يتحدث نور الدين البحيري عن الوضع العام في البلاد وتقييمه لمسار الانتقال الديمقراطي ومسار العدالة الانتقالية والموقف من التجمعيين والاتهامات الموجهة لحركته بالسعي إلى الهيمنة على مفاصل الدولة علاوة على رؤيته لكيفية تجاوز مصاعب اللحظة. كيف تقيمون مسار العدالة الانتقالية في تونس خاصة أنّ البعض يتهم الحكومة بعقد تسويات ومصالحة «سرية» مع بعض رموز التجمع؟ كل التسويات السرية اليوم علنية غدا، وليتأكد شعبنا وأصدقاؤنا ومنافسونا على حد سواء اننا لن نمارس أي فعل يغضب الله ويتنافى مع قيم الثورة وأهدافها ومبادئها... لو كنا طلاب مال وجاه ما اخترنا أن نتحمل أمانة الحكم في هذه اللحظة العصيبة من تاريخ تونس وفي هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المعقدة ولفعلنا ما فعله غيرنا من بحث عن التعلات حتى لا نتحمل المسؤولية ونلقيها على غيرنا. ملف العدالة الانتقالية ملف هام وخطير في بلادنا وهو يحتاج إلى حوار وطني جدي وعميق توضع فيه مصلحة البلاد فوق كل اعتبار ويتعالى فيه الضحايا على آلامهم ويتجرد فيه الجميع من النوازع والحسابات الشخصية والحزبية والفئوية. ونجاح هذا المسار الذي خطا خطوات هامة وكان مسارا تشاركيا ومسؤولا يحتاج من التونسيين في الحكم وفي المعارضة على حد سواء لحظة صدق مع أنفسهم ومع شعبهم لأنه سيكون عاملا حاسما في صياغة مستقبل تونس، وأملي أن يستحضر الجميع دماء الشهداء وتضحياتهم من أجل هذه الثورة المباركة وأن يضعوا نصب أعينهم أنه ليس مسموحا لنا بالفشل في إنجاح عملية الانتقال الديمقراطي والعدالة الانتقالية حلقة رئيسية فيه لأن الفشل يعني العودة إلى الوراء، إلى الاستبداد والفساد وخسارة فرصة تاريخية لن تتكرر لأن الثورات لا تحصل كل يوم. كما علينا وعلى الجميع استحضار أنّ الفشل - مهما كان المتحمل لأمانة الحكم- فشل لمشروع وطني يهم كل التونسيين إن لم يكن أكثر من ذلك وهو فشل لمشروع التحرر من الاستبداد في المنطقة العربية، والفشل لن يكون للترويكا او للنهضة بل فشلا لخيار التغيير وكل دعاته ورموزه ولخيار القطيعة مع نظام الاستبداد وسيكون له انعكاسات خطيرة على مسيرة التحرر في بلادنا وأمتنا. اتهامات كثيرة توجه لحركة «النهضة» بشكل خاص بالسعي إلى السيطرة على مفاصل الدولة وإعادة إنتاج نظام الحزب الواحد... كيف تردون على هذه الاتهامات؟ من حق إخواننا في الوطن وشركائنا في مقاومة الاستبداد وتحقيق أهداف الثورة وكل التونسيين والتونسيات أن يخشوا على مستقبل تونس لأن الخشية في مثل هذه الحالة عنوان محبة لهذه البلاد وليس فينا من لا يرغب ولا يسعى إلى الاطمئنان على مستقبل بلاده... هذه الخشية مشروعة وعلينا ان نتفهم هذه المخاوف وإن كانت مبالغا فيها أحيانا، كما أنه علينا ان ننظر إلى ما يُقال في هذا الموضوع من جهة نصف الكأس الملآن. هذه الثورة جاءت للقطيعة مع سياسات العهد البائد ومن عناوين هذه القطيعة تحرير الإدارة ومؤسسات الدولة من هيمنة أي حزب مهما كان اسمه وهويته حتى نضمن تحقيق أحد المطالب المشروعة في ضمان الفصل بين الحزب والدولة وما يتطلبه ذلك من إدارة محايدة يتساوى أمامها الجميع وأمن جمهوري وطني وقضاء مستقل. وإذا أخذنا تجربة وزارة العدل مثالا في هذه المسألة أجد ان ما يقال أحيانا حول وجود نية لدى حركة النهضة في الهيمنة على الإدارة غير مطابق للحقيقة، وأكبر دليل على ذلك أن كل التعيينات سواء في الإدارة او القضاء او السجون وغيرها من المؤسسات الخاضعة لإشراف الوزارة والتي مست المئات من المواقع تعيينا وإعفاء وتغييرا اتسمت بالحيادية التامة والتزمت بخيار وفاقي لا أظن واحدا من التونسيين يعترض عليه. فقد تم استبعاد كل من يشتبه في تورطه في الفساد في العهد البائد كاستبعاد كل من لا يتوفر على الكفاءة أو الذين عُينوا على أساس المحاباة، وكان مبدؤنا رد الاعتبار للضحايا ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب على أساس الكفاءة ونظافة اليد والمصداقية وما يحظى به من احترام في الأوساط التي يعمل فيها، ولا أدل على ذلك من أنه لا أحد من هؤلاء الذين تم تعيينهم جوبه بالرفض من طرف محيطه كما انه لا أحد ممن أعفي من مهامه أو نُقل إلى غير موقعه حظي بدعم ومساندة من العاملين معه. وحتى بعض الجمعيات والهيئات التي توسعت في الحديث حول هذا الموضوع وإصدار البيانات التقت على أنني كوزير للعدل اتخذت مئات قرارات الإعفاء والتعيين في مواقع هامة وخطيرة ووقفت عند حد الاحتجاج على ما سمته «عدم التشاور» ولم تنسب للوزارة اعتماد المحسوبية أو المعايير الحزبية أو الفئوية في ما حصل من تعيينات وإعفاءات. هذا علاوة على أنه من أبسط واجبات من يتحمل مسؤولية الحكم أن يختار من يساعده في ذلك وطنيا وجهويا ومحليا وأعتقد شخصيا أن الذين تم تعيينهم في الكثير من المواقع على مستوى راق من الكفاءة والمصداقية وأن المعيار الأساسي في اختيارهم كان تحقيقا لشرط هام من شروط تحمل المسؤولية في هذه المرحلة وهو الإيمان بمبادئ الثورة والاستعداد للتضحية من أجلها لأن البلاد تحتاج إلى مناضلين ومقاتلين شرسين من أجل خدمتها لا إلى تكنوقراط لا فرق عندهم بين ما قبل 17 ديسمبر وما بعده.. والإدارة التونسية تعج بالذين يؤمنون بثورة شعبهم وإن تدرجوا في سلم المواقع في العهد البائد وهم الذين ضمنوا استمرار المرفق العام وحموا الدولة من الانهيار وحافظوا على تقديم الخدمات للمواطنين في أحلك الظروف. والثابت أننا متفقون على انه لا مكان لمن خدموا الفساد والاستبداد عن وعي وكانوا شركاء فاعلين في ما ارتُكب في حق الشعب من تجاوزات وجرائم... وليعلم إخوتي وأصدقائي في المعارضة وفي الحكم على حد سواء أنه ليست هناك ثورة تنجز أهدافها بالمناولة. في اعتقادكم ومن خلال تجربة الحكم القصيرة إلى أين تتجه تونس اليوم؟ إذا رجعنا إلى ما هو متعارف عليه في كل أنحاء العالم من معايير لتقييم مسار الانتقال الديمقراطي نجد ان بلادنا بكل المقاييس في وضع جيد جدا... اتفق الجميع على أن المطلوب بعد كل ثورة تحقيق الانتقال الديمقراطي في أسرع الأوقات وبأخف ما يمكن من الأضرار وتحقيق هذا الانتقال يتطلب إعادة بناء الشرعية وضمان احترام الحريات وتجاوز حالة الانفلات الملازمة لكل ثورة وتغيير وتطوير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في اتجاه حمايتها من الانهيار لأنها تمثل تهديدا جديا لمسار الانتقال الديمقراطي. وإذا رجعنا إلى ما تعيشه بلادنا اليوم سواء مقارنة بما شهدته بعد الاستقلال والذي كان تتويجا لثورة أو لما تعرفه بلدان أخرى شرقا وغربا عاشت تجارب مماثلة لتجربتنا مع بعض الفوارق الخصوصية نجد ان كل المؤشرات تؤكد اننا نسير بالسرعة القصوى نحو تحقيق الانتقال الديمقراطي بأخف ما يمكن من الأضرار. هذه الحكومة تحملت المسؤولية والبلاد تعاني من غياب المؤسسات الشرعية ومؤسسات قضائية شبه مشلولة رغم ما بذله القضاة من جهد للقيام بواجبهم في ظروف صعبة وما شهدته البلاد من مظاهر حرق وتدمير وتعدّ وانحراف وسياحة مهددة بالانهيار و800 الف عاطل عن العمل ونسبة نمو وصلت إلى – 2% وارتفاع في الأسعار ومظاهر فساد جديدة مثل انتفاخ عدد المسجلين في قائمة العاملين في الحظائر والتي تحولت إلى مصدر إثراء لبعض رموز الفساد... والحمد لله أن بلادنا الآن تتمتع بمؤسسات دستورية شرعية تحكمها قوانين ودستور صغير وإن السعي إلى صياغة الدستور الدائم يكاد يُتوج بعدما حصل من توافق على جزء كبير من بنوده وان اوضاع القضاء والأمن والاقتصاد أفضل بكثير مما كانت عليه قبل تسلم الحكومة الحالية مهامها، وقد مثل ذلك عامل اطمئنان عزز ثقة المستثمرين التونسيين والأجانب ولا ادل على ذلك من انتعاش قطاع السياحة ومن تطور لافت لنوايا الاستثمار ومن استرجاع أغلب المؤسسات والمصانع والمناجم نشاطها ومن توسع دائرة سيادة القانون. والأهم من ذلك ان تونس من البلدان القليلة التي تواجه تداعيات الانتقال الديمقراطي مع الترفيع في الأجور للموظفين والعمال في حين اضطرت بعض البلدان الأخرى إلى التقليص في الاجور... نجحنا والحمد لله والشكر لشعبنا في احترام الحريات وحقوق الإنسان وضمان حق الجميع في التعبير والتنظم والتظاهر والإضراب دون ان نضطر إلى التخفي وراء استثنائية الظرف وصعوبته للاعتداء على تلك الحريات، فالزعيم بورقيبة رحمه الله واجه المرحلة الاولى بعد الاستقلال وما تطلبه بناء الدولة الحديثة بفتح «صباط الظلام» لتعذيب معارضيه وبافتعال ما يُسمى الفتنة اليوسفية ومحاولة انقلاب لزهر الشرايطي وما نتج عنها من مطاردات وتعذيب وقتل وتضييق لدائرة الحريات بعد حل الحزب الشيوعي التونسي وفرض الحزب الواحد والزعيم الواحد والرأي الواحد... أما نحن فقد اخترنا أن نبني تونس الحديثة التي تحقق اهداف الثورة، اخترنا الطريق الأصعب، طريق مواجهة الفقر والتمييز والجهل والجوع والانفلات والتجاوزات لا بفتح زنزانات الداخلية أو «صباط ظلام» جديد لمن يعارضنا أو حتى يسبنا ويشتمنا بل اخترنا فتح قلوبنا واعيننا وآذاننا وعقولنا من أجل الحوار ومن أجل التواصل... يخطئ من كان يعتقد أن الوصول إلى الحكم عنوان استراحة ودعة وسعة في المال لأن الحكم بعد الثورة والحكم من أجل البناء والتقدم حلقة أخرى من حلقات النضال والتضحية والعطاء.. نحن انتقلنا من محنة الظلم والاستبداد إلى فتنة السلطة والأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وهو ما يتطلب منا الصبر والعطاء والتضحية والتواضع. «الشروق»