[تسريب مواضيع البكالوريا.. هل هي الضارّة النافعة؟ نورالدين الغيلوفي]إنّ امتحان البكالوريا لمن أهمّ المحطات السنوية في بلادنا.. موسمٌ للتقويم رئيسٌ فيه نرقب نتائج أبنائنا وبناتنا بُناةِ يومنا وغدنا.. ونمنّي النفس بوفرة الحصاد.. ذلك موسم لجني ثمار ثلاث عشرة سنة من عمل أبنائنا الدؤوب بين الابتدائي والإعداديّ والثانويّ.. ثلاث عشرة سنة من الدراسة احترقت فيهنّ الأمّهات شموعا وانساب الأمل منهنّ دموعا.. وذابت من الآباء الضلوع.. ثلاث عشرة سنة بذل فيها المعلّمون والأساتذة من الجهد ما لا يوافقه جزاء.. علوم تُبثّ في صدور الناشئة فتصنع فواعل ترتفع بهم الهامات وتتراكم الخبرات.. ويعلو شأنُ الوطن فيلتحم الشعب بإرادته.. وتكون من ذلك ثورتُه على الاستبداد والفساد.. ويرتفع من مقاعد الدرس النشيد العتيد: إذا الشعب يوما أراد الحياة... في السنة الماضية سنة الثورة الأولى كنا نعدّ امتحان البكالوريا استحقاقا وطنيّا.. لذلك فقد تحفّزت مختلف الفواعل لإنجاحه انتصارا للثورة وعملا على صون البلاد والمرور بها إلى شاطئ السلام وبرّ الأمان.. واليوم بعد صلاح كثير من أحوالنا، لا سيما السياسية منها، وبعد أن بدأت ماكينة الاقتصاد عملها باتجاه تحقيق أهداف الثورة والمرور شيئا فشيئا من الوضع الانتقاليّ الاستثنائيّ إلى الوضع الديمقراطيّ الدائم.. بعد كلّ ذلك يطلّ الفاسدون برؤوسهم فيدقّون بطلعتهم البهية نواقيس الخطر.. ويأذنون، بفعل ما أتوه من قبيح فعالهم، بضرورة البدء في مشروع ثقيل مؤجَّل: مشروع إصلاح وزارة ترك بها محمد الشرفي وأعوانُه ومن جاء بعدَه مساميرَ صدئةً تمترست في المواقع الخلفية والزوايا الخفيّة.. رؤوس فاسدة مفسدة لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يصلح للتربية شأن ما داموا ومادام لهم بين المربّين مقام... ليس أمر التسريب على وزارتنا بجديد.. ولكن قوى الفساد كانت، فيما مضى بفعل ما لها من منزلة، كلّما فاحت ريحها، تُسارع إلى التكذيب تارة أو تصمّ الآذان عن الأنباء طورا.. أمّا اليوم فقد صار العراءُ سيد الموقف ولم يعد بإمكان فاسدٍ أن يحقّق مكسَبا له بعيدا عن السمع والبصر.. ولقراءة الحدث والوقوف على أبعاده أورد الملاحظات التالية: 1. إنّ وزارة التربية هي الوزارة الوحيدة التي ظلّت المسامير الصدئة القديمة فيها تمارس معهود نشاطها.. خارج الثورة وعناوينها وبمنأى عمّا قامت لأجله.. فكأنّ هؤلاء قد استظلوا بخيمة تحميهم من رياح الثورة وتحفظهم من حرّ شمسها وتُعفيهم من الحرب المعلنَة على الفساد.. فمن الذي يحمي هؤلاء؟ ومن الذي يمنع فضحهم ومحاسبتهم وتطهير الوزارة من سطوتهم؟ ومن الذي يستثنيهم من مكنسة الثورة ويحتفظ بهم بذورا لفساد لا يراد له الزوال؟ 2. إنّ الفاسدين في وزارة التربية قد وجدوا أنفسهم يتحركون بحرية داخل إدارة لم تعدلّ أوتارها بعدُ على إيقاع الثورة.. و"بفضل" هؤلاء الفاسدين ظلت وزارة التربية منيعة على الثورة لأنّ بها سَدَنَةً يظنّون أنّهم يُعلّمون الناسَ من السحر ما لا يصيبهم شرّه.. ولمّا اطمأنّ هؤلاء بعد خوف خرجوا من جحورهم يستأنفون ما أدمنوا من فسادهم وقد ظنّوا أنّهم صاروا بمنجاة من العاصفة... وغاب عنهم أنّ "صناعتهم" القديمة لا توافق مطالب الثورة التي جاءت لتمحوَ الفساد وفاعليه ولترفع سقف المطالب عاليا بلا مزيّة من أحد وبلا وصاية من أيّ كان مهما تلوّن المتلوّنون وراوغ المراوغون.. وما عودة هؤلاء الفاسدين إلى سالف نشاطهم القديم إلاّ نتيجة لسوء تقدير منهم للثوة وسوء قراءتهم لعناوينها وما جاءت به وقامت لأجله.. وذلك دليل على أنهم لم يعوا الدرس جيَدا ولم يفقهوا أنّ الزلزال لم يُسعفهم بالنجاة بل هو يُرجئهم إلى يوم لا مفرّ لهم منه.. ولمّا كانوا لا يفقهون ولا يرعوون فقد أعادوا الكرّة ونسوا أنّ الجرّة لن يعود إليها معهود سلامتها كيفما كان احتيالها... 3. أليس من الغريب أن تمرّ بكالوريا 2011 بسلام وتظهر أعمال السوس التربويّ في بكالوريا 2012؟.. قد تزول الغرابة إذا نحن ذكرنا الماكينة وتهديداتها ونذير فواعلها المخفيين والمنكشفين واستحضرنا وعيد أخواتها وبناتها.. عندها لا يكون تسريب البكالوريا موجّها إلى وزارة التربية بل إلى حكومة الثورة لإرباكها ووضع عصا أخرى في دواليبها.. لمّا رأى فواعل الثورة المضادّة أنّ الوقت في غير صالحهم وأنّ بقيته لن تسعفهم بتحقيق رهاناتهم.. وأنّ العودة إلى الوراء باتت مستحيلة.. رأوا في البكالوريا آخر فرصهم في حربهم على الثورة فهبّوا لإفسادها بتسريب بعض الاختبارات... 4. لم يغب عن هؤلاء أنّ في الأمر إضرارا بالبلاد قاطبة وعبثا بمستقبل أبنائنا وبناتنا.. ولكنهم عموا وصمّوا وقد خيّبت الثورة آمالهم وذهبت الانتخابات بأحلامهم.. لقد ارتدّت إليهم أحجامهم فتقلّص منسوب الوطنية لديهم وقد فهموا من قبل أنّ الوطنية مغانم ورأوا في الثورة مناسبة لتحقيق أوهامهم وفي الديمقراطية تحقيقا لمطامحهم.. ولمّا أعمتهم السياسة عمدوا إلى دوس الوطن وأبنائه.. ولو كان لهم بعضُ حبٍّ للوطن لما سمّموا الامتحانات ولما خربوا أحلام الشباب ولما فسقوا في جهودهم... 5. إنّ العبث بمصائر أبنائنا جريمة كبرى لا ينبغي التسامح بشأنها.. وقد آن الأوان للبدء بتطهير وزارة التربية من أعوان الفساد الذين ضاقت بهم السبل فانتهكوا قيم الشرف والوطنيّة.. لقد استهدفوا الإرباك السياسيّ ولكنّهم ساهموا، من حيث لم يحتسبوا، في تسريع نسق الإصلاح وعجّلوا باستحقاق محاربة الفساد داخل وزارة التربية.. قد يكون تسريب الامتحان جرحا في سمعة بلادنا العلميّة.. ولكنّه حدث له ما بعده إن نحن أردنا الاستجابة لنداء الثورة بالشروع في إبعاد المفسدين...