي وقدم لنا »الكليبات« المنافقة تزويقا لصورة الدكتاتور المخلوع واستأسد في الدفاع عن »منجزاته العظيمة« وناشده للترشح ل 2014 وعدم ترك البلاد »يتيمة« وغنم المصالح الكبرى وكسب الامتيازات المتعدّدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، خرج علينا اليوم في موقع المندّد بالدكتاتورية والدكتاتور مقدّما نفسه في موقع الضحية المقهور مسلوب الإرادة مبرئا نفسه من كلّ خطيئة أو شنيعة ارتكبها في حق الوطن والشعب ومهنة الاعلام ولم يكلّف نفسه في ذلك أي عناء لمعرفة رأي الشعب الذي يبدو أنّه لا يزال يعامله بعقلية القطيع. هذا الاعلام الذي كان يدّعي ولا يزال امتلاك الحقيقة المطلقة في البلاد لم يقبل من التغيير إلاّ ما يخدم مصالحه وأقصى وتصدّى بكل »صرامة« لكلّ قوى الثورة وناضل ولا يزال في اختزال الثورة في مجرّد المشاكل الاجتماعية والمهنية والقطاعية مبتعدا بها عن أسسها السياسية والحقوقية بشكل فاضح مقصيا الشباب والأحرار من قوّاد الثورة وحماتها عن كلّ منابر التعبير مكرّسا نفس الخطاب القديم ولكن بشكل مقنّع مستعملا كلّ تقنيات الخداع والدهاء والكذب التي استعملها على مدى عشرات السنين وكيف لا وهو المحترف بأتم معنى الكلمة في الأضاليل والتعتيم والتسبيح بالدكتاتور والدكتاتورية. لم يقدم التحقيقات الدقيقة عن مستوى الفساد والمفسدين في النظام السابق والحالي ولا الصور عن الاعتداءات الوحشيّة ضدّ المتظاهرين العزل والقتل والخطف والاعتقالات والمداهمات التي لا تزال إلى حدّ اللحظة منتشرة وآخرها ما حدث للمعتصمين في ساحة القصبة يوم الجمعة المنقضي... وعوض أن نرى انسحابًا حاشدا من الساحة الاعلامية لكل أباطرة الخداع واستئصالاً جذريا لهذا السرطان العضال الذي ظلّ ينخر جسم الوطن والشعب السنين الطوال ولا يرجى من بقائه سوى الوبال فإنّنا رأينا كلّ أولئك ينادون بأعلى أصواتهم مندّدين بحقوقهم المسلوبة وحريّاتهم المصادرة وكأنّهم لم يكونوا يحملون راية الاعلامي صاحب الرسالة والرؤية الحضارية والتوجيهية مثلهم في ذلك مثل المواطن البسيط الذي لا يستطيع حيلة وهم من تمعّشوا عرضا وطولا وارتكبوا ومازالوا الأفعالَ التي يجرمها القانون الجزائي وخرقوا ومازالوا ميثاقَ شرف المهنة. روّجوا الاشاعات الزائفة وحرضوا على الضغائن والعداوات وحتى القتل وانتهكوا الأعراض وارتكبوا أفعال القذف والثّلب والنميمة وغيرها ولم نتحدّث على عدم اكتراثهم لكل مصالح شعبهم ووطنهم التي داسوها ولم يعبؤوا بها. هذا الاعلام الذي يبتز التونسي ويفرغ جيبه (مثال »تونس 7« التي يدفع لها التونسيون سنويا جبرا قرابة الخمس والعشرين مليون أورو سنويا) ولا يقدم سوى المغالطات وزرع الفتن لا يستطيع أن يعيش في مناخ الحريّة والديمقراطية والعدالة والكرامة فالآليات التي يمتلكها هي معادية لمثل هذا الاطار السليم، فأدواته بالأساس التدليس والكذب والنفاق والخداع والانتهازية، وكما ظهر ولا يزال فهمه الوحيد هو مصالحه المتنوعة والامتيازات وموقع التفوّق والأفضلية على عامة الناس. إعلام بهذه الخاصيات الهيكلية لا يمكن إلاّ أن يكون »إعلاميّوه« أمام المحاكم من أجل الجرائم التي ارتكبوها ولا يمكن إلاّ أن يشطبوا من قائمة الاعلاميين من أجل الخرق الفاضح والمشين لميثاق شرف الاعلام. إعلام بهذه الشمائل الجوهرية لا يمكن إلاّ أن يشكّل الخطر الأكبر على مسار ثورة الأحرار وهو العامل الأخطر للانحراف بالثورة وإجهاضها. الثورات في كلّ أنحاء العالم لابدّ أن تغيّر النظام السياسي والنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي القائم ولكن بدرجة أولى النظام الاعلامي، وتونس لا يجب أن تشكّل الاستثناء في هذا الخصوص والشعب العظيم الذي قدم التضحيات الكبيرة لا يمكن أن يبقى صامتا وثورته مهدّدة ولا يستأطل من الجذور المنظومة الاعلامية الفاسدة. و»الاعلام البديل« على الشبكات الاجتماعية »الفايسبوك« وغيرها الذي قاد باقتدار والتزام كبيرين ثورة الحريّة والكرامة التونسية قادر بشبابه الأخيار من قيادة قاطرة اعلام المستقبل باقتدار وإخلاص كبيرين ويمثّل سلطة رابعة حقيقية تحصن الثورة من كلّ انحراف. شكري بن عيسى (حقوقي وقانوني تونسي)