..كشفت ردود الفعل على العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة عن مواجهة لا تحتمل الإغفال أو التغاضي في العالم العربي بين الشعوب والنظم الحاكمة أو بعبارة أخرى بين "الشارع" و "الشرعية"،الشارع يبدو متفجرا بالغضب ويريد فعل شيء لإنقاذ أهل غزة المساكين من سلسلة المجازر الهمجية لإسرائيل ، أما الأنظمة فهي على عهدها تبدو متريثة حتى التبلد ،بطيئة حتى السكون عاجزة حتى الغيبوبة! لقد شهدنا مظاهرات في معظم البلدان العربية إن لم يكن جميعها من المحيط إلى الخليج ، لقد خرجت الجماهير لتهتف ضد إسرائيل وأنظمتها معا في أكثر من دولة ، إننا أمام حالة من الغليان الشعبي ربما تكون الأكبر منذ غزو الولاياتالمتحدة للعراق في عام 2003 ، وما يحدث الآن يبدو مشابها للاحتجاجات على الغزو ،تضاد في الأدوار والرغبات وحتى المفاهيم بين الأنظمة والشعوب. غير أن الأمور لم تصل لدرجة الصدام العنيف المنفلت، بل نحن أمام شكل من الصراع المضبوط ، الشارع لم يصل لحد الثورة والشرعية لم تتقدم حتى مرحلة القمع الدموي الكامل ،الطرفان في مرحلة "صراع المابين" ، لكن ليس هناك مؤشرات على "تصادم وجودي"،لكن هناك بالقطع " صراع إرادات" وحتى الآن تبدو الأنظمة قادرة على فرض إيقاعها الممل على ردود الفعل تجاه ما يجري ضد غزة وسكانها ، لذا كان منطقيا أن يقتصر رد الفعل الرسمي العربي على إدانات موشاة بقاموس من الكلمات المستهلكة المتهرئة التي تبتعد تماما عن دائرة الفعل الجاد . فقد تمخض الجبل في الجامعة العربية فولد تحركا تجاه مجلس الأمن ،والحق أن الشارع لم يكن يتوقع أن تعلن الأنظمة الحرب على إسرائيل أو حتى تقطع الدول التي لها علاقات أو اتصالات مع إسرائيل "شعرة معاوية" ، الطرفان يحفظان بعضهما عن ظهر قلب ، فكذلك لم تتوقع الأنظمة انفجارات جماهيرية مدوية ، حيث كل ما في الأمر مظاهرات ضخمة لكن ليست بالضخامة التي تزلزل أنظمة أو تسقطها، والسؤال ثمة ماذا بعد ، فغزة لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة!أغلب الظن أننا أمام دائرة من الأفعال وردود الأفعال أشبه بالمتواليات الهندسية ،أظن أن بداية المواجهات في السنوات الأخيرة كانت بعد الغزو العراقي للكويت في عام 1990 ،والمثير أن نظاما ديكتاتوريا قمعيا دمويا مثل نظام صدام حسين راهن على الشارع العربي وعلى دعمه لكنه لم يتعلم من تجربة العراق ذاته فقد تم تدجين الشعب العراقي بكل الوسائل لدرجة دعم صدام حتى في الكوارث والمصائب على الأقل ظاهريا والأمر حدث فيما يتصل بالحرب العبثية ضد إيران ، ولقرار الغزو الذي يرقى لدرجة "العته السياسي" ، لقد استجد صدام بشارع الغير ليدعم شرعيته بعد أن تخلت عنه الشرعيات العربية الأخرى أو أغلبها ، ورغم أجواء الانقسام في العالم العربي بشكل عام فقد حظي صدام بدعم ملايين من المحيط إلى الخليج ورأينا مظاهرات هائلة في بلدان بعيدة عن العراق مثل الجزائر والمغرب . وكان هناك من يراهن على قدرات العراق العسكرية في مواجهة آلة الحرب الأمريكية والغربية الأشد فتكا في التاريخ ،وفي النهاية انهار جيش صدام و"تحجمت " شرعية صدام " وفشل رهانه على "سلطة الشارع" وقدرته! وفي عام 2003 خرجت بعض الجماهير العربية للاحتجاج على غزو العراق ، ولم تكن غالبية المحتجين من مريدي صدام كما أتصور ،لكن في النهاية لم يتغير في الأمر الكثير.. الأنظمة التي قبل معظمها بمنطق القوي الأمريكي لم تستجب للشارع سوى بالكلمات التي يخفي بعضها تواطؤا وتسترا وعجزا وضعفا ومهانة مقيتة، وفي المقابل أعطى الشارع الأمريكي الشرعية لرجل أحمق مثل جورج بوش تحيط به عصابة من المهووسين من المحافظين الجدد ، مما مكنه من المضي قدما في مشروعه الذي ثبت أنه لا يستند لحق أو حتى مصلحة حقيقية ،لكن الفارق هنا في تماهي الشارع والشرعية،بغض النظر عن أن المواطن الأمريكي العادي الجاهل بالسياسة الخارجية عادة ما يعطي تفويضا مفتوحا للنخبة الحاكمة في واشنطن لفعل ما تشاء لأنه لا يريد أن يرهق ذهنه بما هو أبعد من مصالحه الشخصية المباشرة! ونظن أن موقف فرنسا الرسمي المعارض للحرب على العراق في 2003 كان ينطوي على احترام من الشرعية للشارع ، رغم أن الولاياتالمتحدة بزعامة الأحمق بوش وجدت هذا الموقف ثقيلا عليها ، لكن في النهاية تفهم كل طرف معنى احترام الإرادة الشعبية وهو مبدأ يغيب عن العالم العربي الذي تسوده ديكتاتوريات و"أشباه ديكتاتوريات" و"أنصاف ديكتاتوريات " وفي أقصى تقدير "أشباه ديمقراطيات" ،لذا أجد من المثير للدهشة أن يطالب أبناء بلد عربي بتحرك ما تجاه قطاع غزة ، ويتهم الشارع في هذا البلد العربي بالعجز عن التأثير في النظام ، إن الأمر يكاد يكون نكتة ، فأرجو أن يدلني أحد عن الأنظمة التي تقدر رغبات شعوبها في قضايا مصيرية مثل القضية الفلسطينية؟ أيا كان الأمر فلا يبدو أن ما يجري في غزة حتى لو استمر أسابيع أخرى بنفس الوتيرة من القتل والتدمير الإسرائيلي فإنه لن يغير قواعد "لعبة الشارع والشرعية" في العالم العربي لأننا نحتاج لتغيير أعمق في كل بلد على حدة ، تغيير اجتماعي اقتصادي سياسي نفسي ، يطيح بالنظام الأبوي البطريركي المتجذر لدى الجميع ،لدرجة أنه يعيد إنتاج نفسه بجدارة، فعندما تسقط أبوة هنا أو هناك تولد أبوة جديدة ، والأخطر أننا نعيش منطق القبيلة وقيم القبيلة حتى بين الأسر التي نالها قسط من المدنية والحضارة. ولعل مشكلة "افتقاد الشارع للشرعية" و"افتقاد الشرعية للشارع" ، سيكون لها تجليات أخرى في مواقف أخرى ،خاصة أن القوى المنادية بالديمقراطية في العالم العربي مثل الولاياتالمتحدة وبعض الدول الأوروبية تخشى توحد الشارع والشرعية، ولنأخذ العبرة من مشكلة الجزائر عندما فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجولة الأولى للانتخابات المؤودة في ديسمبر عام 1991 ، حيث أيدت الولاياتالمتحدةوفرنسا تدخل الجيش لإنهاء هذه التجربة بدعوى أن الجبهة حزب غير ديمقراطي، والأمر تكرر عندما فازت حماس في الانتخابات البرلمانية النزيهة عام 2006 ،وتعرضت الحكومة الفلسطينية الشرعية للمقاطعة والنبذ، أيا كان الأمر ،فالشرعيات حتى لو كانت مزيفة بعيدة عن السقوط والشوارع وإن كانت ساخنة لن تفرض كلمتها! كاتب مصري الراية