قبلي: حملة ميدانية لإزالة الانتصاب الفوضوي واحتلال الأرصفة    سابقة خطيرة في قطر على مستوى الأمن الداخلي للدولة    مصر.. ضابط شرطة يعتدي على حارس سيارات ويشعل أزمة مع القضاة    للطلبة الراغبين في تعديل اختياراتهم الجامعية: دورة إعادة التوجيه تبدأ غدًا    المزيو: لم أخذل المحاماة وقدنا السفينة لبر الأمان    الالعاب العالمية (كرة اليد الشاطئية) : المنتخب التونسي ينهزم في الدور ربع النهائي امام نظيره البرتغالي 2-1    ذهاب الدور التمهيدي الاول لكأس الاتحاد الافريقي: النجم الساحلي يلاقي الاهلي مدني السوداني بملعب شهداء بنينة ببنغازي بليبيا    انتخاب رؤوف الصيود رئيسا للجامعة التونسية للريشة بالطائرة    منوبة: اليوم انطلاق الدورة 35 من المهرجان الصيفي ببرج العامري    قفصة: تواصل فعاليات مهرجان الفستق الثقافي بالقطار في دورته 29    ودّع القهوة... وجرّب هذه المشروبات التي تعزز صحتك وتمنحك طاقة طبيعية    قريبا في البرلمان: مشروع قانون لتشديد الرقابة على السائقين تحت تأثير الكحول    عاجل: زلزال بقوة 6.1 درجة يهز تركيا    إنتخابات جامعة كرة السلة.. قائمة سفيان الجريبي تفوز    بين المتلوي وتوزر..اصابة 4 اشخاص في حادث مرور    وادي مليز: بين عرض للفروسية لفرسان خمير وسهرة الفن الشعبي.. تواصل فعاليات مهرجان شمتو    كيفاش تتصرف إذا شدك ''الأخطبوط'' وانت في البحر؟ نصائح مهمة    السيطرة على حريق جبل الفراشيش بسليانة دون خسائر بشرية    الإدارة العامة للأداءات تعلن عن آخر أجل لإيداع التصريح الشهري بالنسبة لهؤلاء..    عاجل: وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي تفتح باب الترشح ل 9 خطط ...آخر أجل وكيفية التسجيل    قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمعهد عبد العزيز بلخوجة بقليبية    المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك توجه رسالة هامة لوزارة التربية..#خبر_عاجل    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    عاجل/ بعد الاعتداء عليه بالة حادة: وفاة الكلب "روكي"..    غرفة التجارة والصناعة لصفاقس تنظم بعثة أعمال متعددة القطاعات إلى السعودية    عاجل: إجراءات جديدة لحماية صحة اللاعبين بسبب ارتفاع الحرارة    مأساة الملاكمة في اليابان: إصابات قاتلة تنهي حياة اثنين من الملاكمين    مهرجان مدنين الثقافي الدولي: الدورة 45 تحت شعار "مدنين، حكاية أخرى"    انتهاء موسم الحصاد بهذه الولاية بتجميع أكثر من 267 ألف قنطار من الحبوب..    تونس: حجز 172 طناً من المواد وحملات رقابية مكثفة تُسفر عن 9 قرارات غلق في النصف الأول من 2025    عاجل: التسجيل الإلكتروني لأداء فريضة الحج يبدأ قريبًا    ولاية كاليفورنيا ترفض طلب ترامب من جامعتها دفع مليار دولار وتعتبره ابتزازا سياسيا    إطلاق الدورة الأولى لمسابقة "Cactus INNOV " لاختيار أفضل الابتكارات في تثمين التين الشوكي    اختناق 621 شخصا في العراق إثر تسرب غاز الكلور من محطة لتصفية المياه    بطولة أمم إفريقيا للمحليين: تنزانيا تهزم مدغشقر وتتأهل إلى ربع النهائي بالعلامة الكاملة    عاجل: النصر السعودي يتعاقد مع نجم برشلونة...التفاصيل    دواء معروف يستعمله الملايين يرفع خطر فشل القلب.. شنوة السر الخطير؟    اليوم: غلق وقتي للطريق نحو باجة بسبب تقدم أشغال توسعة المدخل الجنوبي للعاصمة    تقصّ شعرك مبلول ولا شايح: شنوّة الأفضل ليك؟    رفع 8000 متر مكعب من الفضلات ب133 شاطئا    اليوم.. 4 لقاءات تتصدرها قمة الاتحاد المنستيري والملعب التونسي    شنوّة أعراض فيروس ''تشيكونغونيا'' الخطيرة؟    نجوى كرم تُشعل قرطاج بعد غياب تسع سنوات: ليلة حنين وأغانٍ خالدة أمام جمهور غصّت به المدارج    مجلس الأمن يعقد جلسة عاجلة حول خطة إسرائيل احتلال غزة    قتلت 10% من سكان غزة".. تقرير عالمي عن تفوق إسرائيل على النازيين في قتل المدنيين    تاريخ الخيانات السياسية (41) .. تسميم الخليفة المعتمد    غدا.. غلق الطريق في اتجاه باجة أمام القادمين من باب عليوة ولاكانيا    اكتشاف جديد    تونس الكبرى تسيطر على سوق التخفيضات.. تفاصيل الأرقام والمخالفات    الليلة: سماء قليلة السحب على كامل البلاد مع ظهور ضباب محلي    إيقاعات الراي تلهب مسرح الحمامات مع النجم الشاب مامي    3 وفيات و4 إصابات في انقلاب شاحنة محمّلة بالفحم الحجري بأوتيك    تاريخ الخيانات السياسية (40): قتل الخليفة المهتدي    استراحة صيفية    مهنة وصيف: بشير برهومي: »مشوي» على ضفاف شط الجريد    القمر يضيء سماء السعودية والوطن العربي ببدر مكتمل في هذا اليوم    كيفاش الذكاء الاصطناعي يدخل في عالم الفتوى؟ مفتى مصري يفسر    في سهرة فنية رائقة ضمن فعاليات الدورة 45 لمهرجان صفاقس الدولي .. الفنان لطفي بوشناق يعانق الإبداع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تكفيرالإبداع وتقديس الماضي - د.فتحي بوعجيلة
نشر في الفجر نيوز يوم 24 - 09 - 2012

يتبيّن ،بما لا سبيل إلى إنكاره ،أن فئة من المتديّنين،خصوصا في بلدان ما سُمِّيَ ب"الربيع العربي" تسعى اليوم إلى إحياء النزعة الدينية المتشدّدة بمختلف تياراتها ومرجعيّاتها ومواقفها،وهي "مدرسة" لم تبارح عصرا ولم تُغادر مِصرا على امتداد التاريخ ،ويقدّم هؤلاء المتصلّبون أنفسَهم على أنهم "الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله" وأنهم "أهل النصيحة لله ولرسوله ولأيمة المسلمين وعامّتهم " فأُسْمِعْنا،في تونس مثلا، طوال الأيام الماضية بالأستاذيْن اللذيْن مُنِعا من المحاضرة في المدينة الساحلية"قليبية" ،ومُنع أحد أساتذتنا الكبار من الحضور داخل جامعة الزيتونة،وبالأيام الثقافية التي ألغيَتْ في رحاب كلية الآداب بمنوبة ،وبمَنْع الفنون الجميلة وتحريمها ،وبإيذاء بعضٍ من أهل المسرح والسينما ، بالسعيِ إلى تحْويل بعض الفضاءات الثقافية إلى أماكن عبادة،وبطرد باحثين في الآثار من جامع الزيتونة،وتابعنا ،في بهتة، ما حصل من فوضى في معارض شتّى للوحات التشكيلية،وأبرزها معرض العبدلّيّة،وما وقع من تعطيل وإلغاء لبعض المهرجانات الصيفية، وغيرذلك من التصرّفات التي يدفع إليْها "وَرع كاذب" و"فقه ملفَّق" و"جهل مركّب".وينضاف إلى كل ذلك المدُّ الجديد في استنساخ القديم والاستقواء بالقوالب الغابرة المُسْتَحْضَرَة.
الاختلاف رحمة
هذا الشعار ينبغي أن لا يقال فقط عن تعدد المذاهب الفقهية،والمدارس العقديّة الإسلاميّة، التي تعطي الدرسَ البليغ في سعة المعرفة ورحابة الحوار ،بل كذلك يَتحتّم أن يُعتمَد حينما تتباين الآراءُ في مسائل يتداخل فيها: المقدّس/الثقافي،الثابت/الزمني، الديني/السياسي ،الوحي/الاجتهاد..،و ينبغي أن نتذكّر هذا الشعار-أيضا-حينما يتكلّم مايسمَّوْن اليوم ب"العلمانيين"فلا يُرضي كلامُهم نفرا من "الورِعين" .وليست موجات التكفير،وحملات التشهير،وتعليمات الترصّد ،التي يُرسلُها "أوصياءُ "على الدين، ضدّ مثقّفين أبدوْا آراءهم وقدّموا قراءاتهم التي تُلزمُهم هم وحدَهم ،إلا تهوُّرًا يُنكرُه الدينُ ،الذي ورد في كتابه العزيز:"وإنّا أوْ إياّكم لعَلَى هدًى أوْ في ضلال مبين"(سورة سبأ آية24 ) .
ويَجهل هؤلاء المتكلمون باسم الدين القوْلاتِ المأثورةَ الكثيرة التي تحضّ على سعة الاطلاع،والاجتهادِ في الرأي،وتجنبِ الاجتراروالتكلّس،والتقليدِ الميّت، مادامت الغايةُ معرفيةً تنويريّة، ومن تلك القولات الحِكْميّة: "أشدُّ الناس إنكارا أقلّهم علما"، "مذهبي صواب يحتمل الخطأ،ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب"، "أجرَأُ الناس على الفُتْيا أقلُّهم علْما، يَعرِفُ بابا واحدا في العِلم فيَظنّ أن العلْم كلَّه في ذلك الباب"،
"الرّبّ واحدٌ والعِلم شتّى"...
معاداة الفنون خِلافُ الفِطْرة
يكاد العلماء المسلمون المُحدَثون –جميعا- يحسمون في الموقف الإيجابي للإسلام من الفنّ،لولا نفرقليل منهم ينتسبون إلى "السلفية الوهّابية" الذين يجرّمون الإبداعَ الفنّيَّ من باب "الورع" و"الحيطة" و"سدّ الذرائع"،ووقْفا عند حرْفيّة النصّ، ولعلّ ضعف خطابهم في هذا الموضوع يدلّ على أنّهُمْ غيرُ مقتنعين -في دواخلهم- بذلك.
ولايحِق لنا أن نسكت –في هذا الموضوع –عن كتابيْن مهمّيْن هما:"يسألونك في الدين والحياة" لأستاذ الأزهر الدكتور أحمد الشرباصي (ت1980)،و"الحلال والحرام" للداعية يوسف القرضاوي،وفيهما قدّم المؤلِّفان رؤية مستنيرة معتدلة ، جديرٌ بالمتشددين أن يستضيئوا بها ويرجعوا إليها،وحاصل كلام الرجليْن في الفنّ:
-الجماليّة سمة إلاهية وطبيعة خَلْقيّة،والفنّ تعبيرة إبداعية عن الجمال في كل شيء حولنا
-النصوص الواردة في تحريم الغناء والتصوير موضوعة أو ضعيفة أو لمْ تُفهَمْ على وجهها الصحيح
-الفن الراقي له رسالة ثقافية سامية
-الفنون على اختلافها لا حرج فيها إذا تجنَّبت السخافة والدعارة ولمْ تنشُر الرذيلة ولم تُثر الفتن ولمْ تَشْغَلْ عن الواجب.
ولا بأس أن نُذكّرمحرّمي الفن الجميل بقول الرسول(ص) في حديث شريف:"..إن الله جميل يُحبّ الجمال.."، وبالقولة التي أوْردَها الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين":"مَنْ لَمْ يحرّكه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج"
الماضويّة ليست هي الحل
هناك اليوم فئة من "المتديّنين المتحمّسين"حريصة على استحضار قوالب ثقافية قديمة ظنا منها أن ذلك نصرةٌ للدين وإحياء له ،وفي هذا السياق ،أرى أن مشروع الرجوع إلى نظام التعليم الديني القديم الذي كان موجودا في جامع الزيتونة منذ ما يزيد عن نصف قرن،وهو مشروع ذو رؤية رجعيّة، ويوشك أن يصبح في الأيام المقبلة إجراءًا رسميا ، قلت : أرى أن مردّ هذا المشروع إلى ثلاثة تفسيرات
1-الحماسةُ المفرطة والتسرّع المذهل ابتغاءَ التعويض عن سنوات الحرمان الروحي ، وتطويقِ التثقيف الديني والتضييق عليه ،نسبيا، في عهديْ بورقيبة وبن علي
2-ضعفُ أداء جامعة الزيتونة وسلبيةُ دورها المعرفي والثقافي ،
3-الاعتقاد الجازم-وهو مجانب للصواب - في أن النموذج الزيتوني القديم كان صالحا صلاحا مطلقا، وأنّ كلّ خرّيجيه ذَوو كفاءة عالية،وأن غيابَه هو السبب الأوحد لما نشهده من تطرّف،وأنه الأقدر على حماية المجتمع من التديّن المغلوط. ولا يمكن لنا أن نفهم قُصورهذه الخطوة إلى الوراء دون أن نُلم ّبتاريخ جامع الزيتونة وجهود ثلة من المصلحين الأفذاذ في تعهّده-على مرّ العصور- بالنقد والتجويد والتطوير، بدْءا بالعلامة ابن خلدون(ت1406م) مرورا بأحمد باي (ت1855)،وإبراهيم الرياحي(ت1845)،والجنرال حسين(ت1887)،وخيرالدين التونسي(ت1890)،ومحمد العزيز بوعتور(ت1907)،وسالم بوحاجب(ت1924)،وصولا إلى أبي القاسم الشابي(ت1934)، والطاهر الحدّاد(ت1935)،ومحمد الخضر حسين(ت1958)،ومحمد الطاهر ابن عاشور (ت1973)،وابنه محمد الفاضل(ت1970) وليس في هذا إنكار لأجيال مثقفة ومبدعة ومناضلة تخرجت في الزيتونة.
و ينبغي أن لا نُغفل أنه طوال فترات جامع الزيتونة،تنامت المؤسسات التعليمية المعاضدة والموازية والمثرية لمشهد التعليم الديني في تونس،من المدرسة الشماعية، والتوفيقية ،والعصفورية، والمغربية، والمرجانية، والجاسوسية، والعنقية، والحكيمية، إلى المنتصريّة،إلى الخلدونية،إلى الكلية الزيتونية التي لم تكن–حسب رأيي،وكما يشهد العارفون– في بدايتِها حلقةً ضعيفة ومؤسسة خاوية ،وهي التي تناوب على عمادتها آنذاك في عهدها الأول شيوخ أعلام من أمثال ابن عاشور –الأب والابن-والنيفر.. ،فلم يكن سعيُ الزعيم بورقيبة في تعويض جامع الزيتونة بها –حينذاك- مفلحا إن كان نوى القضاء على الدين -كما يُقال-. ولكن بعد تلك المرحلة الأولى بدأ –فعلا- انهيار تلك المؤسسة التعليمية العالية،ويرجع ذلك إلى عوامل داخلية مِن صُلب الجامعة،كما يُثبت أهلُها من الأساتذة والطلبة، وإلى عوامل خارجية سياسية ،وإلى المناهج المضطربة،وإلى الإجراءات غير البريئة، وبهذه المرحلةِ في تراجع الإشعاع، يمكن أن نقول إن نظام بورقيبة ونظام بن علي أفلحا في تفريغ هذه المؤسسة التعليمية من العلم الديني الراسخ وتهميشه -إن صحّ أنهما سعَيَا إلى ذلك -. والسؤال :هل العودة إلى المنوال العتيق في جامع الزيتونة هو الحل لرد الاعتبار إلى العلم الشرعي الصحيح وترسيخ مقومات الهوية وتحصين البلاد من الغلوّ ؟ قطعا لا ،حتى وإن ادّعى بعضهم أنهم سيعتمدون في تنفيذ المشروع كتابَ "أليس الصبح بقريب" ورقةَ العلامة ابن عاشور في إصلاح التعليم،وحتى وإن بشّر فريق منهم –ولا أدري هل هوهزْل أم جِدّ ؟-بأن الجامع سيدرّس "الطِبّ" و"الهندسة" على "قاعدة أخلاقية صحيحة"؟؟.
وأقول لإخواننا المتديّنين المتحمّسين،ولبعض المسؤولين، إنكم بمثل هذه "الزّوابع الرجعيّة" والضوضاء الزايدة لن تصلوا إلى شيْء:لا إلى استدراك ما فات،ولا إلى نشر ثقافة دينية بنتِ عصرها ،ولا إلى تخريج علماء فطاحل ،ولا إلى تقوية شوكة الدين. ليس صحيحا أن الخير كل ّالخير في اتباع كلّ ما سلَف،والشر كل الشر في اتباع كل ّما خلَف ،وليست الغيرة على الدين مدعاة إلى تقديس الأشكال الثقافية ،بل إن نصرة الدين مرتهنة إلى إعداد ما استطعنا من قوّة العلم وحيويّة التطوّر ونبض الإبداع ،ليست الحاجةُ اليوم إلى دغدغة العاطفة وتجْييش المشاعر بقدر ماهي إلى مراعاة الواقع وفْق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.