دخلت إلى الصف السابع في بداية العام الدراسي الجديد، وتصفحت الملامح البريئة في محاولة لقراءة أثر الحرب عليها إثر صيف لاهب.. كان ذلك بعد حرب تموز في لبنان منذ سنوات.. طالعتني الوجوه الصغيرة تتفتح كبراعم الندى فوق أكمام الورود .. رأيت" فرح" مطمورة في كيس طلع ..الحزن باد على البشرة النقية.. و"نادين" تبتسم لي كعادتها لكنّ في ابتسامتها بريقاً منكسرًا..حاولت أن أستقرئ من الموجود موضوعًا لنص تعبير يكتبنه.. " كيف قضيت عطلتك الصيفية؟ ".. كنت أتوقع شيئًا من الهدير، لكن لا أنكر، فأنا لم أفكر أبدا بما يمكنه أن أتلقاه..كنت أظنني مع صغيرات لن يتحدثن إلا عن اللحظات الحلوة وعن سمر الصيف والهدايا..وإن أشرن فإلى القليل مما حدث دون استغراق فيه.. انطلقت "فرح" لتباشر كعادتها المشاركة في أيّ سؤال أطرحه..ارتفع أنملها الغضّ ُ في وجهي وقد استُبق بسيلِ دموع.. الحرب فظيعة يا معلمتي..لقد فقدنا كل شيء.. بيتنا وذكرياتنا.. فقدت جارتي التي ألعب معها عندما أعود إلى بلدنا في الإجازة في كل عام.. وأكثر أقربائنا استشهدوا.. وأكملت" نادين" تلك التي لسمرة وجهها في روحي فعل السحر.. :لم يسلم بيت ..لقد هربنا باتجاه سوريا، ثم بطائرة إماراتية استطعنا أن نرجع إلى الإمارات..لم أعد أود أن أعود إلى هناك فلا يمكننا أبدا أن نشعر بالاستقرار.. " وما علاقتنا نحن بكل هذا؟ نحن لسنا لبنانيين! " انطلق صوت معلنًا تأففه من بين تلميذاتي..سارعت ،والجميع إلى مصدر الصوت ..إنها "ميثا" الطفولية الوجه، والحركة، والعابثة أبدا.. حاولت أن أختلق جوًّا أتمكن فيه من جمع بعض الأفكار، والمشاعر في سلسلة واحدة لكنني لم أستطع.. ويومها أيقنت أن ما يصدر عن أطفالنا إنما هو صورة منا بتفكيرنا وقناعاتنا يفضحنا في وقت اللزوم وحينها لا نستطيع أن نلملمه!..ومن الذي يستطيع أن يدين الأطفال؟ أليسوا بنظرنا تماثيل النقاء كلها! صور تتكرر كل يوم ..منذ ساعة هدرت ابنتي.. أراها تتابع التلفاز ،وأحوال غزة تتزايد موتًا وقتلا ً..أراها تبكي بحرقة وتصرخ، فمرة أراها تعبر بوعي عن الحالة المخزية التي وصلنا إليها، ومرة أراها تتمنى لو لم تخلق عربية كي لا تكون لها حجة فيما يجري، ومرة أراها تستنجد بصروح العزة، والشرف في ماضينا العربي الغابر، ومرة تسترجع وهي تقص علي بألم ما رأته البارحة من أشكال لرجال أو شباب قد تجردوا من كل رجولة، وباتوا تائهين ما بين الملامح الرجولية، والمكتسبات الأنثوية، ومرة تجد للجميع العذر لكنها تعود لتعنون كلّ ردود الأفعال بشعار الخزي والتخاذل.. نحن رافضون لما يجري في غزة فلنعبر إذا..ولكن ألسنا نعبر؟ لقد قزمنا تعبيرنا الكبير في ميدالية صغيرة لحنظلة،أو لخارطة فلسطين نعلقهما في أعناقنا مؤصلين أكثرجبال الخزي، والعار، أو في صورة للأقصى جعلناها ستارة تحجب الشمس عن سياراتنا .. ألسنا رافضين؟ ومن قال عنا غير ذلك؟ ألسنا في كل يوم نسمع عن دعوات لعقد قمم عربية؟ لاجتماعات،ولمقابلات،واستقبالات لوفود نتباحث فيها في محاولة لإيجاد الحلول السريعة لوقف كتل الدمار ونزف الدماء في غزة ناسين أنه في كل لحظة يتهاطل الأطفال كثمار الشجر الخربة؟ أين أنت يا غزة مما نفعل؟ أين أنتم يا من تقدمون الأرواح قرابين في كل لحظة..يا من لا ترقدون أبدا حتى وأنتم تحت الثرى؟اعذرونا فنحن اعتدنا أن تجرفنا الدموع فنحن عاطفيون جدا،ونحن اعتدنا أن نصرخ ونبكي ، ثم نعود لنغازل امرأة، ونشتري آخر ما تجود به بيوتات الأزياء، ونأكل، ونشرب القهوة، ونفكر أين سنسهر بعد قليل، وفي رأس السنة بالذات لا يمكن أن نتأخر؛ فهو رأس لا يطلّ علينا إلا ليلة في كل سنة، وفي سبيله ندفع الآلاف، ونرقص، ونغني، ونسكر لننسى ، وقلوبنا تعرج ،وهي ترقص رقصة "الحلجة" صدقينا –غزة- فنحن وإن كنا نسهر فلكي ننسى ما نراه على شاشات التلفاز، وإن تذكرنا ،فإننا نلقي دريهمات في صندوق التبرعات إليك – غزة – ونحن نشعر أن جزءًا من ضمائرنا قد استطعنا تخديره حين انتشى بصدقة العطاء!.. اعذرينا- غزة- أنت في ضمائرنا ،وفي آلامنا، و في جروحنا..ألا ترين أننا قد حولناك إلى كوفية قطنية جميلة تطوق أعناقنا بتراكمات الخزي والعار؟ أليس هذا كل الاعتراف منا بأننا قد أشرعنا في سبيلك جهنم الرفض واسترجعنا بعضا من شرفنا المهدور؟! أمان السيد الإمارات العربية المتحدة 06/01/2009