تونس:طرحت الأحداث الأخيرة التي عرفها جبل الشعانبي والاعتداءات التي تعرض لها أعوان الحرس والجيش الوطنيين، وآخرها الإصابات الخطيرة التي تعرض لها الاثنين 6 ماي ثلاثة جنود، طرحت أكثر من سؤال حول حقيقة الوضع بالمناطق الحدودية والعوامل الموضوعية المؤثرة في هذا التحول المفاجئ والتصعيدي من جانب الجماعات الإرهابية. ويبدو من وجهة نظر تحليلية أن اختيار هذه الجماعات (التي لم تحدد المصادر الأمنية بعد ثقلها العددي) التحصن بجبل الشعانبي أتى إدراكا من عناصر تلك الجماعات لأهمية هذا الجبل كفضاء غابي يوفر المخبأ، وكشريط جغرافي رابط بين تونس والجزائر، يوفر مرونة الحركة بين تراب البلدين المتجاورين تبعا لنسق الضغط الأمني من هذا الجانب أو ذاك. ويشار إلى أن هذا الشريط الحدودي يمتد على طول حوالي 45 كلم (مناطق ولاية "تبسة" الجزائرية)، وعلى عرض 25 كلم توغلا في عمق التراب التونسي، وأساسا عديد مناطق ولاية القصرين، سيما معتمدية فوسانة. ومن منطلق هذه الاعتبارات التي تتصل بتوبوغرافيا المنطقة، لم يكن مستغربا، أن حوادث الاعتداء والاشتباكات التي حصلت مع قوات أمنية كان مصدرها جماعات متخفية في المناطق الجبلية والغابية، على غرار الاشتباكات التي جدت منتصف ديسمبر 2012 بين مسلحين والحرس الوطني بجبل بوشبكة الذي يعتبر هو الآخر ملاذا للجهاديين وممرا خاصا للمهربين. إلى ذلك، يدرك الكثير من المتابعين أن ولاية القصرين، على غرار عديد الولايات الحدودية الأخرى، تمثل في جزء منها مجالا حيويا للعديد من النشاطات التهريبية، وحاضنا رئيسيا لما يسمى باقتصاد الحدود المعتمد أساسا على النشاطات غير القانونية. وفي هذا الصدد يذهب بعض أهالي المنطقة، في تصريحات لموفد "وات"، إلى حد الحديث عن وجود تماس وتداخل بشكل ما، بين الشبكات التي تؤمن التهريب والجماعات الجهادية من خلال تقاطع جملة من المصالح، اعتبارا لكونهما يستخدمان نفس المسلك الجبلي الرابط بين منطقة مدينة بودرياس الجزائرية ومدينة فوسانة من ولاية القصرين. هذا المسلك الذي ينطلق من منطقة بولعابة (وهي قرية محاذية لجبل الشعانبي) من التراب الجزائري مرورا بقرية "صحراوي" وصولا إلى ولاية القصرين، يتخصص في تهريب البنزين والمواد الغذائية والمخدرات، حسب شهادات العديد من أهالي المنطقة. ويضيفون خلال لقاءات مع موفد "وات" أن المئات من السيارات المحملة بالمواد المهربة تمر يوميا من المنطقة. ويعتبر هذا النشاط التهريبي الشريان الحيوي لكل المنطقة، حسب توصيفهم، تساعد عديد العوامل على تغذيته، أولها تقارب المناطق جغرافيا فيما بينها، وثانيها، الروابط الأسرية والعشائرية التي تخلق منهم جماعات متضامنة. وفي هذا الإطار يربط جبل الشعانبي العديد من القرى نذكر منها بالخصوص قرية "البراطلية" و"الدغرة" ، ويتصاهر أبناء هذه القرى فيما بينهم، وهم ينتمون إلى عشائر لها ارتباطات تاريخية بالمنطقة على غرار "أولاد القاهري" و"اولاد السمعلي" و"أولاد القرمازي". وقد جعلت هذه العوامل من المجال أكثر تماسكا وملتحما في اتجاه نشاط اقتصادي واحد هو التهريب، الملجأ الوحيد في ظل غياب النشاط الفلاحي والصناعي بهذه المنطقة. ويرجح العديد ممن التقتهم"وات" بالمنطقة أن تكون هناك علاقة موضوعية بين الجهاديين وعدد من المهربين خاصة في ظل الوضع الأمني الذي وصفوه ب"الهش"، ويعتبرون أن الأحداث التي جدت تمثل "انحرافا خطيرا يجب التصدي له"، مؤكدين على "ضرورة السيطرة على المسالك التهريبية التي يمكن أن تكون مصادر تمويل لهذه الجماعات". وسجل المتساكنون بمنطقة "بولعابة"، وهي قرية محاذية لجبل الشعانبي تحركات غير عادية في الأيام الفارطة، إذ لاحظوا زيارات أشخاص غرباء عن القرية. كما رجحوا وجود بعض الأفراد الذين يؤمنون تزويدهم بالمواد الغذائية وبالدعم اللوجستي. وقال بعضهم إنهم ينسقون مع وحدات الأمن المتمركزة بالمنطقة من أجل الوصول إلى هؤلاء الأشخاص، وانهم لن يبخلوا بمد أعوان الأمن بأية معلومات متاحة، وذلك حفاظا على سلامة المنطقة من خطر الارهاب، ومن أجل التصدي لكل من يريد الإضرار بالبلاد، مؤكدين أنه رغم وضع البطالة المستشري في المنطقة، فإنهم سيدافعون على راية الوطن "مهما كان الثمن". وفي هذا الإطار يطرح المتتبع للمتغيرات الحاصلة في المناطق الحدودية العديد من الاستفهامات حول جاهزية قوات الأمن ومدى التنسيق الحاصل بين كل من قوات الحرس الوطني والجيش الوطني، خاصة وأن ظاهرة الإرهاب بالجهات الحدودية بدأت تطل برأسها وتفرض خطرها على الجميع. وقد التقت "وات" بالكاتب العام المساعد للنقابة الجهوية لقوات الأمن الداخلي بالقصرين، الفاضل السايحي، الذي قدم توصيفا تقنيا للعملية التي حصلت بجبل الشعانبي والخطوات التي تتبعها قوات الجيش والحرس الوطنيين للتصدي للعناصر الإرهابية. وبين أن الإصابات لم تكن نتيجة ثغرات أمنية، وإنما كانت نتيجة تغير نوعي في أسلوب هذه الجماعات التي استغلت المسالك الوعرة لمنطقة الشعانبي من أجل التمركز فيها، مشيرا الى أنه لايمكن إنكار النقص الموجود في المعدات والتجهيزات، والذي من شأن تداركه ضمان سرعة التدخلات ونجاعتها. وأضاف أن الخطوة التي تبعت عملية التفجير المسجلة الأسبوع الماضي، كانت تطويق الجبل بالكامل، نافيا أن تكون هناك تعليمات للتساهل مع هؤلاء الجهاديين، ومؤكدا أن جميع قوات الأمن ستكون بالمرصاد لخطر الإرهاب مع ضرورة توفير التجهيزات الضرورية على غرار "طوافة" مجهزة بكل التقنيات، وسيارات رباعية الدفع، بالإضافة إلى أجهزة مختصة. وشدد على أنه من الممكن جدا السيطرة على هذه المجموعات، قائلا "لايجب المزايدة على المؤسسة الأمنية". وأشار إلى أن تونس تعيش اليوم "فرصة تاريخية لبناء منظومة أمنية قوية تحميها من خطر الإرهاب الذي يهدد كل دول العالم تقريبا". وبخصوص التداخل بين الجماعات التهريبية والجهاديين الموجودين بجبل الشعانبي، قال إن "هذه المعلومات سرية ولايمكن الإدلاء بمعطيات حول هذا الأمر، إلى حين استكمال التحقيقات والأبحاث". وأضاف "إن مهمتنا تطمين الشعب التونسي وتكثيف العمل للوصول إلى كل من تسول له نفسه الإضرار بالوطن". وقد أكد على ضرورة النهوض بالوضع الاجتماعي لأعوان الأمن وتمتيعهم بحقوقهم المادية، من أجل ضمان الحضور الذهني الكامل، مذكرا في هذا الصدد بأن "حرس الحدود لم ينفذوا أي اعتصام منذ بداية الثورة"، بما يفرض "تحفيزهم وتأمينهم صحيا". ودعا إلى ضرورة توحيد الارادات للقضاء على الجماعات الارهابية، وعلى أن يضع الجميع في ذهنه ما عانته عديد البلدان من الارهاب، قائلا ان "الأمن مسؤولية الجميع".