هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري..    سوسة/ القبض على منحرف خطير مفتش عنه..    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    وقفة احتجاجية ضد التطبيع الأكاديمي    العاصمة: وقفة احتجاجية لعدد من اصحاب "تاكسي موتور"    بن عروس: انتفاع 57 شخصا ببرنامج التمكين الاقتصادي للأسر محدودة الدخل    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    متابعة/ فاجعة البحارة في المهدية: تفاصيل جديدة وهذا ما كشفه أول الواصلين الى مكان الحادثة..    عاجل/ تحذير من أمطار وفيضانات ستجتاح هذه الدولة..    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    الحكومة الإسبانية تسن قانونا جديدا باسم مبابي!    لاعب الترجي : صن داونز فريق قوي و مواجهته لن تكون سهلة    الوكالة الفنية للنقل البري تصدر بلاغ هام للمواطنين..    صدور قرار يتعلق بتنظيم صيد التن الأحمر    هلاك كهل في حادث مرور مروع بسوسة..    فاجعة المهدية: الحصيلة النهائية للضحايا..#خبر_عاجل    تسجيل 13 حالة وفاة و 354 إصابة في حوادث مختلفة خلال 24 ساعة    600 سائح يزورون تطاوين في ال24 ساعة الأخيرة    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    حريق بشركة لتخزين وتعليب التمور بقبلي..وهذه التفاصيل..    أبطال إفريقيا: الترجي الرياضي يواجه صن داونز .. من أجل تحقيق التأهل إلى المونديال    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    جندوبة : اندلاع حريق بمنزل و الحماية المدنية تتدخل    الإعلان عن نتائج بحث علمي حول تيبّس ثمار الدلاع .. التفاصيل    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    "ألفابت" تتجه لتجاوز تريليوني دولار بعد أرباح فاقت التوقعات    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    بطولة انقلترا : مانشستر سيتي يتخطى برايتون برباعية نظيفة    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    البطولة الايطالية : روما يعزز آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الأوروبية    زلزال بقوة 5.5 درجة يضرب هذه المنطقة..    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    تواصل نقص الأدوية في الصيدليات التونسية    طقس الجمعة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 34 درجة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي تتراجع بنسبة 3ر17 بالمائة خلال الثلاثي الأول من سنة 2024    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    سعر "العلّوش" يصل الى 2000 دينار في هذه الولاية!!    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    طقس الخميس: سحب عابرة والحرارة بين 18 و26 درجة    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب:الإسلاميات اللغوية التطبيقية(1 2) محمد الحمّار
نشر في الفجر نيوز يوم 23 - 12 - 2012


كتاب:الإسلاميات اللغوية التطبيقية
Islamologie Linguistique Appliquée
Applied Linguistic Islamology
3
الفهرس
* تقديم الفكرة والكتاب: ص 4
1. المدخل الفلسفي والعلمي: ص 7
2. أثر المبدأ العلمي في مجال التشريع والاجتهاد : ص 35
3. حول تصحيح وتحرير العقيدة: ص 44
4. إصلاح التربية والتعليم أنموذج مصغر للإصلاح العام : ص 69
5. منهجية الإصلاح العام: ص 75
تقديم الفكرة والكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الكتاب يتكون من مجموعة من الدراسات والمقالات المنشورة على
الانترنات وفي الصحف الورقية التونسية. وقد اخترنا هذه الطريقة
لأسباب عدة من أهمها نذكر تعوّدَنا بأسلوب المقالة أكثر منه بأسلوب
الكتاب، تفكيرا وتحريرا. وهو أسلوب وجدته منسجما مع طبيعة عملي،
توقيتا وتنظيما وانشغالا، كمدرس بالقطاع الثانوي.
أما الفكرة التي يتضمنها الكتاب فعمرها يناهز ال 25 سنة حيث تعود
جذورها إلى فترة أواخر الثمانينات من القرن المنقضي أي منذ عدت من
العمل في دولة البحرين لأشهد على نهاية حكم الرئيس الحبيب
بورقيبة وخلافة بن علي له. وهي فترة عرفت فيها تونس، خاصة في
الحي الشعبي العتيق الذي ولدت وترعرعت وكبرت فيه، حراكا
إيديولوجيا ملفت للانتباه، في الأزقة وفي الأنهج الضيقة وفي المساجد
وفي كل مكان، حول مسألة الإسلام ومكانته في المجتمع وفي
السياسة.
وربما كانت مخالطتي لأنصار حزب حركة النهضة من الشباب الذين
كنت أشاركهم همهم في نصرة الدين لكني كنت في الوقت ذاته
متعجبا ومتضجرا من قراءتهم ، السياسية المباشرة، للدين الحنيف،
هي العامل التاريخي الأساس لتشكل الرغبة لديّ في إنجاز ما كنت
أتمثله كعملية تصحيح أو توضيب لل"آلة" التي كانت مستحوذة على
عقل رفاقي ومؤثرة سلبا في تفكيرهم.
من هنا جاءت فكرة ابتداع "خط وسط" بين الثقافة العارية من التدين،
نسبيا، التي نشأت في وسطها والثقافة الإخوانية التي كنت شاهدا
على نشأتها. أسميت هذا الخط في البدء "الثقافة الوسطى" ومنه
"التدين التطبيقي" وما تخللهما من محطات على الطريق مثل
"المسلم الأساسي" و"التحت اجتهاد" و"الاجتهاد الثالث" قبل أن تتطور
الفكرة على مر السنين لتتخصص فتصبح "الثقافة الوسيطة" وتنتهي
بي إلى المحطة الأخيرة وهي "الإسلاميات اللغوية التطبيقية" كنتاج
لمنهاج "الاجتهاد الثالث".
5
من جهة أخرى ربما كانت مخالطتي لليسار الإسلامي ("الإسلاميون
التقدميون") في تلك الفترة متنفسا هاما لي ومدخلا لفكرة المصالحة
بين فكرين اثنين و ورؤيتين اثنتين للحياة و للدين. لكني لاحظت فيما
بعد (في أواسط الألفينيات) لمّا عدت للنشاط مع "منتدى الجاحظ"
(التسمية التي تلت "الإسلاميون التقدميون") أنّ الفكر الديني
اليساري، الذي كنت أستند إليه لأغذي فكرتي، لم يعد له باع.
مع هذا، قررت مواصلة السير على اليسار، إن جاز التعبير، وذلك بغية
استهداف الوصول إلى "الوسطية"، يقينا مني أنّ هذه القيمة المحورية
في الإسلام دينا و فكرا وثقافة من بين المكونات التي ينبغي أن تنجز
إنجازا أي أنها ليست موجودة بصفة فعلية في التفكير الشعبي
للمسلمين.
وكانت تسميتي للرافد السياسي للفكرة العامة التي أشتغل عليها
ب"اليسار المؤمن" وسيلة للإسهام في انفتاح المبدأ العلمي أكثر فأكثر
على المجال العقدي ومنه على المجال الاجتهادي فالمجال
السياسي. أي أنّ "اليسار المؤمن" وسيلة إستراتيجية نهدف من
ورائها إلى بلوغ الوسطية في أبعادها الشاملة عبر العمل السياسي
غير المباشر. ومن هذا المنظور جاءت تسمية الهدف ب"الوسطية
التأليفية".
هل ستكون لل"إسلاميات اللغوية التطبيقية" أية فائدة في مجال
تأسيس قدرة علمية وقدرة فكرية و، بالتوازي، أخرى سياسية لدى
المسلم المعاصر حتى يكون لا فقط شاهدا على عصره، كما نظر له
مالك بن نبي، وإنما أيضا فاعلا في عصره أي مُولدا لواقع جديد، كما
تمناه له عبد الوهاب المسيري؟ وهل بإمكان هذه الفكرة تجسيد ما
بحق فيه محمد عابد الجابري والمتلخص في "الفصل والوصل"، وربما
تسهيل ما بينه وشرحه محمد أركون من تفكيك للفكر الإسلامي حتى
يعيد المسلم استساغته بلغة العصر؟ وهل بمقدور الفكرة أن تضيف أيّ
سند للاجتهاد المقاصدي لمحمد الطاهر بن عاشور ومحمد الطالبي
وغيرهما؟
6
ذلك ما نرجو أن يلقى إجابة لدى قرائنا الكرام ولدى النخبة الوطنية
ولدى أمة الإسلام.
محمد الحمّار
7
-1-
المدخل الفلسفي والعلمي
8
الألسُنيّات لإحياء الكَفاءة في فهمٍ الإسلام والحَياة
كيف يَرتقي المسلمون من طَور الجُمود إلى طَور الحَركة
مِن "الجُمود" إلى "الحركة" و من أجل إعلان" باب الاجتهاد غير مغلق"
وابتغاء "نظام عالمي عادل". ذلك ما أكّد عليه علماء الإسلام
المجتمعين في صائفة 2009 بجامعة كشمير الهنديّة مُنوّهين بمَوقف
كل من الإمام الغزالي و "شاعر الشرق" محمّد إقبال من "عقيدة
الحركة"، مؤكدين أنّ "الحياة لا تتحمّل أن تكون جامدة وأنّ الحركة إنما
هي طبيعية." ( 1) الكلمة كلمةُ حقّ ولكن هل هي كافية لتروي
عطش مليارٍ ونصف من صائمي الحضارة وَ لِتُغنيهم من جوع؟
ما من شك في أنّ "عقيدة الحركة" وسيلة فعّالة لاستنهاض هِمم
الأمّة وحَثها على النهوض بنفسها، إلاّ أنّ هنالك إشكالية منهجية
يُحدِثها مثل ذلك القول الذي حظي بإجماع مؤتمِرِي جامعة كشمير. إنّ
مثل ذلك القول يبقى ناجما عن عقلية "علم الكلام" والتفسير التقليدي
للقرآن الكريم. ولئن وضع العلماء المُجتمعون بجامعة كشمير،
مَشكورين، الإصبع على واحد من أبرز الروافد اللازمة لارتقاء المسلمين،
فالخشية من تواصل "الجمود" الذي أعربوا عن استنفراهم إزاءهُ لا تزال
واردة وذلك لسبب بسيط : "ليس الإيمان بالتمنّي بل ما وقّر في القلب
وصدّقه العمل" كما يقول الأثر( 2). فمَن الذي سيعمل بمبدأ "الحركة"
إن كان العلم لم يتمّ بعدُ إدراجُه في صدارة ترتيب أدوات الاجتهاد؟ وهل
يتمتّع بعدُ المُجتهد الذي سيضع مفهوم "الحركة" نُصب عينيه بمناخ
فكري يولِي عناية مركزية للكفاءة في فهم القرآن خصوصا، وفي فهم
الإسلام عموما، ناهيك أنّ مقولة "فهم مُعاصر للإسلام" أضحت واحدة
من الشمّاعات التي يبرّر بها العقل العربي والإسلامي فشلَه ويتمادى
بواسطتها في الاستبداد الفكري، وذلك بمُحاولاته اليائسة
لِلإسقاطِ،على عَقلِ الأُمّة قاطبة، "فَهما" ورُبّما "أفْهاما" لا تزيدُ وُجودَ
الأمّة سوى التعقيد تِلْوَ التعقيد؟
إنّ "الحركة" عِلمٌ ولن يَسمح بالخوض فيها وفي أسبابها وظواهرها
وفوائدها وطُرق تناوُلها إلاّ العلم.فهل سنبقى قابعين في سدّة "علم
9
الكلام" أم سنعمل ب"كلام العلم" ( 3)؟ ولأننا نعتقد أنّ القرآن قد انتهى
تفسيرُه بتلك الطرق القديمة، فإننا نقترح استخراج معانٍ خَفيّة من بين
معانيه، التي لا تنفذ، بطريقة العلم وبالاستئناس بالتفاسير المُتداوَلة.
وفي هذا السياق نَميل إلى الاعتماد على اثنين من العلوم لِما بينهما
من شراكة في تبيين أهمية "الحركة" في الحياة المعاصرة وكذلك لِما
يشتمل عليه كلاهُما من أدوات ذات صلاحية لاستيعابِ معاني القرآن
الكريم في هذا الزمان وفي كل مكان. والعِلمان الاثنان هما أوّلا نظرية
"الفوضى" (البنّاءة) لإيليا بريغوجين وأسلافِه وأتباعِه، وثانيا ومن باب
أولى وأحرى نظرية "النّحو التوليدي والتحويلي" في علم الألسنيات.
لكن توازيا مع النظَريَّتين العِلميتين، لابُدّ لنا أن نتدبّر القرآن وكذلك الواقع
المعيش لكي نقدرَ على إماطة اللثام على ما قد يُفيدنا من ظواهر
وخصوصيات "الحركة". ونحن نفترض أن لن تكون الإفادة حقّا مُفيدة في
المرحلة الراهنة من النضال الفِكري للمسلمين إذا لم تكُن نتائجُ أيّة
دراسة من النوع الذي نَحن بصدد إنجازه مُوظَّفة خير توظيف في
أُنموذجٍ ما أو مثالٍ ما يتّسمُ بإدماج المعرفة من صنف "ما قبل العلم":
القرآن الكريم، مع المعرفة من صنف العلم: نظرية "الفوضى البنّاءة"
ونظرية "التوليد والتحويل".فإلى أيّ واقع سنتحوّل؟
من النظام تتولّد الفوضَى ومن الفوضَى يتولّد النظام؛ ذلك ما أكدَته
نظريات إيليا بريغوجين استنادا إلى ثورة الديناميكا الحرارية في الفيزياء.
وبناء عليه، أعتقد أنّه بالإمكان أن نُضفِي على هذا الكلام معنى ينفعُ
المؤمنين، قارئي القرآن الكريم ومُريدي تأصيل إيمانهم في واقع
حياتهم. أعتقد إجمالا أنّه بالإمكان أن نستخرج من القرآن الكريم
(النظام) عناصر متفرقة لم يتمّ تسليط الضوء عليها بعدُ (فوضى بنّاءة)
ثمّ نُدمجها في كيان أو بناء أو هيكل أو بنيان أو تركيبة (نظام) يسمح
بها العلمُ المستخدَم كوسيلة لهذا الغرض.
وإذا اعتبرنا أنّ"التوليد والتحويل" حركة في حدّ ذاته، نقْدرُ إلحاق هذا
المبدأ التشُومسكيّ( 4) المستند إلى نظريات كبار الفطريين السابقين
في الفلسفة والعلوم الدماغية وخاصة منهم روني ديكارت وبرتران
روسل .فالألسنيات هي العلم الذي نقترحه وسيلة للغرض
المذكور( 5).فماذا يقول تشُومسكي عن "الحركة" سارِدًا برتران رُوسل؟
10
إنّه يقول إنّ "مِن الدماغ الإنساني تتولّد قواعد النحو والممارسة اللغوية
من دون تعلّم سابق"؛ ذلك ما يُصرّ عليه العلاّمة وأنصاره من مدرسة
الفطريين والولاديين( 6).ويشتمل منظور تشومسكي الفلسفي
واللغوي على صفات عديدة تدْخُل في الحِسبان لمّا يكون الإنسان
بصدد ممارسة التكلّم. ومن هذه الصفات نذكر اثنَتين فحسب بناءا على
مركزِيتِهما في دراستنا هذه، وهما: أوّلا، أنّ الممارسة الكلامية
"عملية" ونسق وسيرورة ومسار، وليست تقليدا أو عادة أو اكتسابا. و
ثانيا، أنّ الوسيلة الطبيعية والفطرية التي يستخدمها الدماغ أثناء إجرائه
ل"عملية" التكلّم هي ال"استقراء" (بالانكليزية "إِندَكْشِنْ" على عكس
"دِدَكْشِنْ" وهو ال"استخراج" أو "الاستنباط").
فحين يغُوص الباحث في الواقع المَعيش بالتوازي مع الواقع اللغوي من
جهة، وفي القرآن الكريم بالتوازي مع نظام اللغة من الجهة الثانية،
ابتغاءَ إبراز التشابه بين تركيبة (من تركيبات) الإسلام الخفية بين سطور
كلام الله العظيم وبين تركيبة اللغة، وهو تشابه بيّنّا بعض أوجُهه في
مقالات سابقة ( 7)، سوف يميلُ إلى افتراض أنّ الشريعة السمحاء
هي "نحوُ الإسلام" ثمّ يلتزم بإثبات أنّها قد تكون هي الأخرى، مثل
"النحو" في نظرية تشومسكي، حاملة لِصِفة "التوليد والتحويل"، ما
يحفِزُه على محاولة بيانِ أنّ، زيادة على أنّ الخير والشر مُتأصّل في
نفس البشر( وهذا معروف لدى المُسلم)، فإنّ الجزاء والعقاب قد يكونا
هما الآخران مُسجّلان في جينات الإنسان وأصلُهما ثابت في عقل
الإنسان وفي نفسِه، تماما مثلما ثبت تجذّرُ أصول قواعد اللغة فيه.
وفي هاته الحالة، وباعتبار أنّ الشريعة الإسلامية هي الوَجه الظاهر
للجزاء والعقاب، فالباحث مُطالَب بِبَيانِ ما إذا كان الأجدرُ بالمُسلم أن
"يستقرأ" قوانيها من داخل عقله و نفسه،مثلما "يستقرأ" طالبُ اللغة
قواعد النحو منهما، عوضا عن الاكتفاء ب "استخراجها" من كتاب الله
العزيز مُوصِدا السُّبل الطبيعية والخَلْقية المُؤدّية إلى أغوار العقل (بما
فيه العقل المُتدَين) والنفس (بما فيها النفس المُتديّنة)، أعني أغوار ما
ألِفنا تسميَتَه بالمُمارسة الدينية.
من خلال المشهد الأوّل للمُقارنة (بخصوص صفة "الحركة" في اللغة)
وعلى سبيل الحَوصلة لِما تقدّمنا به، نستنتج أنّ اللغة مُمارسة،
11
ونُضيف أنّ هذه الممارسة هي التي تَصنع النحو وليس العكس، حسب
التقويم التشمسكيّ.وطالما أنّ ذلك كذلك فإنّ التوجّه الذي يُميّز عملية
التكلّم سوف يكون كالآتي: أصول قواعد اللغة ثابتة في الدماغ، ومنها
تنطلق مُمارسة التكلّم، ومنها يتمّ تكوّن قواعد النحو بعملية
ال"استقراء" . مع العِلم أنّ المُمارس، في المُعادلة التشمسكيّة، لا
يجب أن يَغُرّه وجود كُتب النحو في المكتبات.فذلك لا يجبُ أن يعني أنّ
النحو المُبُوّب بصفة أكاديمية مقدّمة لمُمارسة اللغات.
أمّا المشهد التّالي للمُقارنة (وهو يخصّ التديّن) فسيقدّم لنا الإيمان
بمثابة الممارسة ("ليس الإيمان بالتمنّي بل ما وقر في القلب وصدّقه
العمل")، وكَون أصول المَيل إلى الإيمان ثابتة في التكوين البيولوجي
للإنسان( 8)، وكَون الشريعة الإسلامية تفوق وتتجاوز وتتعالى عن
المُمارسة. والذي يتبقّى عندئذ من المُعادلة هو: ما هي علاقة
الممارسة الدينية بالشريعة؟ ألا يمكن أن تكون مُماثلة لعلاقة
الممارسة اللغوية بالنحو؟ وإن كان الأمر كذلك، ماذا يجب أن يتغيّر(يتولّد
ويتحَوّل) في منظومة التدَيّن؟
بادئ ذي بَدْء، ماذا يقول القرآن عن التوليد والتحويل في خَلق الحياة؟
التوليد والتحويل من سُنن الله في الخلق. فهو تعالى "الذي يُحيي
19 ) و"مُخرج المَيّت من : ويُميت" و"يخرج الحيّ من المَيّت"(الروم 30
: 95 ) والذي "أحياكم ثم يُميتكُم ثم يُحييكُم"(البقرة 2 : الحيّ (الأنعام 6
22 ).وهو سبحانه الذي ولّد الحياة من الماء: "جَعَل من الماء كلَّ شيءٍ
30 )، والذي يحوّل نهارنا إلى ليلنا من دون أن : حيّ"(الأنبياء 21
يفاجئ سبحانه فطرتَنا بهذا التحويل: "يولجُ الليلَ في النهارِ ويولج النهار
29 )، والذي سخّر لنا تحويل المادّة إلى طاقة: : في الليلِ"(لقمان 31
"الذي جَعل لكُم من الشجَرِ الأخضرِ نارًا فإذا أنتُم منه تُوقِدُون"(ياسين
(80 : 36
وماذا يقول القرآن عن التوليد والتحويل بإزاء الإيمان ؟
فلا عَجب إذَن إن اعتبرنا التوليد والتحويل من سُنن الله أيضا في تعويد
المسلم على التعامل السليم مع قوانين الشريعة السمحاء وذلك من
خلال الممارسة اليومية لمناسك الدين الحنيف والعملِ من أجلِ تثبيت
12
الإيمان. والله عزّ وعلا وعَدَ خَلْقَه بأن يساعدهم على اكتشاف السنن
والسبُل الدالة على انّه حقّ :"سنُريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفُسهم
53 ). وهو الذي يحثُّ الإنسان عُموما على إعمال : – الآية" (فُصّلت 41
العقل ويدُلّه على مَكمَنِ "التفكّر"، ألا وَهوَ داخل النفس : "أوَلَمْ يَتفَكَّرُوا
في أَنفُسِهِم ما خَلَقَ اللهُ السّماواتِ والأرضَ إلاَّ بالحَقِّ- الآية." (الروم 30
8).كما أنّ سبحانه هو الذي يبدّل السماء من لَون إلى لَون، والتوقيتَ :
من الليل إلى النهار لِيجعَله مُلائما للإنسان المسلم في حياته ونُسُكه
مثل فريضة الصيام وما تَبِعها من سحور وغيره:" وكُلوا واشربوا حتى
.(187 : يَتبَينَ لكُم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ مِن الفَجر"(البقرة 2
كما أنّه سبحانه يُطَمئِننا بتأكيده على تداول الفرح والترح وتداول
الخلاص والعراقيل بحُكمِه جلّ جلالُه: "فإنّ مع العُسر يُسرا"(الشرح 94
.(7 : 5) و كذلك بوَعده أن "سيَجعلُ اللهُ بعدَ عُسرٍ يُسرا"(الطلاق 65 :
وحتّى الصلاة، فبالإضافة إلى كَوْنِ الخالق يُقدّمها دَوما في صدارة
المناسك (عِماد الدّين)، فهوَ يُوَفّر لنا فُرصة رُؤيتها، هي وما يُرافقها من
واجبِ فِعل الخَير، في صدارة تمشٍّ مُنقذ من الضلال، له صفات
"التحرّك" المُمَيِّزة لكلّ سيرورة أو مَسارٍ. وهذا التمشّي الإلهي
نَلمسُه من كلام لُقمان إلى ابنه، إذْ جاء في مُحكَم التنزيل:"يا بُنيّ أقِمِ
الصلاة وأمُر بالمعروف وانْهَ عن المُنكر واصْبِر على ما أَصابَك إنّ ذلك من
(17 : عَزمِ الأُمور"(لقمان 31
وما قولُ الحياة في التوليد والتحويل من منظور التجربة الوجودية لِخَلق
الله؟
ماذا عن الممارسة اليومية لمبدأ التوليد والتحويل حتى في صورة
افتراض عدم توفّر كتابٍ عظيم اسمُه القرآن لدى الإنسان؟ ألَمْ يتعامل
المرء، بدون اعتبار "الشرعة و المنهاج" (وَردت الكلِمتان في سورة
48 ) التي سينزلها له الله، بمبدأ التوليد والتحويل بصفة : المائدة 5
فطرية وولادية؟
فلمّا يتوجه رجلٌ مهَدَّد، مثلا، في مُمتلكاته إلى رجل يُهدّده بسرقتها
منه، قائلا له :"إن تأخذ كذا مني فسوف أقطع يدك"، لا يقولها فقط مَن
تَربَّى على حدّ قطع يد السارق في الإسلام وما جاء معه من حُدود
أخرى في الشريعة الإسلامية السمحاء، بل يقولها أيضا كلّ من ينفعل
13
بالفطرة ضدّ عمل الشرّ فيسنّها كأقصى عقوبة لفائدته ولِرَدع أو عقابِ
من هَدّده أو من اعتدى عليه. يقولها زوجٌ غاضب تشنّجت أعصابُه على
إثرِ سلوكِ امرئ يُعاكسُ زوجتَه ويُراودها عن نفسها أو رُبّما زنى معها،
فيقرّرُ قائلا:"بسبب فظاعة صنيعك سأُرسلُ إليكَ من سيُؤدّبك فينهالُ
عليك ضرْبا حتّى الموت إن لزم الأمر"، لا يتفوّه بمثل ذلك الكلام فقط
من تربّى على معرفة أنّ عقاب الزاني في القرآن هو الجَلد، بل يتفوّه
به القاصي والدّاني من خلق الله ممّن غلَبَهم الغيظ فانساقوا إلى
أساليب، عنيفة لا محالة، ولكنّها طبيعية وفطرية.
أعتقد أنّ من الطبيعي أن تسمع كلاما مثل كلام الرجُلَين على لسان
الهنديّ والصينيّ والهندوسيّ والكنفوشيوسي والزردُشتي وغيرهم.
من المُتأَكّد أنّ وصايا الثأر والانتقام وغيرها مثل تلك الصادرة عن
الرجُلَين، على غرار وصايا فِعل الخير والصدقة ومساعدة ضِعاف الحال،
والحِفاظ على علاقات صلة الرحم و القرابة وعلاقات حُسن الجِوار
وغيرها، كان مَعمولا بها في الشرائع البشرية القديمة، قبل مجيء
التوراة ثم الإنجيل ثم آخر الكتُب، القرآن العظيم، ما يُبَرهنُ على أنّ
الإنسان مجبولٌ على سِماتِ التنكيل بنظيره الإنسان لَو مسّ عرضَه أو
شرفَه بسُوء مثلما هو مجبُولُ، في المُقابل، على سِمات نُكران الذات
والتواضع والاعتراف بالجميل.
وماذا يقول القرآن في التوليد والتحويل من خلال التجربة الوجودية
للإنسان، مخلوق الله؟
أعتقد أنّ الإنسان لَو جرّد نفسه تماما، من باب التجربة المخبَريّة، من
ثقافة الدين ومن "الشرعة والمنهاج" الذي سيخصّه به الله (لِيُنجيه لا
محالة من الاعتباط وإهدار وقته في التخمين والتدبّر في ما ليس فيه
تدبّر)، ثم لَو جرّب الإنسان رَصْد ومُساءلَة نَواميس وسُنن الفطرة التي
هو مجبولٌ عليها، في المستوى الأزلي، من طرف خالقٍ دارٍٍ: "إنّا خلَقنا
الإنسانَ من نُطفة أمشاجٍ نَبتليه فجَعَلناهُ سميعاً بَصيراً- إنّا هَدَيناهُ
2 و 3)، سَوف يتوصّل إلى : السَّبيلَ إمّا شاكِراً وَ إمّا كَفوراً"(الإنسان 75
نتيجة باهرة؛ سوف يكتشف أنّ علاقته بمثيله الإنسان وبالطبيعة
وبالبيئة وما في هذه العلاقة من تواصل أصليّ مع الخالق، فاطرِ
السماوات والأرض وما بينهما، إنما هي علاقة محكومة، بدرجات
14
متفاوتة لا محالة بمبدأ التوليد والتحويل. وقد تكون استحالة تقريب
الدرجات هي التي تُمثّل سنَدا قويّا لفائدة تنزيل الشرائع السماوية
عموما والشريعة الإسلامية على وَجه الخُصوص، ولكنّ هذا الأمر لا هُو
من مشمولاتنا ولا هُو من أغراض هذه الدراسة.
فالإنسان، بصَرْف النظر عن كونِه مُسلِما، في داخله الخيرُ وكذلك
7 : الشرُّ: "ونفسٍ وما سَوّاها، فَألهَمَها فُجورَها وتَقواها"(الشمس 91
و 8 ).كذلك يُرينا سبحانه الشاكلة التي خلقَ عليها الإنسان.حينئذ ما
على الإنسان إلاّ أن يختار: "إمّا شاكِراً و إمّا كَفُوراً". وهو اختيار من
الداخل، من داخل الهَدي الذي في دماغه وعقله ونفسه: "وهدَيناه
10 ). والاختيار من الداخل هو التوليدُ والتحويلُ. وما : النجدَينِ" (البلد 90
سيختارُ الإنسانُ هكذا توليدَهُ هو من هُدى الله؛ إمّا قوانينُ الفطرة
الطيّبة: " شاكرا"، وهو ما يَرتضيه له الله؛ وإمّا قوانين الفطرة الرديئة:
"كَفُورا"، وهو ما يَحُثه الله على اجتِنابِهِ. كما أنّ صفة التوليد والتحويل
وردت في تفسير ابن كثير للآية الكريمة "سنُريهم آياتِنا في الآفاقِ وفي
53 ) حيث يقول:" أيْ سنُظهرُ لهم دلالاتنا : أنْفُسِهِم- الآية" (فُصّلت 41
وحُجَجِنا على كَون القرآن حقّا منَزّل من عند الله، على رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم بدلائل خارجيّة من الفُتوحات... ويُحتملُ أن يكون المُراد
( من "وفي أنفُسِهِم") ما الإنسان مُرَكّبٌ منه، من المواد والأخلاط
(10) ( والهَيئات العجيبة..."( 9
ولكَي نُنَزّل حديثنا إلى واقع العالم اليوم وعمل الإنسان فيه، دَعْنا نرى
كيف أنّ طريقة التوليد والتحويل لتلك القرارات بوَصفِها قائمة على
قوانينَ مجبولٌ عليها الإنسانُ إنّما هي نُسخة طبق الأصل لِما أنجزته
العلمانية، على أرض الواقع وعلى الميدان، في التاريخ المُعاصر
للمسيحيين (واليهود تباعا).فالإنسان الذي افترضناه جدَلا مُجرّدًا من
الشرائع وُجدَ فعلا. بل قَلْ هو مازال موجودا. وهو المُواطن المسيحي
(واليهودي، ورُبّما أيضا الياباني والكوري والصيني...)، الذي عُرف،و ما
زال يُعرَف، بحُسن توظيفه للائيكية/العلمانية. يُمكن أن نُعرّفه الآن، في
ضوء تعريفنا للتوليد والتحويل، بأنّه مواطنٌ نَزَع عن طواعِية كِساء الدين
والتديّن (كلّ دين) في ممارسته للحياة وللشأن الاجتماعي العام،أو
بذَلَ قُصارى جُهده ليفعل ذلك، ما جعله يفترض نفسه إمّا غيرَ مُسَيّرٍ
15
بالمَرّة من لدُن قوّة خارقة (الماأدريّون والمُلحِدون النُّفاتيّون) وإمّا مُسَيَّرًا
بصفة جُزئية ، أي مُحافظا على عذارة خلدِه من الركون إلى التسيير
الإلهي في شؤون السياسة وتسييرالحياة العمومية و دواليب الدّولة.
فالذي حَصل بخُصوص نمَط "التَّعَلْمِن" المسيحي اليهودي، كنتيجة
لذلك، أنّ العلماني نجَح إلى حدّ بعيد في صيانة قوانين الفطرة الطيبة
بالرغم من إذعانِه، بالتحديد الإلهي، لمشيئة خالقٍ دارٍ بأسرار هذا
الكون. والذي حصَل أيضاً أنّه لقِي نفسه مجبُولا على توليد وتحويل
قرارات اللَّوم أو الاشمئزاز أو الزجر أو العقاب أو الثأر من داخل تركيبته
العقلية والنفسية، وكذلك على توليد وتحويل قرارات المكافأة مثل
الشكر أو الاعتراف بالجميل، انطلاقا من وضعية مُعيّنة، سيّئة مثل
التعرّض إلى الخيانة أو السرقة أو الإهانة أو الاضطهاد، أو طَيبة مثل
إسعاف المريض أو نجدة الغريق أو إطعام المسكين.ومن ثمّة قام هذا
الإنسانُ، الذي اختار التجرُّد من الشرائع السماوية (في الإيمان وفي
السياسة فقط، أو في السياسة فحَسب) أن يُترجِم ما أسفر عنه
استخدامُه للأداة التوليد والتحويل من مشاعرَ وعواطفَ وأفكارٍ وآراءٍ
ومواقف و قراراتٍ، على قانون سُمّي ب"القانون الوضعي" وعل مواثيق
جدّ هامة وجدّ متطوّرة تخصّ الحريات الأساسية وحقوق الإنسان
والحقوق المدنية وحقوق المرأة وغيرها.
هكذا نُدرك أنّ أولئك العلمانيين الأصليّين فرّقوا بين دينهم (المسيحية
وتباعا اليهودية وغيرها ما عدى الإسلام) وبين الدولة والحياة قبلَ أن
يَنكبّوا على التفاعل الفطري والولادي مع الحياة ومع إدارة الشأن العام
بالسياسة. وقد يَفهم مُعظم المسلمين أنّ ذلك شيء جميل وأنّ هؤلاء
قد أنجزوا ذلك بالاحتكام إلى وسائل العلم؛ وأنّ هذا إنجازُ أجمل. وقد
يستنتج كثير من المسلمين، ممّن يبغون الإقتداء بهم، أنّ من أعظم
إنجازات هؤلاء أنّهم قد قرؤوا الواقع بالعِلم عوضا عن الدين وأنّه ثبت
لديهم أنّ العلم وحده يوصل أتباعه إلى أعلى مراتب الرّقيّ والحضارة.
ولكن، باعتقادنا، يجب على المُسلمين أن يُدركوا أنّ هذا الأمر الأخير
من أخطر التهديدات على المسيرة الفكرية والوجودية لديهم، إذ أنّه جدُّ
مَشكوكٍ فيه تاريخيّا وسيكولوجيّا بالخصوص، كما سنرى إجمالا.
16
"هيهات"، نَسوقها لكل واحد منّا انبهر بما وصل إليه الغرب بلائيكيته
(علمانيته) من تقدّم ورُقيّ. فَهُمْ ليسوا نحنُ، ونحنُ لا يمكن أن نكون
مثلهم. لا يُمكنُنا استنساخ هذا التمَشي اللائيكي/ العلماني من عند
المسيحيين ومن تبِع تمَشّيهم. لماذا؟ لأنّ أنموذجهم غير قابل
للاستنساخ من ناحية.فالاستنساخ له قواعد، ومن قواعده التوليد
والتحويل انطلاقا من الخلايا الأُم. فهل تَربتُهم الثقافية والعُقدية والتربوية
هي تُربتُنا حتى نتفاءل بنجاح استنساخ أنموذج للحياة من لدُنهم؟
ولأنّ، من ناحية ثانية، الفرق بينهم وبيننا في التعامل مع نواميس
الفطرة والولادة مثل نواميس التوليد والتحويل هو الآتي: هُم تَحَتمَ
عليهم التعامل معها بالعِلم مع التجرّد من الدين، بينما نحن محكومين
بالتعامل معها بالعِلم، مثلهم، لكن، وهنا تتنزّل المُفارقة المنهجية
الكبرى،مع استحالة التجرّد من الدين.فقد سبق أن رأينا في هذا المقام
وفي غيره أنّ دين الإسلام، دون سواه من الأديان السماوية أو غير
السماوية هو دين الفطرة بامتياز. ولسائل أن يسأل: ما الذي أحدث هذا
التباين الرهيب، أي كيف يكُون دينُنا دين فطرة ونحن لم نقدر على
استجلاء واستبيان واستنباط، و( لكي نستعمل "الدّال" الألسني) لماذا
لم نقدر على "استقراء" قوانين الفطرة بواسطته،أي لماذا لم نُطبّق
الإسلام؟ أذلك مَرَدُّه الإيمان بالعلمانية كحَل ليس مثله حلّ لأنّها خيارٌ
طبيعيّ ومتناسق مع النموّ الثقافي للبشر كافّة؛ مثلما هو سائد في
أوساط علمانية عديدة من بين المسلمين؟ أمْ أنّ مرَدّه زوالُ الرغبة في
الإسلام كدينٍ صالحٍ للتطوّر؛ مثلما هو سائد لدى البعض الآخر من
العلمانيين من بني هذه الأمّة؟ أم أنّ الرغبة في تحيين الإسلام
موجودة ولكن تصحبُها قُدرة عجيبة على الحِفاظ على الأوضاع الفكرية
والتربوية والعُقدية السائدة، مع العِلم أنّ التُّربة التي يترعرع فيها هذا
النوع العجيب من القدرة السالبة ما هي إلاّ تكريرٌ لفقدن الكفاءة في
فهم الإسلام والحياة معًا؛ مثلما لا يعتقد أحد ولا يُريدُ أحدٌ أن يعتقد؟
قبل الإجابة المباشرة نقول إنّ ترْك الإسلام في ثقافتنا لا يُعَدّ حلاّ
جميلا مثلما هو في ثقافة الآخرين. بل بالعكس، ترْكُ الإسلام لفائدة
العلمانية هو إعلان بالفشل للمنظومة الفكرية والعلمية والثقافية عندنا
بتمامها وكمالها.و كلامُنا هذا ليس دَحْضا للعلمانية بأيّة صورة من الصور.
بل بالعكس، إنّه اعترافٌ بأنّ العلمانية إنّما هي مهارة تُكتَسَب، مثل
17
سائر المَهارات المُبَوّبة تعليميّا وتَربَويّا في خانة "الاكتساب". إنّه نِداء
(مَوصولٌ بالعَضُد العِلمي) من أجل العمل على تحصيل المَهارة العِلمانية
بواسطة الدخول من بوّابة دون سواها؛ الدخول من بوّابة التأصيل
الفكري فالثقافي ثمّ يأتي دَور السياسي، عِوضا عن التمادي في
المُخاطرة بولوج بوّابة مُحكمة الغَلق، إن لَم نَقُل تَفتحُ على متاهات لن
تسمحَ لِمَن جرّب وُلوجَها الخُروج منها ثمّ العودة إلى قواعده سالِمٍا و
مُعافًا: بوّابة الاغتراب والاستِلاب بواسطة الاقتداء الحَرْفي بالغرب
العِلماني. إنّ ما نرمي إليه هو بَيانٌ بأنّ الإسلام يَسمح، في مساحات
لا تزال عَذراء في ما بين سطور القرآن والحديث، رغم إعلانٍ ضِمني
بإتمام تفسيرها من طرف عُلماء الدين والمُفسّرين، بقراءة لِمسائل
التقدّم، تكونُ أكثرَ تطوّرا وأكثرَ تلاءُمٍ مع واقع المسلمين وعقلياتِهم من
ذلك الشكل من العلمانية الذي نشأ في بيئة غربية ( 11 ). نقصُد أنّه قد
آنَ الأَوان لأن ينكَبَّ المفكّر العربي والإسلامي على تحويل وِجهة
اهتمامه وانشغاله، بل قُل وهَوسه، من وِجهة إلى وِجهة أخرى أكثر
تفتّحا وأكثر واقعية.
فعِوضا عن التّهافت على ضمّ العلمانية في شكلها الخارجي ضَما
(مثلما يفعل اللائيكيون/ العلمانيون) أو ما يُقابِلها من تهافتٍ معكوس
(على إعادة إنتاج أنموذج شبيه بالأنموذج الإسلامي التاريخي، وذلك
من طرف الإسلام السياسي)، وجبَ على المثقفين العرب والمسلمين
أن يُصوّبوا مهاراتهم في الفهم والإدراك والتمعّن وإعمال العقل نحو
الإشكالية الأُم : إنّ الحِرص على توخّي العلمانية من طرف كثير من
مثقّفينا صار حِرْصا على اعتناقِها وكأنّها تعويض للدّين. وهذا مرَدُّه حالة
مَرَضية من النوع الفُصامي ( 12 ) كأنّي بها تجذبُ الشخصية العربية
الإسلامية جذبا نحو حُلول الاستلاب وتدفعها دفْعا بعيدا عن أيّة مُحاولة
للتطبيق العقلانيّ لِلإسلام، وذلك من دون توفّر سبب منطقي مؤكّدٍ ولا
سبب حُقوقي مبيَّنٍ و لا سبب عِلمي مُجَرَّبٍ؛ من دون توفّر أسباب
قوية المتن تخدم لفائدة التخلّي عن الإسلام.إذن، إذا توفّرت الإحاطة،
هكذا، بلُبّ الإشكالية، فلم يبْقَ إلاّ أن يُحاول مُثقّفو العلمانية من
المسلمين وكذلك نُظرائهم من الإسلاميين، طرحَ تلك الإشكالية الأُم
من المنظور الآتي: ما الذي يمنعُنا من إنجاز قراءة مُتطوّرة للإسلام
تكون، بتلاؤُمها مع عقلياتنا، كفيلةً بتوليد العشرات بل الآلاف من
18
المعاني التي تُضاهي أو تفوت معنى العلمانية بالذات؟ بكلام آخر، كيف
نُفسّر عدم جاهزيّتنا لتطبيق الإسلام؟ أليس تطبيق الإسلام مطلبا
مركزيّا من مطالب الأمّة؟ وهل سوف لن يكفّ بعضنا على تخويف البعض
الآخر بمثل هذا المطلب: بعضُهم بالترهيب بواسطة التنكيل بفَرَضية
تطبيقه (العلمانيون) وبعضهم الآخر بتوخّي أساليب في الدعوة والتبليغ
لم تعُد صالحة لِمَن يعيش بين المُسلمين، ناهيك لِمَن هو مؤمنٌ
مُمارسٌ بَعْدُ، وما ينجرُّ عن هذا الأسلوب اللاّ بيداغوجي من تحوّلٍ لدَعوة
الدّاعية وتبليغِ المُبلِّغ، في عُيون المسلمين أوّلا ثم في عُيون غير
المسلمين ثانيا، إلى إعلانٍ تَهديد بتطبيق الإسلام (الإسلاميون)؟
لقد توفّر لدَينا بعدُ الشطر الأول من الإجابة لمّا أكدنا أنفا أنّ عملية
الاجتهاد لم تتبنَّ بعدُ العِلم كأداة كاشِفة عن أغوار القرآن الحكيم، ما
"ولّد" لدينا مرَضًا مُستحدَثا زيادة عن تلك العِلّة الأصلية، وهو التدافع من
أجل الاقتداء بالغربيين في الابتعاد عن الدين، وما يقابله من تدافع على
التطبيق الفوري لأحكام الشريعة من طرف من يرُدّون عن الاغتراب
الخارجي بالاغتراب الداخليّ. هؤلاء يُخْلِطون بين دين لا يقول بأهمية
العلم و الفطرة (المسيحية)، ما جعلَ دُعاتَه وأَتباعَه أوّل مَن تجَنّبوه في
شأن السياسة وإدارة الحياة العامّة، وبين دين العلم والفطرة
(الإسلام)، الذي هُو بطَبعِه مَدعاة للإتباع والصّيانة والتّكرير. وأولئك
.( يُخلطون بين الدين والدولة بما لم يَسمح بِخَلْطهِ الدينُ نفسُه ( 13
أمّا الشطر الثاني للإجابة عن سؤال لماذا لم نُفلح في تطبيق الإسلام
فهو الآتي: إذا كان المسلمون لا يتعاملون مع الشريعة السمحاء مثلما
يتعامل طالب اللغات، أو المولود، مع اللغة، فكيف هُم يتعاملون معها
في الوقت الراهن؟ إنّهم يتناولونها إلى يوم الناس هذا، وبسبب انغلاق
المجتهدين على أنفسهم في باب علم الكلام (في الدين) وعلوم
التفسير والاجتهاد التقليدية، مثلما لا يتناول متكَلّمٌ لغة يتكلّمُها ؛ أو
لِنَقُل إنّهم يتناولون الإسلام ككُلّ مثلما كان متعلّمو اللغات في النصف
الأول من القرن المنقضي يتناولون اللغة، أي قبل الثورة الألسنية التي
أتى بها نعوم تشمسكي بفضل نظرية النحو التوليدي والتحويلي: جملة
من القوانين/ الحُدود، المبوّبة داخل نظام النّحو/الشريعة وجب على
المستعمِل أن يحفظها عن ظهر قَلب، بعْد "استخراجها" من كتاب
19
النحو/كتاب الله العزيز، ويطبّقها في كلامه/في تديّنه.والحال أنّ مبدأ
التوليد والتحويل يقتضي اعتبار اللغة ،وبالتالي الدين أيضا، في مقاربتنا
التشبيهية، نظاما، بالتأكيد، ولكنه نظام يمتاز بصفات "الفطرية" كما
أسلفنا، ما يجعل المُتدَيّن مطالبٌ ب"استقراء" ما يحملُه دماغه وعقلُه
وما نفسُه حُبلى به، من أصول القوانين المُسجّلة في جيناته، شريطة
أن يكون بصدد ممارسته للدّين أي من خلال تجربة التديّن بالذات وليس
من خلال العبادة الدّغمائية ؛ وتلك هي مواصفات "العملية" أو
"السيرورة" أو "المسار"("بْرُوسَاسْ " بالانكليزية) التي يعتبرُها
تشمسكي ومدرستُه عمودا فقريّا لجسم اللغة بعد أن اعتمدوا مبدأ
التوليد والتحويل كمُحَرّك، أو بالأحرى كمجموعة كبيرة وكثيفة من
المُحرّكات، لذلك الجسم.
فالمقصود ب"عملية" هو في الأصل "عمليّات"، وهو بالضبط عكس
التقليد والإتباع والتلقين. فبخصوص "العملية" اللغوية يقول رتشرد وال
إنّ " ما يقصده تشمسكي هو أنّ السبب الرئيس في أن تكون مُهتمّا
بالدراسة العلمية للّغة، ومن باب أولى وأحرى بالنّحو التوليدي، هو أنّ
لَديها مساهمة ستُضيفها إلى فَهمِنا للعمليات العقلية." ( 14 ) سواء
في اللغة أو، كما يفرضه علينا غرَضُ المُقارنة، في الدّين؛ سواء في ما
يخصّ "التكلّم" أو ما شابهه من "تديّن"، نعتبرُ أنّ تصنيف تشمسكي
ل"فهم العمليات العقلية" كغاية للممارسة اللغوية، فيه من الشمولية
العلمية ما يُؤهّله لأن يكون مُدرَجا كغاية للممارسة دين الإسلام.
فالعقل البشريّ واحد. سواء أمارَسَ اللغة أم مارَسَ الدّين. إنّه اندماجيّ
.( في كثير من وظائفه، ناهيكَ أنّه قادرٌ على توحيد النحو بالذات( 15
وألَيس العقلُ القادرُ على توحيد النحو بقادرٍ على تَوحيدِ كلّ فحوى
العقل، بِما فيها على الأقلّ المَيل إلى التديّن، أو الفطرة أو، لِمَ لا،
الدّين؟ ونكون حينئذ شاهدين على لحظةٍ رائعة، لحظة تلاقي حُكم
العِلم (التوليد والتحويل هي من خصوصيات الدّين،على غرار اللغة) مع
حُكم القرآن العظيم:"إنّ الدِّينَ عندَ اللهِ الإسلامُ وَما اخْتَلَفَ الذينَ أُوتُوا
،(19 : الكِتابَ إلاّ مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ- الآية.")( آل عمران 3
.(33 : و"لِيُظهِرَهُ على الدِّينِ كُلِّهِ- الآية." (التوبة 9
20
وإذا كان ذلك كذلك فسَنزْدادُ يقينٍا بأنّ ما يُفيدُ المسلمين في فهم
عمليّات التكلّم سيُفيدهم أيضا في فهم عمليّات التديّن. وسيكون ذلك
مَيسورًا طبعا شريطة أن يتّبعوا الرابط الرئيس، أعني استبيان قُدرات
العقل البشري على التّأقلم مع قوانين سنَّها شارعٌ عظيم ذو الجلال
والإكرام، ما لم نَفعَلْه إلى يوم الناس هذا. أمّا الذي سيترتّب عن التحوّل
المنهجيّ في التديّن هو أن يكون المسلم قادرا على تطبيق الدين
بواسطة منهجيات التعلّم العصرية الرامية إلى استفزاز مهارات التفاعل
لدى المُسلم "البَاث" ل"المَدلول" الدّيني والمَعرفي، بالمدّ والجزر، مع
قوانين الشريعة. وهذه السيرورة لا تحُثّ لا على التطبيق الآلي
للشريعة السمحاء ولا، في المُقابل، على تركِها جانِبا والخَوض في
التجديد الهدّام. فقط هو مسارٌ يهدف إلى توفير الإمدادات الدماغية
والشعورية لدى المسلم لكي يكون قادرا، بنفسه، على إصابة مَرماه
حين يُطلب منه اختيار سلوكياته ومواقفه وتحرّكاته: "بَل الإنسانُ على
14 ).بكلام آخر،هو مسار يهدف إلى : نَفسِهِ بصيرَةٌ- الآية." (القيامة 75
إرساء الركائز العلمية ، انطلاقا من علوم التربية والعلوم الدماغية
والعلوم السلوكية وغيرها لِفهمٍ أو لأفهامٍ، لتأويل أو لِتأويلاتٍ مُعاصرة
للإسلام.
فإلى حدّ اليوم لم يَكفِنا عِلمُنا (الاجتهاد التقليدي) سوى لإعادة
"اكتساب" ما نَعلَمُه بعدُ بفضل تواصُلنا مع أجداد أجدادنا منذ تمّ تعلّمهم
الفعلي للدين الحنيف مباشرة من سيّد المُعلّمين محمد صلّى الله
عليه وسلّم ، وهو الذي كان"خُلُقُه القرآن" أي استوعَب القرآن حتّى
تماهت معه خُلُقه. وهل يتمّ استيعابٌ وتماهٍ من دون "عملية"؟ وهل
يجوز اليوم، تربويّا وبيداغوجيا، أن يُرسي المسلم علاقة مع دينه غير
علاقة الاستطلاع و الاستكشاف والتمحيص والنظر وال"استقراء" ؟
ألسنا نعرِفُ ديننا كما لا يَعرِفُ دينَه أحدُ،إلاّ أنّنا نجْهل المسالك التي
تقودنا إلى إعادة ربط الأواصر معه؟ رحِم الله مالك بن نبي وهو الذي
صدق قولُه :"فكلّ مُسلم مُقتنع بدِينه من يوم أن أُُنزلت الآية الأولى في
غار حراء، ومَن يحاول أن يأتي للمسلمين بوسائل لاقتِناعِهم بدنهم
.( فإنما يُضيع وقتَه وربما يضيعُ وقت المُسلمين أنفسهم" ( 16
21
هكذا نُدرك أن لا بُدّ للمسلمين أن يكُفّوا عن تناول مسألة تطبيق
الإسلام من الخَلف وأن يعكفوا على مُجابهتها من الصّدر لأنّ الخيار
الأوّل لم يُولّد لديهم سوى الالتصاق إلى حدّ الهَوس بالنظام (الشريعة
السمحاء) فاقدين السيطرة، في الأثناء على الآليات التي من شأنها أن
تشحذَ مهاراتهم في حُسن التعامل مع هذا النظام عبر عملية اسمها
ممارسة الدين. وهنا يأتي الفرق بين الدين والتديّن. فمَعشرُ المُسلمين
يعرفون دينهم أكثرَ وأفضلَ من عِرفهم لأنفُسهم، أي أنّهم يجهلون آليات
التديّن طِبقا لِشروط العصر الراهن. لا يمتلكون جهازا معاصرا للتديّن يُبلور
لهم معنى وأبعاد مقولة "الإسلام صالح لكل زمان ومكان".والتديّن هو
فنّ العيش بإبداعٍ وابتكارٍ وَلَو تحتّم أن يقع إنجاز ذلك في ظلّ نظام
تسنّه قوانين.
وهنا تأتي الأهمية القُصوى للمُفكّر. فهو الذي من المفروض أن يجهّز
لعموم المسلمين، مُمارسين للدين و غيرِ مُمارسين، تصميما لمنهج أو
مناهج تدرّبهم على استبطان آليات الفهم المتحرّر من قيود التقليد
والحَرْفية.وتصميم المنهج ليس تأليفا لفهم معيّن أو لتأويل معيّن
للإسلام عن طريق تطوير الفقه مباشرة أو بأية طريقة ظاهرية أخرى
أدّت، في ما أدّت إليه، إلى التخبّط في اصطناع فتاوى أقرب لل
"الصندويتش" منه للإفتاء العلمي والمُنظَّم، وفي التقَوقُع داخل أشباه
منظومات لإنتاجِ فِقهٍ أقرب لِمَنتوجات المَداجن الكهربائية، أو للزراعات
بالأسمِدة الكيميائية، أولِمنتوجات البَاكُورات في البيوت المُكيَّفة منه
للقانون المُوَلّد من أرضية فكرية اكتَمَلت نمُوّها الطبيعيّ بواسطة أدوات
طبيعية. فعملية تَصميمِ المنهج من طرف مُفكرين جُدد إنّما هي شبيهَة
بِعمل الفلاّح الذي يجب أن يُهَيّئ التُّربة المزروعة فيَقلبها حتىّ تُعطي
أُكلَها بِأن تُنبت زرْعا، مِن نوع ال"بيو" إن لزِم الأمر، مَرغوبٍا فيه. وما
أحوَجَ المُسلمين إليه : فِقهًا و أحكاما شرعيةٍ مُجدَّدة؛ فَهمًا أو أفهامًا
مُعاصِرة ؛ تأويلاً أو تأويلاتٍ جديدة؛ تكون كلُّها نتيجةً لعملية تحويلية
وتَوليدية تعرِفُ انطلاقتها من داخل العقل العربي والإسلامي المتحرِّك،
مَنتوجا طبيعيٍّا لفِكرٍ مُتجَذّرٍ في بيئته وفي عَصره وفي عالَمِه وفي
.( عالميّته ( 17
22
ولن يحظى مثل ذلك التدريب بالقابلية والقَبول من طرف "مُتعلّم" الدين،
وهوَ "باث" وليس ب"مُتقَبّل"، إلاّ في حال يَتوفّر في المنهج المُصمَّم
أسلوبٌ يُرغّبه في إعادة رَبط الأواصر مع الدين بتصويره له بطريقة
مستَوحاة من الطريقة التي صوّره لنا بواسطتها الخالق البارئ : العبادة
"عملية" فيها تداول بين "الكدح" و"السَّكينة". فالكدح ورَد في قوله
تعالى "يا أيها الإنسانُ إنكَ كادحٌ إلى ربِّك كَدْحا فمُلاقيهِ" (الانشقاق 84
6). وقد جاء في تفسير للآية الكريمة أنّ "أنت يا ابن آدم جاهد ومُجدّ :
بأعمالك التي عاقِبَتها الموت، والزمان يطير وأنت في كَلّ لحظة تقطع
.( شوطا من عمرك القصير، فكأنّك سائر مُسرِعٌ إلى المَوت..." ( 18
و"الكدْح" في رأينا من أهمّ الدلالات القرآنية على "الحركة" الخلاّقة،
فهو مسيرة المؤمن وسِباقه نحو الله فاطر السماوات والأرض. والمسيرة
هي الزمانُ، و"الزمانُ إمّا أن يكون اختراعا وإمّا أن يكون لاشيءَ" كما
يقول هنري برجسن ( 19 ). أمّا "السكينة" وهي التي وردت في الآية
الكريمة "هُو الذي أنزَل السَّكينةَ في قُلوب المؤمنينَ ليَزدادُوا إيمانا معَ
4) ،فهي الجزاء الدُّنيوي الذي يحصل عليه : إيمانِهم - الآية" (الفتح 48
كل مُؤمن "كادح" قبل نَيله الجزاء الأخروي؛ هذا المؤمن الذي، بالرغم
من توفّر الإيمان لديه، إلاّ انّه بفضل"السكينة" تتولّدُ لديه "زيادة" في
الإيمان.
يتعلّق الأمر إجمالا بالإبحار، لا فقط في ما ظَهر من الإسلام (الشعائر
والأحكام الشرعية) وإنّما أيضا في أعماق "المُعاملات" و"الأخلاق".
يتعلّق الأمر بانتهاج المُسلم الممارس و المسلم غير الممارس على
حدّ سواء لمُقاربة مماثلة تقريبا لمُقاربة الطالب/المُتكلِّم مع اللّغة،
مُولِيان الأهمية القُصوى للخَلق والابتكار والإبداع، باستقراء قواعد
التطبيق الصحيح للغة/الدين من داخل النظام الأشمَل: نظام ممارسة
التكلّم/ممارسة الدين. فهذا التمشّي من شأنه أن يفتح أمام المسلم
فُرصَ الإبحار في مساحات النّص، قرآنا وحديثا، وهي مساحات بالرغم
من سَعة قابليتها للإبداع والتدبّر، تخضع عن طواعية إلى أضواء كاشفة
تُسَلّطها عليها، بمنتهى الدقّة والرقابة، مَنارة الشريعة السمحاء.
23
كما يتعلّق إجمالا بإتباع منهجية في التعامل مع النص القرآني والسنة
الشريفة يشتَمل على مواصفات "الفوضى البنّاءة" مثلما قَدّمناها أنفا،
وبأن تتمَخّضَ عملية التعامل تلك على نظامٍ مُتَحرّر وتحرُّريّ. وذلك لن
يُنجَز إلاّ باستخراج ما يلزِمُ من عناصرَ، من القرآن الكريم ومن الحديث
الشريف، ثم ضمّها في قالبٍ أو نسق أو نظام أو كيان أو بنيانٍ أو هيكل
يقوم مقام وعاءٍ لفكرة أو لثقافة أو لإستراتيجية أو لِدرْسٍ أو لبرنامج.
ومن مزايا القالب والفكرة التي يحتوي عليها أن تساعد المسلم
"المُتعلّم" على تفعيل كفاءاته الكامنة بِهَدَف فَهْم الإسلام من خلال
التجربة الوجودية مع "نظيره في الخلق" ومع "أخيه في الدين" (كما
قال عليّ كرّم الله وجهَه في تعريفه للإنسان)، وكذلك من خلال التجربة
الميدانية في الطبيعة وفي البيئة. حينئذ يُمكن القول إنّ الغاية النهائية
من توظيف الوعاء بواسطة ملئِه بالخيرات، وتباعًا الغاية النهائية من
توظيف تلك الخيرات، أن يتَمَكَّن "المتعلّم" من التحرّر المُنَظَّم. ونعني
بذلك التفاعلَ الآني مع الواقع، من منظور القرآن والسّنّة، بالتّأكيد، ولكن
بآليات الجدَل والشك المُوصلة إلى اليقين والاستقراء والاستشراف
وبغيرها من مهارات التدبّر المتعددة التي من شأنها أن تُساعد
المسلمين على الارتقاء بأحوالهم من ظُلمة الإتّباع والتبعيّة إلى نُور
الإبداع و الاكتفاء؛ كلّ ذلك بواسطة منهجية مُستخرَجة من أعظم نظام
عرفته الإنسانية: نظام الإسلام؛ ومُطبَّقة على أضخم مسرحٍ عرَفتْه
الإنسانية: مسرح الحياة.
أخيرا وليس آخرا، يُمكن تصوّر الاستعمالات المستقبلية للنسق/الوعاء
كما يلي:
1.استنساخ الأنموذج المستخرج من القرآن في التربية العامة والدينية
واستقراء أنظمة ومقاربات مولّدة منه تُعنى بتطوير استيعاب اللغات
عوما واللغة العربية خصوصا، لا سيما أنّ من النتائج الطبيعية لهذا
التمشّي تأصيل اللغة في الثقافة من أساسها، طالما أنّ المدلول
(الديني بالخصوص والثقافي بصفة أعمّ) سيتحرّر من العراقيل
السُّوسيوألسُنية و السَّيكوألسُنيية التي كانت تعرِضُه حصريّا في وضع
صراع متواصل مع "الدّال"، حارمة "الكلمة" و"الكلام" من إثراء "اللغة"
من الارتقاء إلى مستوى الحداثة، أو لنقُل إلى مستوى العَصر.
24
2. استنساخ الأنموذج في الثقافة وفي الفكر لتوليد مقاربات ومنهجيات
وتصاميم ونظريات في الفلسفة ثمّ في السياسة وفي استراتيجيات
.( التقدّم ( 20
3. حفز العلماء والباحثين من الاختصاصات العلمية المختلفة والمتعددة،
الصحيحة منها والطبيعية والاجتماعية والإنسانية، النظرية منها
والتجريبية الميدانية، على الانكباب على إنجاز عملية التوليد والتحويل
الأولي ، أي تدبّر القرآن الكريم من منظور اختصاصهم ثمّ استخراج قالب
أو نسق أو نظام أو كيان أو بنيان أو هيكل ليكون، بحُكم حُسن تصميمه،
أنموذجا من القرآن، يمكن سَحبُه في مرحلة التوليد والتحويل الثانية
على مجال من مجالات اهتمامهم ذي طبيعة ملائمة للأنموذج المتولّد.
هكذا رُبّما يكون المفكّر العربي و المسلم قد أَعلن طلاقهُ من دون رِجعة
من مُحاولاته اليائسة لتِكرار مسيرة أثبت العلمُ الحديث، على عكس
ما كان مُتعارفا، استحالة تكرارها( 21 ): مسيرة الزمن، ما حتّم عليه
رُبّما، أن يُحاول من هنا فصاعِدٍا تَكرير الشريعة السمحاء مثلما يُكرّر
المُهندس الذهب الأسود ...
المراجع :
2009 في مقال " العلماء يقولون إنّ -7- 1) ذُكر في النسخة الالكترونية ل" كشمير أوبزارفر" بتاريخ 20 )
باب الاجتهاد غير مغلق" (ترجمة م.ح) :
http://www.kashmirobserver.net/index.php?id=2316:scholars-say-door-of-ijtihad-notclosed&
option=com_content&catid=2:local-news&Itemid=3
2) يقول الشيخ عطية صقر إنّ الحديث المذكور أثر عن الحسن البصري. على موقع "كلملت" )
http://www.kl28.com/fat1r.php?search=3727
3) العبارة لأبي يعرب المرزوقي أستاذ الفلسفة في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا. )
4) نسبة لمكتشفه نعوم تشُمسكي عالم الألسنيات. )
5) وهذا هو ما أنجزناه إلى حدّ بعيد ونشرناه في مقالات متفرّقة، باللغتين العربية (المعذرة إن كان )
معظمها محررا بلغة عربية وسطى بين الفصحى والعامية) والانكليزية. توجد المقالات العربية
(والوسطى) ضمن سلسة مرقّمة تحت عنوان "الإسلام يتكلّم" نشرت على :
http://mohamed-hammar.maktoobblog.com
أمّا المقالات بالانكليزية فمنشورة على
25
http://islaminfrajtihad.canalblog.com
أو على:
http://www.articlesbase.com
2004 على: -8- 6) لمزيد التفاصيل: مقال "من يخاف من نعوم تشومسكي؟" لريتشرد وال بتاريخ 17 )
http://www.chomsky.info/onchomsky/20040817.htm
. 7) المرجع رقم 5 )
8) في العلم:بدأ بإثبات ذلك رائد السوسيوبيولوجيا، الأمريكي أدوارد أوزبورن ويلسن في كتابه )
"الطبيعة الإنسانية"، 1979 (وتُرجم إلى الفرنسية في سنة،منشورات ستوك، 1986 ).في الدين: سبق
أن بيّنّا ذلك من خلال آيات الفطرة في القرآن الكريم وكذلك حديث المولود للرسول صلى الله عليه وسلّم
(في مقالات سابقة على مدوّنتَينا)
9) "مختصر تفسير ابن كثير" لمحمد علي الصابوني، المجلّد الثالث، ص 268 ، دار القرآن الكريم، بيروت )
.1981
10 ) تغليظ الكلمات من اختيار كاتب هذا المقال. )
11 ) * يقول د.حسن حنفي:" النظام الإسلامي نظام مدني خالص، والدولة الإسلامية دولة علمانية" )
وذلك في مقال "الإسلام العلماني":
http://mm10002.maktoobblog.com/500771/
-8- *صدر مقال هام في الموضوع: " لماذا العلمانية هامة للإسلام" بواسطة فيصل غازي،نُشر بتاريخ 8
:2009
« Why Secularism is Key to Islam" by Faisal Gazi
http://www.averroespress.com/AverroesPress/Main/Entries/2009/8/8_Why_Secularism_is_Key_to_Isla
m.html
12 ) صدر عن الكاتب السوري غريغوار منصور مرشو كتابا قيّما في هذا الموضوع بعنوان "الفصام في الفكر العربي )
المعاصر":
www.fikr.com
13 ) لمزيد الإطلاع على رأينا بإزاء هذه الإشكالية: كتاب "الاجتهاد الثالث (الاندماجي): رحلة المسلم )
المريض من الإسلام إلى الإسلام"، محمد الحمّار،(جزء "الإسلام والديمقراطية، نظرة الحاكم إلى
: المحكوم هي القضية") ص 94
www.aracicebook.com
. 14 ) المرجع رقم 6 )
15 ) يؤكد تشمسكي أنّ "النحو" واحد مهما تعددت اللغات ويُسمّيه "النَّحو الكَوني" (بالانكليزية )
"يونِفرْسل جْرامرْ")
. 16 ) في "دور المسلم ورسالته"، دار الفكر، دمشق، 1989 ، ص 51 )
17 ) للمزيد من الإطّلاع على موقفنا من علاقة الفكر بالفقه : المصدر رقم 13 ( جزء"الفكر قبل الفقه )
وتحيين الوجود أَولى من تعصير الموجود") ص 81 على :
26
www.aracicebook.com
18 ) "صفوة التفاسير" لمحمد علي الصابوني، المجلد الثالث، ص 537 ، طبعة 4، دار القرآن الكريم، )
. بيروت 1981
19 ) روَتْهُ آتيان كلاين في مقال "زمن الفيزياء" بخصوص الجُملة التي أثرت كثيرا في إيليا بريغوجين : )
http://nicol.club.fr/ciret/bulletin/b12/b12c5.htm
20 ) وقَد بادرْنا على بركة الله بالقيام بالتجربة لمّا أنجزنا كتابا في نسخة الكترونية في هذا السياق: )
المرجع رقم 13 .وقد أردناه أن يكون استنساخا للفكرة الألسنية/الدينية التي نحن بصدد تصريفها،
استنساخا في المجال الأنثروبولوجي والفينومينولوجي. وقد نُشرالكتاب بواسطة :
www.arabicebook.com
21 ) يقول إيليا بريقوجين استنادا إلى اكتشافات فيزياء الديناميكا الحرارية: "لا يقدر المرء على قَلب نموّ )
الكَون" إذ الزمن عند الفيزيائيين الجدد وعنده صار يُعرف بأنّه "لاعكسي" ( أي "إريفرسيبل"
بالانكليزبة).قال ذلك في حديث نشر في شهر مايو سنة 1983 تحت عنوان "بيغوجين، "ساحر الزمن"
أجراه معه روبرت ب.توكر:
http://www.omni.generalmedia.com
*******
27
"التناظر والتطابق" بين اللغة والإسلام
في هذا الزمن الذي يتسابق فيه الوعاظ والأئمة وأهل الفتوى لكي
يحظوا بجمهور من التابعين يعادل حظوتهم بالمعرفة الدينية، ألاحظ أنّ
سيد المواقف في مجال الدعوة والإرشاد والخطاب الديني يبقى
للأسف التكرار والمعاودة والإعادة وسائر أشكال الرتابة.
والرتابة التي ابتُلي بها "الإيقاظ الديني" إن صحّ التعبير مُفسدٌ لا فقط
للصحة الدينية للفرد والمجموعة والمجتمع، ممّا أدى إلى بروز ظواهر
مثل التحجر الفكري والعنف بشتى أنواعه والإرهاب، بل مُفسدٌ حتّى
لِلغة التي في حوزة المسلمين عموما، وللغة العربية على وجه
الخصوص، ناهيك أنّ المشكلة اللغوية مازالت قائمة بذاتها في المجتمع
العربي الإسلامي بأكمله.
إنّ تزامن المشكلين الاثنتين، التديّنية و اللغوية، قد تكون في نظر
الباحث "الضارة" التي ستصبح "نافعة". حيث أنّ المنهاج الذي أقترحه
كمنقذٍ من الرتابة في مستوى علاقة المسلمين بالإسلام يتخندق
في هذا المنظور بالذات: منظور "داوِها بالتي هي (أيضا) الداء".
إنّ سابقيه اللغة على الدين، بحكم ارتباطها بأوّل الخلق مثلما جاء في
قوله تعالى ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ
أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء﴾ [ البقرة : 31 ] تبوّء اللغة مكانة المنقذ من
الفساد في العقيدة وما يفرزه هذا الفساد من انحطاط في جودة
التديّن، فضلا عن دور اللغة كأداة وكفكر أيضا.
فاللغة كما هو معروف أداةٌ للتواصل، ووعاءٌ للفكر، ومُوجّهٌ للفكر ( 1)، إلاّ
أني أفترض أيضا، ولأنها تتمتع بكل تلك الخصال، أنّ اللغة منهاج لتحقيق
التديّن الصحيح، لِمن هو متديّنٌ بَعدُ. وتتنزل هذه الفرضية في سياق
مشروع النهوض العربي الإسلامي الشامل والقاضي بزرع بذور فكر
ينبت فينشأ ثم يكبر، ويمحو في مسار نموه وترعرعه كل فكر بالٍ
وباهت وخامل وهدّام.
ومن المنظور الأكاديمي يمكن القول إنّ فرضيتي تحظى بما يكفي من
الدعم لكي تتمّ متابعتها. وها هو العلم المعاصر يمهد الأرضية للخيار
28
اللغوي الديني الذي أفترض إمكانية تجسيده كمنهاج لمعالجة مشكلات
شتى. إذ يؤكد الباحث الأسترالي بيتر سليك، بالإضافة إلى أنّ المرء
مجبول على الكلام (النظريات الفطرية الولادية)، على أنّ البعد الفطري
للتديّن يتناظر مع البعد الفطري للغة، حيث يقول: "منذ عمل نعوم
تشمسكي في أواخر الستينات (من القرن الماضي) يعترف علماء
الألسنيات بصفة عامة أنّ للدماغ بنى فطرية تساعد على اكتساب
اللغة. كما أنّ عملا أنجِز مؤخرا من طرف علماء النفس التطوريين يدل
على أنّ اللغة ليست وحدها التي يتمّ تيسيرها بفضل بنى دماغية
فطرية. يبدو فعلا أنّ هذه البنى مسئولة على كل إدراك عقلي بما في
ذلك التذاكر الديني(...). هنالك مفاهيم تتناولها عقولنا بسهولة.
وبتشابهٍ كبير مع الاكتساب اللغوي، يقبل العقل آليا مفاهيم معينة دون
.( أخرى بأكثر تلقائية"( 2
وبالإضافة إلى تحليل سليك فإنّ مؤسس علم السوسيوبيولوجيا، ادوارد
أوزبرن ولسن، المرجعية العالمية في هذا المجال منذ الخمسينات من
القرن الماضي، قد دفع بحوثه إلى ما وراء الداروينية الكلاسيكية إذ "في
تحليل ويلسن، لا يتعلق الأمر بمعرفة ما إذا كانت الديانات حقيقية أم
خاطئة. إنها على الإطلاق ضرورية لمواصلة الحياة وإن التوق الديني
مُبرمَج في الجينات. كما أنّ الجينات هي المكان الذي يجب العثور فيه
على منابع الخير والشر: وهما مفهومان مبرمجان يوجهان غرائزنا نحو
.( التناسل عوضا عن الاضمحلال" ( 3
كما أنّ المنظور القرآني لا ينقص العلم في شيء ولا ينتقصه أيضا. بل
قُل إنّ للإسلام السبق بخصوص الوجهين الاثنين للفرضية: أولا، الله
تعالى يقدم إلينا اللغة و الكلام كصفة ولادية، إذ جاء في محكم تنزيله،
فضلا عن الآية المذكورة أعلاه : ﴿الرّحْمَنُ عَلَّمَ الُقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [ الرحمن : 1 4] . ثانيا، والله تعالى يبين لنا أنّ التديّن
ولاديّ هو الآخر، إذ يقول عز وعلا: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
[ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [ الروم : 30
ومن أجل تبيين الحيثيات المتعلقة بافتراض أن يكون الخلاص بواسطة
تناظر اللغة والدين، لا بدّ من تكريس مبدأين اثنين، واحد سائد ومتعارف
29
وآخر محدث، مع أمل أن ينبثق مِن فعل التلاقح بينهما انقداح شرارة
الانتقال من طور الجمود إلى طور الحركة لدى العقل الفردي
.( والمجتمعي عند المسلمين ( 4
بخصوص المبدأ المتداول فهو لا شيء غير أنّ "الكلام فعل". أما المبدأ
المحدث و"المجهول" فيتمثل في كون "الكلام إسلام". يبقى تقديم
وتوضيح الرابط بين المبدأين الاثنين.
لمّا أزعم أنّ "الكلام إسلام" فإني لا محالة عائد إلى المسَلّمة
الألسنية (المتعارفة) المنتهية إلى إقرار أنّ "الكلام فعل"، لكن مع
تأجيل تناول ذلك الجانب المعلوم، إلى حين، ريثما تتمّ مواجهة الجانب
المستحدث و المجهول.
وخلافا لِما يتبادر للذهن، فالمجهول مبنيّ على المعلوم في الدين.
أعني الفعل والعمل في الإسلام. إنّ الفعل في الإسلام عمل: (وَقُل
اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُم ورَسُولُهُ والمُؤْمِنُونْ) [ التوبة: 105 ]. كما أنّ
العمل تدعيم للإيمان كما جاء في الأثر: "ليس الإيمان بالتمني بل ما
وقّر في القلب وصدّقه العمل" (الإمام الحسن البصري). والعمل في
الإسلام ليس فقط إنجازا رمزيا أو ماديا من شأنه أن يحسّن أحوال
الناس بتحويل واقعهم من سيئ إلى جيّد ومن حسن إلى أحسن، إنما
هو بالخصوص منهج في الحياة، مثلما جاء في الأثر المشهور:"اعمل
لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا". والخلاصة إلى
حد الآن أنّ الإسلام فعل.
الكلام فعل من جهة، والإسلام فعل من الجهة الأخرى. يبقى أن نتوصل
إذن إلى تبيين أنّ الكلام إسلام بعد أن تبيّن أنّ كلاهما فعل. أمّا
الطريقة الملائمة للتبيين فتتمثل في وصل فعل الكلام بفعل الإسلام؛
في سياق الواقع المعيش طبعا. ومَن يا تُرى سيكون قادرا على إنجاز
الوصل غير المتكلّم المسلم ؟ وما هي الوسيلة التي في حوزته والتي
تنطوي على عاملَي الكلام والإسلام غير اللغة؟
إنّ اللغة من المنظور المحدث ستسمح للمتكلم المسلم بالتعبير عن
ذاته اللغوية وعن ذاته الدينية في الآن نفسه (والغرض منه استعادة
صفة التكامل الوظيفي للغة)، وذلك في بُعد سانكروني (متحد في
30
الزمان والمكان)، وكذلك بالتصرف في الواقع حسب إرادة المتكلم
الذاتية. ومن هنا ينبثق الفعل الهادف والعمل الصالح.
ثمّ إنّه حتى لو عزلنا المتكلّم جدلا عن صفة التدين بالإسلام، سنتعرف
عليه كإنسان ذي مهارات لغوية عديدة تحتكم إلى قواعد في اللغة
وفي التواصل، وتتبع مراحل معلومة أثناء تشغيلها من طرف المتكلم.
وهذا الإنسان المستعمل للغة سيُعرّف نفسه على واجهتين اثنتين
متلازمتين: واجهة الكلام وواجهة الفعل، ممّا يعني أنه لا يمكن أن يعرّف
نفسه متوخيا الفصل بين الواجهتين. ومن هنا نفهم أولا كيف أنّ كل
مستعمل للغة يسعى إلى تقديم نفسه على أنه مختلف عن سائر
الناطقين بنفس اللغة، وذلك بواسطة توليد كلام يتميز عن كلام الناطق
الآخر (وهذا معروف في الألسنيات منذ فردينند دي سوسير؛ الفرق بين
اللغة والكلام). ثم نفهم بالتوازي مع ذلك أنه لا يمكن أن يكون فعل
الناطق فلان غير متميز عن فعل الناطق علان.
والجدير بالملاحظة أنّ الاختلاف والتميّز شيء والتوحد والتطابق شيء
ثانٍ. لكنّ البحث في سبل تكميل كلاهما الآخر مِن أخطر المسائل، لا
في مجال اللغة فحسب ولا في مجال التديّن فحسب، بل في الحياة
الاجتماعية بكافة أوجُهها. فالسعي إلى إيجاد طريقة يكون بواسطتها
العاملان الاثنان متكاملين يعود إلى سبب رئيس: أولا، إنّ الاختلاف لازم
لإرساء التعددية والديمقراطية وغيرهما من النماذج الفكرية والسلوكية
الراقية. ثانيا، إنّ التوحد بدوره ضروري لإضفاء بُعدٍ اجتماعي ووطني
وقومي وثقافي نسبي على التربية السياسية للمواطن.
ولكي لا تكون الطريقة مغلوبة بالمنهج التحليلي الديني الصرف، ولا
بالمنهج التحليلي العلماني الصرف، تبقى المقاربة اللغوية هي الأقوى
لأنها الوحيدة التي ستكفل حق المفكر الإسلامي وحق المفكر
العلماني، على حدّ سواء، التوحّد. وليس التوحد الذي أقصده ذاك
التجسيد للتماثل في المضمون الفكري ولا هو تلك التماثلية بمختلف
أصنافها الرديئة. إنما أقصد التوحّد حول منهاج للتديّن و للتفكير وللتكلم
وللفعل.
31
ولهذا لغرض أفترض أنّ مهما كانت الخلفية الإيمانية للناطق بلغةٍ ما،
فإنّ التوحد لغة/فعل حاصل لا محالة. ولنبحث عن البرهان على ذلك
في وضعية المستعمل لثنائي اللغة والحركة، الذي نزعنا عنه صفة
التديّن (كما شرحتُ أعلاه). سنلاحظ عندئذ أنّ هذا المتكلم المتميز،
والذي هو في الوقت ذاته فاعل يتميز عن غيره بمقتضى اختلاف
"كلامه" (وهو معطى ثابت في علم الألسنيات)، وبصرف النظر عن
تشابه فكرته الإيمانية التي تحفزه على الفعل مع فكرة غيره، أو عن
اختلافها عن فكرة غيره، إنما هو دوما موجود في وضع الإنسان
الساعي سعيا دءوبا إلى تقريب كلامه من فعله.
والسعي إلى تقريب الكلام من الفعل يظهر في مشهدين اثنين. أولا،
ترى كل مستعمل للغة يتجنب أن يصاب بعيوب من الصنف الذي تتحكم
به العلاقة الأزلية بين الكلام والأخلاق (عموما) مثل النفاق والكذب
والخيانة وعدم الإيفاء بالوعد والوفاء بالعهد. وحتى إن كان هذا المرء من
الصنف الذي يوظف عن قصد تلكم الأعمال المكروهة في حياته اليومية
من نفاق وكذب ومراوغات كلامية وغيرها من الأساليب المعوجّة، فإنّ
حرصه على أن يكون كذلك دليل على أنّ التقريب (أو السعي إلى
التقريب) بين كل ما هو كلام وكل ما هو فعل إنما هو قانون يشترك فيه
كل من اللغة والحركة. هكذا يمكن تصنيف المتكلم/الفاعل إلى نوعين:
واحد ممتثل للقانون (وهو الشخص الذي نسميه "الطيب") وآخر
مخترق له (وهو الذي نسميه "الخبيث").
يمكن أن نستنتج ممّا تقدم أنّ قانون التقريب بين الكلام والفعل، بدافع
التوحد والوحدة، سواء حصل التقريب بواسطة الامتثال إلى القانون أو
بواسطة اختراقه والعبث به، فإنه في وضع يسمح له بالتحكم في
الصورة المتكاملة التي يزودها كلّ المتكلمين الفاعلين بعضهم البعض،
إن فرادى أم في داخل المجتمع. وهكذا يكون الحكم الذي يصدره المرء
على الآخر أو المجتمع على الفرد بأنه صادق أو كاذب، صريح أو منافق،
منفعل أو رصين، مُوالٍ أو خائن، مراوغ أو مباشر، إنما هو حكم مؤسَّسٌ
على وحدة الكلام والفعل. وكان الكلام فعلا.
إنّ ممارسة الامتثال أو الخرق، من طرف الناطق باللغة/المواطن الفاعل
في المجتمع، إزاء قانون التقريب بدافع التوحد، مُهمة من الناحية
32
الأخلاقية لأنها تسمح بربط الأواصر بين الأداء اللغوي والأداء الحركي
والسلوكي باتجاه التعديل والتصحيح والتحسين. والأهم أن نقرّ لا فقط
بأنّ القانون (قانون التقريب بين اللغة والفعل) موجود، بل بأنّ ما يدعّم
وجوده وفعاليته إنما هو وجود الطيبة والخبث، والخير والشر، والإيمان
والكفر.
بكلام آخر يتسنى الإقرار بأنّ بإمكان المرء تشخيص"طيبة" الواحد
و"خبث" الآخر بواسطة المعيار اللغوي والسلوكي المندمج. و لو طبقنا
الآن المبدأ والقانون والمسار كله الذي آل إلى هذا المنوال التشخيصي
، على وضعية المسلم في المجتمع المسلم، دون تجريده من العامل
الديني كما فعلنا أنفا، سنلاحظ أنّ جاهزية الإسلام لأن يكون بالحق
مكرَّسا في الواقع كدين عملٍ تتقاطع مع ثبوت أنّ الكلام فعلٌ. والنتيجة
أن يكون الكلام إسلاما أيضا، فضلا عن كونه فعلا. وكان الإسلام كلاما.
إنّ هذه المقاربة اللغوية الدينية المزدوجة تتنزل أيضا، وبصفة طبيعية،
في تفسير ما لم يقع تفسيره دينيا إلى يوم الناس هذا، وأعني الواقع
المعاصر بكل حيثياته وتشعيباته. قد توفر هذه المقاربة عن المسلمين
عامة والمؤمنين خاصة عناء إرهاق أذهانهم وكذلك أذهان الأئمة
والوعاظ والمفسرين والفقهاء في محاولة من أولئك وهؤلاء (عادة ما
تكون فاشلة ومخيبة للآمال) لتشخيص سلوكهم أو سلوك شخصٍ ما
على الطريقة الدينية المباشرة.
هكذا سيكون علماء الدين وخبراؤه في مأمن من الضغوط المسلطة
عليهم من طرف مجتمع لا يفرّق بين مهمة الدين ومهمة اللغة، ولا بين
مهمة المجتهد في الدين ومهمّة المجتهد في العلم، إلى درجة أن صار
مجتمعا لا يؤمن بالتكامل الطبيعي و المأمول بين عمل مجتهد الدين
وعمل مجتهد العلم، وبين الدين وعلم مثل علم اللغة.
لكن الحذر واجب في توخي مثل هذه المقاربة. ما من شك في أنّ
الدين دين واللغة لغة. لكنّ التناظر بينهما، والذي تسمح به مبادئ
الدين وكذلك مبادئ العلم، إنما هو تناظر سانح للتطابق (بين الكلام
والفعل، مثلما رأينا). والتطابق مربط الفرس في لزوم الحذر.
33
لتحاشي الوقوع في الخلط، الجدير بالملاحظة أنّ التناظر يتحول لا
محالة إلى تطابق فقط كلما اقتضت حاجة التوحد التي يمليها قانون
وحدة الحياة. لذلك فالتطابق حاصل بين الكلام والفعل، لا بين اللغة
والدين مباشرة على أرض الواقع. وبالتالي لا أعتقد أنّ هنالك داعيا
للخشية من مغبة أن يؤول التطابق إلى خلط أو مزج بين الأنماط
والأنساق اللغوية من جهة والأنماط والأنساق الدينية من جهة أخرى.
لماذا، لأنّ بمجرد حصول التوحد والتطابق حصريا بين الكلام والفعل
(بموجب قانون وحدة الحياة)، تبقى أية محاولة رامية إلى تحقيق
التطابق المباشر بين الدين واللغة (وقد جرّبتُ ذلك) مجرّد تمرين عقلي
لا تزيد منفعته العملية والميدانية عن المنفعة التي تحصل من تمرين
في الحساب يهدف إلى حلّ مسألة مجردة.
ومن أجل الخروج بمفهوم الاجتهاد من حيز الإشكال والإجمال والإبهام
إلى حيز البيان والإجراء العملي، أتساءل ما الذي عساه يمنع التعاليم
القرآنية السمحاء والتوصيات الإلهية والقيم الإسلامية النيرة من أن
تلقى طريقها إلى واقع فكري وسياسي واجتماعي واقتصادي يغلب
عليه الجمود، و ينتظر الريّ والإغاثة، طالما أن وسيلة الري والإغاثة
الأولى متوفرة: كلام المؤمن إسلام.
المراجع:
1) وقد بيّن هذا الدور بتميّز د. سالم موسى في مقالة بعنوان "اللغة وأثرها في توجيه وتقييد الفكر )
.2010-12- البشري" ، نشرت على موقع ميدل ايست اونلاين بتاريخ 8
2) بيتر سليك، مدير البحوث بقسم الفيزيولوجيا بجامعة غرب أستراليا و"ديكون" بكنيسة القديس )
2002-8 - أندرى الانكليكانية، في مقالة بعنوان "المادية والدين" (باللغة الانكليزية)، نشرت بتاريخ 15
على موقع:
http://www.onlineopinion.com.au/view.asp?article=492
3) حاوره وذكره وعلق عليه قي صورمون في كتابه "المفكرون الحقيقيون لهذا العصر" (بالفرنسية)، ص )
.88
Guy Sorman in « Les Vrais Penseurs de Notre Temps », ed. France Loisirs, 1990, p.88
4) نُشرت لي أول محاولة أكاديمية في هذا الصدد (وهي مقدمة لهذا البحث ومكملة له): "الألسنيات )
،2009 -11- لإحياء الكفاءة في فهم الإسلام والحياة"، على موقع "الملتقى الفكري للإبداع" بتاريخ 10
. وفي مجلة "المستقبل العربي"، العدد 373 ، مارس/آذار 2010 ، ص 93
34
http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/mustaqbal_373_93-
107%20mhamad%20hammar.pdf
*******
35
-2-
أثر المبدأ العلمي في مجال التشريع والاجتهاد
36
الشريعة فضاء للإبداع، لا ذريعة للتهوّر والانصياع
توصّلنا في مقالات ودراسات سابقة إلى إثبات أنّ الشريعة الإسلامية
السمحاء تشتغل في حياة المسلم المتدين مثلما يشتغل النحو في
اللغة عموما. ومن فوائد هذا الطرح أن يتعلّم المرء كيف يُبدع ويستنبط
الطرق والوسائل لتسهيل حياته من داخل نظام للقوانين.وهل أفضل
من الشريعة نظاما عاما وشموليا للقوانين؟ فليست الضوابط والأحكام
والأوامر، لا في النحو ولا في الشريعة،موانع للإبداع.بل بالعكس، هي
حوافز له.
لكن يقول قائل، إذن لماذا لا نطبّق الشريعة وانتهى الأمر؟ طبعا هذا
مطلب جائز في ظاهره إلاّ أنه غامض في باطنه. ويكمن الغموض في
ما يلي: إنّ إنسان القرن الحادي والعشرين يؤمن بأنّ التطوّر صار يسلك
اتجاها من الأسفل(الواقع الميداني) إلى الأعلى (السلطة والقانون).
وأناس هذا القرن، بما فيهم دعاة الإسلام السياسي، يؤمنون أنّ
الديمقراطية وسيلة عصرية ناجعة للحكم. ولكني أشك في كون رموز
الإسلام السياسي يسيطرون على آليات التصرّف، تفكيرا وممارسة،
من الأسفل إلى الأعلى. وهي آليات من دونها لا تتحقق لا الديمقراطية
ولا أية وسيلة أخرى مناهضة للاستعباد والكليانية. ثم إنّ إنسان هذا
العصر غلبت عليه نزعة التحرّر الفردي وما يتلاءم معها من نزعة
برغماتية في العلم والعمل (وهي نفس نزعة السلوك من الأسفل إلى
الأعلى). ولو أنّ هذا المنهج أوروبي المنشأ و أمريكي الرواج والنجاح، ما
قد لا يحلو لكثير من الأطراف بداعي أنّها ليست من الإسلام، إلاّ أنّ
المسلم المعاصر مطالب بالاقتداء بها لمجرّد كونه ابن عصره، ولأنّ
الإسلام دين صالح لكل العصور.
و إن كان الإنسان المعاصر عموما والمسلم خصوصا ملزم بالعمل طبق
تلك الشاكلة ليبرالية المنحى في التفكير وفي السلوك، فلماذا لا
يبرهن كل من لَهُم مشكلة مَوصوفة بعدم انسجام واقعهم مع دينهم،
والمسلمون في رأس القائمة، على أنهم حقا قادرون على الإبداع من
داخل نظام القوانين الجاري به العمل في مجتمعاتهم؟ لماذا لا يبرهنون
37
على ذلك أوّلا ثمّ يثبتوا قدرتهم على التعامل بالمثل، بمثل ذلك الإبداع،
مع نظام الشريعة السمحاء؟
هيهات،الذي ينظر في الواقع اليومي الميداني للمسلمين، سيلاحظ
عدم احترامهم للقوانين الوضعية المعمول بها في المرور وفي الإدارة
وفي المدرسة وفي الجامعة وفي المقهى وفي الملعب وفي قاعة
السينما وفي غيرها من المساحات العمومية. ومثل هذا الاستهتار
بحق الآخر في حياة كريمة، جرّاء رفض "المواطن" المذنب التماهي مع
الضوابط التي من شأنها أن تضمن الحق له وللآخر، خيانة في حق
الآخر. وأليست الخيانة ضربا من ضروب الإثم التي يعاقِب عليها القانون
الإلهي كما يعاقب عليها القانون الوضعي؟
هكذا يبدو أنّ مبطلات الخلق و الإبداع والابتكار والتوليد والتحويل لدى
عموم المسلمين، ليس غياب الشريعة كنظام مطبّق ساري المفعول،
بل الإيمان أنّ حياتهم باطلة دون شريعة. وهذا خطأ بدائي لا يليق
بمواطن هذا الزمان. بل هو نكران لِصفة الحياة على من هو بصدد
العيش. وأترك للفقهاء حكم الإسلام في هذا النكران. في المقابل الذي
يهمني أنّ إبطال صفة الحياة على الحياة قد أدّى ب"المواطن" المسلم
إلى بذل كل ما في وسعه للتستّر بمطلبه الذي لم يتحقّق. ولو تربّى
على البذل والعطاء، ولِمَ لا، " لو تعلّقت همّة المرء بما وراء العرش
لناله، كما جاء في الأثر الديني المشهور، بالصبر والتريّث وإتباع
المسالك العقلانية. لكن ليست له القابلية لتحمّل المَشقة الفكرية
والمعنوية لإضفاء معنىً خصوصيّا على حياته، فما بالك بنيل ما وراء
العرش؟
وكأني بالمسلمين لم يتدرّبوا على المواطنة، فقد اتخذوا غياب الشريعة
ذريعة للعمل لدنياهم كأنهم يموتون غدا، مُقلّبين بذلك الحكم
الإسلامية رأسا على عقب. وباسم غياب الشريعة عَمَد العامة
والخاصة إلى تكديس الثروات "من حلالك ومن حرامك" وإلى اضطهاد
المرأة وإلى قمع الرأي المخالف، وإلى الاستقالة إزاء الشباب بدعوى
التحرر والليبرالية، وإلى التهوّر في الطريق العام وعلى الطرقات وإلى
العديد من التجاوزات الأخرى المنافية للوضع كما للشرع. باسم غياب
الشريعة تمّ تغيير وجهة الإسلام من مسلكه الطبيعي، المناهض
38
للعنصرية وللاستغلال وللاضطهاد، إلى مسلك متطرّف يزكّي التبعية
والإقطاع. وبعد أن كانت اليمين في الإسلام خيرا (الميمنة؛ أهل
اليمين)، أُريد بها أن تكون شرّا، على اليمين في حلبة السياسة.
وللأسف،لا يخجل "المواطنون" المسلمون، وهم العاملون على مثل
هذه الشاكلة الضالة حقّا و بكُل التقويمات، أن يصنّفوا أسباب تخلّفهم
في خانة الاضطهاد من طرف أولي الأمر منهم، بدعوى أنّ هؤلاء من
العلمانيين ومن المارقين ومن الضالين. في حين أنّ المواطن الحقّ،
يقول رالف والدو أمرسن، هو الذي يصنع الحاكم وليس العكس، ببنائه
للأفكار وليس ببنائه للديار. فضلالة المسلمين اليوم هي تفريطهم في
ملكة التفكير، ما يفسّر تمرّدهم على القوانين. وهو إذَن تمرّد انصياع
وحيرة وليس تمرّد تحرّر. إذ أنّ عدوهم اللدود، في واقع الأمر، ليس من
يحكمهم بل المبطلات الذاتية للتحرر التي نحن بصددها.
كما أنّ اعتبار"المواطنين" المسلمين للقوانين الوضعية، بتك الطريقة،
منافية للإبداع، يُعدّ ليس فقط دحضا لمفهوم المواطنة، بل أيضا صفارة
إنذار مُدوّية حيال فرضية تطبيق الشريعة من لدنهم . فكيف سأثق بمن
هو كذلك إزاء القانون الوضعي فأعتبره جادّا لمّا يطالب بتطبيق القانون
الإلهي؟ الأمر يستوجب كثيرا من التدبّر وكثيرا من الإبداع في التفكير
من جهة من يحبّ الله ويتمنى لو تمّ تطبيق الإسلام. وهذه الميزات
ليست متوفرة لدى الإسلام السياسي. أمّا سبب عدم توفّرها فهو
واضح وُضوح الإسلام ولكنه في الوقت ذاته غامض غُموض نفسية
المسلم: الإبداع في التفكير ليس من مشمولات السياسة
والسياسيين، إنّما هي من مشمولات التعليم و المُعلّم.
في الحقيقة لا شيء يمنع المسلمين من الاكتشاف والاستنباط
والتدبّر إزاء الذكر الحكيم وما أنزله الخالق البارئ شرعة ومنهاجا. إلاّ أنّ
النقص في التربية الملائمة لروح العصر(باتجاه تحت/فوق) صار يُترجَم
بنُقص فادح، لدى"المواطن"المسلم في فهم مسؤوليات إسلامية مثل
الاستخلاف، وغيرها ممّا يُضاف إلى العبادات في الإسلام. وأعني بذلك
باب الأخلاق وباب المعاملات. فأدّى تجاهل المسلم أنه مخلوق له
مسؤوليات من جهة، وحرصه المغلوط على أن لا يتفاعل مع قوانين
الشريعة إلاّ بتوفّر شرط تطبيقها، إلى واحدة من الحالات الثلاث التالية:
39
إمّا الفصام والانفصام (وهو ما درسناه في مقالات أخرى)؛ إمّا التشبث
بالعلمانية المتزمّتة، وهي ردّ على التعصب الديني (وهي غير العلمانية
التي لا يجب أن ننفي منافعها للمسلمين)؛ وإمّا الانحياز المَرَضي إلى
تطبيق الشريعة، وهو الذي يهمني أكثر في هذا الموضوع. ولو أنّ
الحالات الثلاثة اجتمعت،باستفزاز من السبب الأخير، فأفرزت السلوك
المشين، المُبطل الذاتي للتحرر.
إنّ من اختار أن ينادي بتطبيق الشريعة، ظنا منه أنه يُرضي الله ظلّ في
الواقع يُغضبه تعالى، لأنّك تراه في أثناء انتظاره لأن يتحقق مطلبه يؤذي
أخيه المسلم مثلما رأينا أنفا. فلا هو أرضى الله ولا أرضى العصر. حيث
أنه اختار أن يكون منهجه منافيا لروح العصر ولِعُلُومه، بتوخّيه التدليل
عوضا عن التعليل والدوغمائية عوضا عن البراغماتية. ومنهجه منهج بالِ
تجاوزته الأحداث والمعارف. ويكفي أن نذكر أنّ علماء أبرار مثل وحيد
الدين خان جزموا بالقول إنّ الإسلام نظام لا يستدعي سلطة لتطبيقه.
فما العمل؟
إنّ ما خسره هؤلاء المُنادون، بمبدأ الرغبة، بتطبيق ما لا يطبّق إلاّ
بالعقل هو إهدار فرص تعلّم فنون الإبداع، من ابتكار واكتشاف واختراع
من داخل منظومة القانون المتواجدة. وخسروا فرص التحصيل عل
مهارات حديثة من مشمولات علوم التربية، من علوم دماغية
وأنطولوجية وغيرها، وهي مهارات قد تقودهم إلى الطمأنينة على
الإسلام دينا وعقيدة وشرعة ومنهاجا، لو احتكموا إلى قواميسها. لآنّ،
في التدين، مثلما هو الشأن في التكلّم والمخاطبة، ليس البرّ أن تحفظ
القواعد عن ظهر قلب، بل البرّ أن تتفاعل معها بالتمييز بين الدين
(الشريعة) والتديّن (أنت) مثلما يقع التمييز بين "اللغة" (النظام)
و"الكلام" (كلامك أنت). والبرّ أيضا أن تمارس الدين الحنيف بفضل القدرة
على التمييز بين الشريعة كهدي مقدّس من عند الله وبين تجربتك
الشخصية والوجودية في ضوء المنارة الإلهية، مثل تمييزك بين القانون
النحوي ("صناعة "اللغة أو "علم بكيفية" بعبارة ابن خلدون) وبين فهم
المتكلّم له ( "نفس الكيفية" بتعبير ابن خلدون أيضا). كما أنّ البرّ أن
تعلم أنّ معرفة الدين شيء والالتزام به شيء آخر. فلا يكفي أن تكون
عارفا بالدين لكي تزعم أنك ملتزم به.
40
ورحم الله مالك بن نبي وهو القائل :"فكل مسلم مقتنع بدينه ...ومن
يحاول أن يأتي للمسلمين بوسائل لاقتناعهم بدينهم فإنما يضيع وقته
وربما يضيع وقت المسلمين أنفسهم. فالمهم في الأمر اليوم أن نلاحظ
أنّ الشكوك التي تسربت إلى عقول الآخرين عن المجتمع الإسلامي
إنما تتناول رسالة المسلم لا عقيدته" ("دور المسلم ورسالته"، دار
الفكر، دمشق، 1989 ص 51 ). إنّ المطالبة بتطبيق الشريعة اليوم
وسيلة تفرضها على المسلم أطراف مُعينة والحال أنه عارف بدينه. ولمّا
كان هنالك من يزوّد المسلم بالدين مع أنه عارف به، فكأنه يضطهده
بينما يحبّذ المسلم تفريغ عقله وذهنه ونفسه من الشوائب التي
اختلطت بالجيّد مما يعرف من الدين. أمّا "رسالة" هذا الأخير بإزاء هذه
الوضعية غير المريحة، وهي المتعلّقة بخلط فظيع بين المعرفة
والممارسة، بين العلم الديني والتجربة و بين الدين والحياة بما تتطلبه
من التزام حقيقي بالدين، فلم يحن الحديث عنها. لِمَ لا؟ لا لأنها سرّ
يستدعي الستر وازدواج الخطاب والغموض، كما هو الحال اليوم في
المنابر السياسية، وإنّما لأنّ من حق المسلمين أن يوصلوا صوتهم إلى
المحافل الدولية (مثلما أوصلها اليهود من قبلهم)، والحال أنّهم لا
يملكون الخطاب المعاصر الذي سيفهمُهم بواسطته الآخرون. وطالما أنّ
فاقد الشيء لا يعطيه، لا بدّ عليهم أن يدركوا ما الذي يعوزهم لبناء مثل
ذلك الخطاب.
إنّ مسلم اليوم يفتقر إلى"الكفاءة التواصلية"، وهي التي ستحلل
عقدة من لسانه يفقهوا قوله (دعاء من القرآن العظيم)، بمعيّة "الكفاءة
الدينية" (معرفته بالدين وعدم حاجته لوسائل مفروضة عليه من
خارجه). فلمّا كان من الثابت في مجال التعلّم المعاصر للّغة أنّ "الكفاءة
التواصلية" (نعوم تشُمسكي) عامل ضروري ومكمّل ل"الكفاءة اللغوية"
من دونه لا يستقيم حال الكلام، فليس هناك خيار للمسلم اليوم سوى
أن يكتمل قدرته على الالتزام. وهذا لن يتمّ إلاّ بتحصيله على "الكفاءة
التواصلية"، إلى جانب عرفه بالدين. وهذه مهارة حيويّة، في مجال
الحياة عموما كَمَا في مجال التدين خصوصا. ف"الكفاءة التواصلية" هي
الواسطة التي سيتمّ بها التفريغ من الشوائب. وحين يفرغ زاد المسلم
التاريخي والثقافي والمعرفي من الغثّ ويُبقي على السمين يُمكن
الحديث عن فحوى "الرسالة". فليست الفحوى أمرا يتمّ إملاؤه على
41
المؤمنين لكي يحفظوه ويتلوه ويكرروه، مثلما هو جارٍ اليوم من غسلٍ
لأدمغة المؤمنين وحشوٍ لها بمادة أرادها لنا الخالق قُدوة ومنارة وحقيقة
باعثة على الإبداع.
وحريّ بأولي الأمر من المسلمين ا، ينكبّوا على هذا الجانب الوظيفي
في تربية الأجيال. و إلاّ فستكون المجتمعات العربية والإسلامية قد
أضاعت كثيرا من الوقت. وستكون فئات عديدة منها قد حكمت على
العديد من أبنائها وبناتها بوأد القدرات على الإبداع، وبالتالي سمحت
لقوى التعصّب و التزمّت والاستقطاب بأن تشيع شيوع الوباء.
إنّ الشريعة السمحاء أسمى من أن يقع توظيفها في أغراض بائسة
ويائسة مثل التستّر على الرذيلة والتمرد المُنصاع والمعرفة الجاهلة.
فما أحوج المسلمين إلى التعامل معها بالمنطق الديالكتيكي الذي
يخوّل لهم توليد وتحويل ما يطيب من قوانين العدل والإحسان
والمساواة وغيرها التي يقع تكريرها على التوّ، بعد أن يتمّ تجفيف منابع
التكرار الببغائي. ويتمّ إنجاز ذلك في الإطار الرحب، إطار التفنّن في
رصد ما يزيدهم، كل يوم ودون انقطاع، يقينا على صحّة احتكامهم إلى
نظام الإسلام وشريعته وإيمانا بالله جلّ وعلا. والله أعلم.
*******
42
الطريقة البديعة لتطبيق الشريعة
2012-1 - تقدم النائب والمناضل الإسلامي الصادق شورو في يوم 23
بكلمة في المجلس التأسيسي أقامت الدنيا ولم تقعدها بعدُ. وقد كان
وجه الصدمة في المداخلة أن استشهد العضو التاريخي لحزب النهضة
بآية الحرابة من القرآن الكريم، إن ل"يلوم" المعتصمين والمحتجين
والمضربين على صنيعهم أم ل"الحكم" عليهم.
إنّ مداخلة النائب تمثل في اعتقادنا فعلا مناسبة تاريخية لِما توفره من
فرص لمراجعة الرؤية للدين الحنيف وعلى الأخص في جانب تطبيق
الشريعة.
إنّ الإسلام كاللغة. ومن فضائل اللغة أنك لمّا تتكلمها في زمانك ومكانك
لا تقلد فيها كلام غيرك، ولو كان كلام رب العزة، إلا إذا كنت جاهلا وفي
طور تعلم. هكذا وبنفس المعنى لا يمكن أن يتمّ تقليد الأحكام الشرعية
القديمة دون أن يُتهم المقلد بالجهل. فكل ما جاء به الله صالحا لكل
زمان ومكان بتوفر شرط العلم والدراية. وإن توفر هذا الشرط لم يبق
للمجتمع المسلم إلا أن يهنأ نفسه على المستوى الذي بلغه. وشكر
الله على هذه النعمة أفضل تطبيق لكلام الله.
من هذا المنطلق لم تعُد مشكلة المسلمين عموما ومشكلة قادة رأي
المسلمين تُرى على أنها متعلقة بتطبيق الشريعة من عدمها. إنّ
المشكلة في التواصل مع كلام الله جل وعلا.
لننظر إلى اللغة. كل لغة لها نحو. وليسأل المرء نفسه "هل يمكن أن
أتعلم النحو بتطبيقه مباشرة بلا كلام وتجربة في التعبير والتبليغ؟". إن
كان ذلك ممكنا فتطبيق الشريعة (وهي في الدين قائمة مقام النحو
في اللغة) إذن ممكن. أما إن تعذر عليه ذلك فليحاول أن ينظر من جهة
التجربة في التعبير والتبليغ، عساه يدرك أنّ تلك هي مصيبته.
بهذا المعنى لو كنتُ الصادق شورو لأقمت وجهي لصورة الحق، صورة
التجربة الإنسانية في عالم مشوه بأيادٍ فوقية لا علاقة لها بالعدل
والمساواة.
43
لو كنت شورو لاتبعت سارق الثورة حتى باب داره: ثورة فانتخابات
فتشكيل حكومة في مناخ اجتماعي مشوب بالغموض والتوتر، فاطراد
الاعتصامات والاحتجاجات والإضرابات.
لو كنت شورو لَما تجرأت حتى على السؤال بأي ذنب س"أتّهم"
المعتصمين والمحتجين والمضربين ف"أتوَعدهم بالانتقام" متوخيا أسلوبا
لا تاريخيا استنباطيا عشوائيا. حاشى أن يكون الإسلام متخلفا بما
يكفي للقفز على التجربة والتقوقع في النص. حاشى أن يكون الإسلام
متخلفا حتى يسمح بالاستنباط في الحكم على البشر في عصر غير
ذي عصر استنباط.
لو كنت شورو لأمعنتُ في الصورة العالمية ولتبيّن لي ضلوع أسياد
الرأسمال العالمي في بعث متطوعين محليين يستنسخون نموذج
الاستغلال في بلدي ويخلقون منهم طبقة ممن يعتدون بكامل أصناف
الفحشاء على شغالين مطوقين بين حيطان معاقل يدخلونها قسرا
ويقضون فيها أحلى ساعاتهم كرها حيث إنها لا تدر عليهم بما
يستحقون من أجر مقابل جهد يبذلونه فوق طاقتهم.
لو كنت شورو لَما استحضرتُ آية الحرابة لِوَأد القوامة العقلية على
النقل لدى بني أمتي؛ لَما استحضرت أية آية أخرى من آيات الله المنزلة
في لوح محفوظ، لا لشيء سوى لأن الصورة البشعة التي يحملها
الواقع الاجتماعي والسياسي آية معبرة عن تحريف مقاصد الإسلام
النقية، فما بالك أن أتمادى في تحريف الواقع باسم الآيات البينات.
لو كنت شورو لأدركتُ أن المعتصمين والمحتجين والمضربين أمة من
الثوار الأحرار لا يسقطون الكلم على أوضاع تتكلم بنفسها بل
يستقرئون قواعد الحق التي جاء بها الدين كله من خلال تجربتهم مع
الوحش الرأسمالي.
لو كنت شورو لرسمتُ معهم آية استحقاق العمل بكرامة، وتقاضي
الأجر بالعدل، والانتفاع بالخيرات بالمساواة.
44
-3-
حول تصحيح وتحرير العقيدة
45
عقيدة الكلام للتحرر من الرجعية باسم الإسلام
"الرحمن خلق الإنسان علمه البيان"؛ "وعلم آدم الأسماء كلها". هذه
من آيات الله التي قليلا ما نتعظ بها. والحال أنها دالة على منهاج للحياة
بحاله. فما نستسيغه من الآيتين أنّ الكلام إعجاز إذن فهو إسلام. ثم
إنّ ارتباط "البيان" و"الأسماء" بالخلائق كلها أي ليس فقط بأمة الإسلام
يعني أنّ "كلية" الأسماء دالة على شمولية اللغة. وشموليتها تتناظر
مع شمولية الإسلام. وما دامت اللغة صادرة عن الله، مصدر الإسلام،
ولفائدة خلق الله الذين يدعوهم سبحانه للإسلام، فاللغة إسلام.
ثم مجرد أنّ اللغة شمولية على غرار الإسلام يقتضي أن نتعاطى مع
الإسلام مثلما نتعاطى مع اللغة. وما دام الكلام نتاج للغة إذن فالكلام
في نفس الوقت نتاج للإسلام. وهنا نتساءل إن كانت لهذه المعادلة
فائدة في الارتقاء بحياة المسلمين. لنرَ إن لها فائدة في مجال مقاومة
الرجعية الدينية مثلا.
ليست الرجعية الدينية سوى فكرا يتم تبليغه بواسطة لغة ماضوية.
وهذه الأخيرة ليست "كلاما" صحيحا طالما أنها لا تُبث في الحاضر. إذ
الكلام هو كل ما يُبث في الزمن الحاضر، الحقيقي. فالمرء لا يقدر أن
يتكلم لا في الماضي ولا في المستقبل.
لكن هذا لا ينفي أنّ للكلام ماضٍ أو مستقبل. وماضي الكلام هو، مثلا،
ما يتحَوّل إلى فكر ماضوي. وهو ماضوي لأنه يُقال في الحاضر ولا ينطبق
على الواقع. وهنا تكمن المشكلة. أي لو أُبقِي على الكلام الماضي
في ماضيه لَمَا خرج عن حدود الذاكرة المكتوبة من نص وصحيفة و
رسالة وغيرها، ولَمَا شكل مشكلة اسمها "الماضوية" أو "الرجعية".
إذن فالحفاظ على ماضوية الكلام الماضي في سجله الماضي هو
الطريق إلى القضاء على الرجعية، دينية كانت أم غير دينية. أصبحت
المسألة متعلقة ب"كيف يتم ذلك"؟
إنّ الحفاظ على ماضوية الكلام الماضي يعني منطقيا الحفاظ "حاضرية"
الكلام، كل كلام. وفي سياق ثقافة المسلمين"حاضرية" الكلام معادِلة
للقول ب"حاضرية" الإسلام. وهذا ما نعرفه عن الدين الحنيف من أنه
46
صالح لكل زمان ومكان. فإن كان الكلام مقولا في الماضي، مثل القرآن
الكريم والحديث الشريف، فقيمته الحاضرة لا تُقاس ذاتيا ككتلة ماضية.
وإنما تقاس قيمة ما مضى من الكلام بقدرة العقل الحاضر على تحويله
إلى كلام حاضر. هكذا يكون ما يُتلى و ما يُتدبر من قرآن، وما يُستشهد
به من حديث شريف، كلام مواكب للعصر أي كلام حديث.
بكلام آخر، من شيم الكلام الحاضر أنه مباشر أي لصيق بالواقع الحاضر
ويمانع في أن يستطلع الحاضر في الماضي. فالماضي ذو اتجاه لا
عكسيّ، لا رجعي. والكلام بالمثل. إذ ليس هنالك ما ينفي تلك
الخصوصية عنه. وبالتالي فالتاريخ لا يُعاد، إن بمقياس الزمان أم بمقياس
الكلام. وما نظريات إيليا بريغوجين في الفيزياء وفي الفلسفة إلا تأكيدا
إضافيا على هذا. وكله ينسحب على الإسلام، سواء بالتناظر مع الكلام
أم بالتطابق معه.
هكذا نفهم كيف أنّ صفة اللاعكسية في الزمان وفي الكلام لا تنفي
الانتفاع بما يطيب من الماضي، سواء كان ماضي الزمان أو ماضي
الكلام. حيث إنّ مِن شيم الكلام (الحاضر)، زيادة عن كونه مباشرا
وحقيقيا، فهو أيضا قادر على استطلاع الماضي في الحاضر. وهنا يكمن
الإبداع، إن في استخراج منوالِ للتدبّر في كلام الله أم في شكل اقتداء
برسول الله صلى الله عليه وسلم أم في شكل من أشكال إتباع حديثه.
في ضوء هذا يبدو أنّ السبيل التي تضمن الحفاظ على "حاضرية"
الكلام، بما ينفع في درء الماضوية الفكرية، الدينية بالخصوص، ومنع
الرجعية السياسية المستندة إلى تأويل ماضوي للإسلام، أن يتم تعليم
اللغة باتجاه تعزيز "الحاضرية". وهذه الممارسة ستسفر عن تأهيل
عقول المسلمين المتعلمين للغة ليصبحوا قادرين على إصدار كلام
حديث؛ سواء كان كلام في الدين أو كلام في الدنيا أو في الاثنين معا،
بالتطابق. والكلام الحديث هو ما يعبّر عن الزمن الحقيقي؛ زمن الحاضر،
من دون فصلٍ بين ما حضَر من الكلام وما مضى منه شريطة أن يكون
الكلام مُفيدا في شموليته.
47
منذ ذلك الحين يمكن الطمأنينة على المسلمين كمواكبين للعصر.
وعندئذ تزول عقدة المزج بين الدين والسياسة، ومعها مطلب الفصل.
والله وليّ الوصل بين المسلمين.
*******
48
لإصلاح اللغوي مُضاد حيوي لفيروس التطرف
لقد حَبَانا الله بنص اسمه "القرآن". ولم يأمرنا بإعادة كتابته، معاذ الله.
وإنما أمرنا سبحانه وتعالى بقراءته لكي نكون قادرين على كتابة نص
الحياة المتدبر منه. والذي يحصل اليوم، من جامعة منوبة وما تسجله
من اعتصام سلفي إلى بن قردان في جنوب البلاد، بل ومن البحرين و
اليمن إلى المغرب، يوحي لنا بأنّ المسلمين لكأنهم يحاولون قسرا
كتابة النص الأصلي. ألا يستحون من التحايل النابع من الجهل؟ وألا
يستحي خصومهم من التحايل النابع من الغرور العلموي؟
في سياق الإنقاذ الذاتي من هذه الكارثة أفترض أن الانضباط اللغوي
والألسني مَخرجٌ ذو بال من أزمة الوجود هذه، التي نعاني من
مظاهرها االسلوكية، إن دينية أم علمانية. وهو مَخرج علمي وتعليمي
وتربوي وثقافي قبل أن يكون مخرجا سياسيا مباشرا. ولنرَ إن كان
لإصلاح التعليم معنى، سواء في الابتدائي أم في الثانوي أم في
العالي، من دون أن تمتثل السلطة الإصلاحية لمنظومةٍ مكتملة لعقل
لغوي أصيل.
لننظر مثلا إلى الوضع السياسي العام في بلاد الإسلام قبل الطفرة
البترولية لسنة 1973 وبعدها (أعتبر هذا الحدث نقطة تحول خطيرة
ومركزية في مسار الدولة في بلاد المسلمين). سنلاحظ أنّ الحقبة
القبْلية اتسمت ببناء الدولة الحديثة وبتشييد المؤسسات وعلى رأسها
المؤسسة التربوية بينما اتسمت الحقبة البَعدية بتسخير الدولة المبنية
على أسس وطنية، والمؤسسة التربوية المشيّدة على أيدي مناضلين
أكفاء، لأجل خدمة الاقتصاد المعتاش في الداخل والاقتصاد الامبريالي
في الخارج. تلك كانت الصيغة التي ساهم كل من الغرب الغاضب (مِن
"الهزيمة" النفطية) والشرق الخليجي (الغانم مؤقتا من "هزيمة"
الغرب) في نسجها بكل وقاحة.
إذن منذ زمن الوهم البترولي بدأت الأزمات العربية تنخر المجتمع، إلى
أن كشرَ الذئب عن أنيابه (تونس وحدها عرفت أزمتين اثنتين من العيار
الثقيل، مرة في سنة 1978 ومرة في سنة 1984 ). وما بدأ في الانهيار
حينئذ كنتيجة مباشرة لعقيدة الوهم ليس الاقتصاد (الليبرالي المنفلت)
49
الذي استعملته قوى التغوّل الداخلية والخارجية لمساومة للشعب،
صاحبِ الثروات وسلاح النفط، ولغاية تركيعه. إنما الذي انهار للتوّ هو
البناء التربوي القبْلي لحرب النفط وعلى رأسه المنظومة اللغوية
العامة.أمّا خسارة النمط الاقتصادي المفلس فأُرجِئت إلى وقت لاحق.
وها نحن شاهدون الآن في تونس ومصر وليبيا وسوريا على التحقيق
شبه الكلي لهاته الخسارة.
لقد درّستُ في بعض الثانويات في تونس وفي الخليج العربي ولم أرَ
أداءً لغويا أتعس مما رأيت في الثمانينات. وبحكم احتكاكي بالعديد من
الزملاء الذين يُدَرسون بالمؤسسات "العادية"، ازددتُ يقينا من استدامة
التدهور الكلامي في التسعينات وفي الألفينات، إلى اليوم. عدا ربما
"المعاهد النموذجية" (مدارس النخبة التلمذية) في تونس أين لي
تجربة طويلة. لكنّ هذا الاستثناء دليلٌ آخر على استفحال العلة لا تنصّلا
من وجودها. حيث إنّ الأداء اللغوي الجيّد في مثل هذه المؤسسات
التربوية يسيرُ اليد في اليد وبخطى حثيثة مع هجرة الأدمغة.
وهل أقوى من هذا برهانا على تبعية الاستطاعة اللغوية المحلية إلى
الاقتصاد العالمي الفاسد؟ أليس هذا دليلا كافيا على تثبيت الاقتصاد
الريعي في مجتمعاتنا بالتوازي مع وأد العقل حتى لا يقاومه وحتى لا
يعي بضرورة إيجاد البديل له؟ لكأنّ التحالف الشيطاني، المحلي
والأجنبي، يقول لهؤلاء الطلبة المتميزين:"ها أنتم نَجَوتُم من الموت
اللغوي. لكن هيهات، ستدفعون ثمن ذلك بدعمكم المباشر لليبرالية
المتوحشة، إن في عقر دارها أم في دياركم أنتم بالذات."
هكذا كانت التُّربة الثقافية للتونسي وللعربي عموما مهيأة لزراعة كل
أصناف التحجر والتطرف. وما التطرف الديني الذي نعيشه اليوم باسم
الحرية والانتقال الديمقراطي، إلا الوجه الخفي لألوان عدة من
الإخفاقات، وفي مقدمتها الإخفاق اللغوي. كما أنّ "السرطان الآخر"،
وهو التطرف العلماني الحداثي، جنيسٌ للسرطان الظاهر (الديني)، بما
هو نتاج أيضا لتلكم الإخفاقات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.