لا بد أن يعلم منتهجو التهميش والإقصاء، أنّ عصر القطب الواحد والاستبداد قد ولى إلى غير رجعة... أيحسب هؤلاء أو يتصوّرون أنّ كل التضحيات التي قُدمت في أوطاننا العزيزة جاءت لتكريس الظلم والإقصاء والاستبداد في الرأي بألوانٍ وأسماءَ جديدة!؟ لا ولله؛ لو علم البوعزيزي رحمه الله تعالى أنّ عقليات متحجرة ممن يُحسبون على أهل "الالتزام" ستركب تضحياتِه؛ ما أقدم على ما أقدم عليه أبدا!... ولتابع خنوعه وخضوعه إلى سنوات وسنوات دون اكتراث بما كان يشعر به من تذمّر نتيجة التهميش والإقصاء و"الحقرة"!... إنّ ما تعرضتُ وأتعرض إليه من بخس في عملي الذي أحرص قدر المستطاع على إتقانه في هذا الزمان العقيم الرديء، جعلني أعيد النظر في كلام سمعته واستغربته لمّا سمعته لمَا فيه من معطيات ظننت أنّها قد تجافي الحقيقة أو أنّها نتيجة "قيل وقال" التي لا تنتعش إلّا في ميادين البطالة والقعود وبدْء فساد القلوب!... فلست – أسفي – الوحيد الذي تعرّض لِمَا تعرّضت له بل لقد سبقني أجلاء من أبناء الجالية قديمهم وجديدهم، فقد رسّخت الأيّام في النّفس أنّ الرديء عموما لا يقبل وجود من يعلوه فكرا واجتهادا وتصوّرا وحتّى قَبولا عند النّاس في ساحة نشاطه، فإنّ ذلك يُخنسه ويُلزمه قامته ويُشعره بأنّه يُهدّد كيانه الهش، فيسعى بالتالي إلى بذل الجهد من أجل تأمين ذاته بما يجمّع حوله ممّن التزموا الطاعة والانضباط وعدم مناقشة ما يرغب في تحقيقه لضمان ذاته!... يحصل هذا كلّما تراجعت الرؤية الموضوعية المنصفة للأشياء في حياة الفرد والجماعة، وكلّما صار المصنّفون يُلحنون في الشهادة دون خشية لحن فيها، ويضعون الأمور في غير مواضعها فلا يحرجهم بخس النّاس أشياءهم... وعندي أنّ مثل هذا السلوك قد يُركِب صاحبه الغرور فيُعميه عياذا بالله تعالى، أو قد يصل به إلى حالات مرضية مستعصية لعلّ منها ما يصيب بعض رؤساء العرب المتخلّفين ممّا سمّاه المختصّون جنون العظمة ( البارانويا) كما عليه الحال في قصتنا مع مهندسيي الإقصاء والتهميش... ولنقف مع بعض النماذج التي ساخت بجذورها في حياة خير أمة أخرجت للناس على اختلاف مستوياتها، حتى أضحت تشكّل ظاهرة مرضية مزمنة متعفنة لا تنفع معها أكثر المضادّات الحيوية فتكا، وذلك نتيجة التطفيف في المكاييل!... كلّ المكاييل بلا استثناء، الماديّة منها والقِيميّة!... ما يستهدف بخس الناس أشياءهم وحرمانهم حتّى من امتلاك أفكارهم وانتاجاتهم الخاصة. وأقصد به هنا الإنقاص على سبيل الظلم والالتفاف. ومن صور بخس حقوق الآخرين في زمن جنون العظمة ( البارانويا)، حتى صارت من أهم أسباب محق البركة وزوالها في حاضرنا؛ بخس الحقوق على إطلاقها، العينيّة منها والمعنوية، مثل العلوم، كل العلوم الدنيوية والأخروية والكلمة والفكر والرأي... ومن صوره المشوّهة كذلك، سرقة جهود الآخرين الفكرية ونسبتها إلى النفس الطماعة الجشعة دون مبرر يذكر. قال الحق تعالى: وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ. (الأعراف.85). وقال عزّ وجلّ أيضا: "لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ". (آل عمران.188). وكأن هذه الدنيا دائمة وغير زائلة، لتستحق هذا الإفراط في الجشع وركوب الناس، مثلما يركب الساميون العالم، نظرية "الغويين" عند اليهود... وقد كنت أحسب أنّ الدِّين يساعد المتديِّن السوي على أن ينظر إلى الأمور بسلاسة فيشجَّع مثلا الأعمال الإيجابية، ويُثني عليها، وينسبها لأصحابها ويدافع عنها ويكون عونًا على الإبداع فيها وتعميم ما يحصل منها من فوائد. ولو جرى مثل هذا في أوساط المجتمع وبخاصة بين الطبقة التي تسعى للعمل على الجمع والألفة كما يبدو ظاهريا، لساد الانطباع بالإنصاف لدى الجميع، ولأدّى ذلك إلى تفتيت كتل المتشنّجين والمتحاربين الذين لا يرون لغيرهم فضلا، ولا يظنون فيمن خالفهم إلا سوءً. ومن الواجب كذلك أن يُفرّق بين إنتاج الفرد والجماعة، فيثنى على الصالح منه ويُنتقد ما فيه من نقص محتمل، فيعطى حقه في كل منهما دون بخس أوغمط أو إقصاء أو تجاهل. وحين يكون النقد أو الخلاف في وجهات النظر على هذا المنوال والسلوك، تكون إمكانية الإصلاح أقوى، ونكون أقرب من الصواب وإليه، ثمّ بعد ذلك أقرب للتقوى وأقرب إلى الله تعالى. وإلا؛ فأنا واثق أنه سيأتي اليوم الذي سيُحصد فيه الشوك، جراء سياسة التهميش والاعتماد على الطاعة العمياء والانضباط في غير محله وعدم المناقشة... اللهم اجعلنا ممن يؤدون حقوق الناس كاملة ولا يبخسونهم منها ولا فيها قيراطا أبدا ما أبقيتنا، ولا تجعلنا ممن قلت فيهم: "وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ". اللهم إنا نسألك العدل في كل أمورنا، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. ونسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع. كتبه محمد هرّار من الدنمارك