يعتقد البعض أنّ أعمال العنف والقتل التي جرت في تونس ضد أعوان الأمن في كل من قبلاط وسيدي علي بوعون لا يقف وراءها تيار متشدّد (أنصار الشريعة تحديدا)وإنّما هي عمليّات استخباراتية تتقاطع فيها مصالح العديد من الأطراف السّاعية لإسقاط الحكومة الشرعية وإلغاء المسار التأسيسي ومن ثمّ المسار الانتخابي برمّته إلى أجل غير معلوم. وهؤلاء اختلط عليهم المشهد ، فمن جهة لا يمكن إنكار تورّط جهات داخلية وإقليمية ودولية في زعزعة الاستقرار في تونس للتخلّص نهائيا من الرّبيع العربي ومخلّفاته.وهذا ملّف كبير تتمّ معالجته بالمستطاع من طرف الحكومة والأحزاب المشكّلة لها وكل المدافعين عن الحريات والديمقراطية في تونس. ومن جهة أخرى هناك تيار متشدّد من مخلّفات التصحر الديني والفكري الذي أرساه المخلوع كسياسة دولة مدّة 23 عام وساعده في ذلك بقيّة الطّواغيت العرب ومن وراءهم الغرب والصهيونية. ذلك التيار أُصيب بدوره في مقتل بعد ثورات الرّبيع العربي حيث لم يعد لوجوده مبرّرا .ولمّا كانت الأحزاب والتيّارات في أوطاننا كالشّركات لها أصل تجاري ورأسمال فهي ستسعى للحفاظ عليه مهما كلّفها ذلك من مجهودات ومهما كلّف ذلك أوطانها من أثمان. ولا بدّ هنا من ملاحظة أنّ هذه العقلية لا تحكم فقط التيارات الدّينية بل جميع التيارات الأخرى والتي سبقتها في هذا الميدان ولا تزال تكابر من أجل البقاء وإلا ما معنى وجود تيارات يسارية وشيوعية وتروتسكية في تونس وقد انقرضت مثيلاتها عبر العالم. وما معنى وجود تيارات قوميّة بعد أن أهلكت وأنهكت الأمّة من المحيط إلى الخليج: الم يكن عبد الناصر زعيما للقومية العربية وأورث قومه دار البوار في الدّنيا قبل الآخرة؟ ألم يكن صدّام حسين قوميّا؟ فماذا حلّ بالعراق؟ وماذا يحدث الآن في سوريا من مآسي ؟ ورغم ذلك تجد من يتشدّق بكونه قومي أو بعثي؟أو يساري؟ السّلفية الجهادية تخدم أجندات أطراف دولية معلومة بقصد أو بغير قصد وأنا أرجّح الثانية...ولا يمكن لفكر السلفيّة الجهادية أن يلقى رواجا في ظلّ حكومة منتخبة والطّامة أنّها حكومة إسلامية...وفي منطقهم لإدارة التوحّش لا بدّ من إسقاطها باعتبار إسلامها الظاهر مجرّد قناع يخفي وراءه مشروع لضرب الإسلام وهذا مع كلّ الودّ الذي أكنّه لأنصار السلفيّة الجهادية مجرّد هوس فكري وجنوح عقائدي بالغ الخطورة على الإسلام برمّته. السّلفية الجهادية عندما تكدّس الأسلحة في تونس فبالتّأكيد ليس للاحتفال بالمولد النبوي الشريف...والدّولة أيّة دولة لا يمكن أن تكون دولة دون توحيد البندقية. ومن ثمّ فمجرّد تكديس السّلاح جريمة إلاّ إذا تغيّر القانون وأصبح يسمح بذلك كما هو الحال في الولايات المتحّدة أو اليمن...وطالما أنّ القانون لا يسمح بذلك يبقى الأمر جريمة. صحيح أنّ الانقلابين هم الحلفاء الطبيعيين للفكر الجهادي العدمي...ولاحظوا أنّ السلطات الجزائرية لم تتمكّن من نزع الشرعية على العمل المسلّح إلاّ بعد سنوات عجاف من اللاّأمن اثر إيقاف المسار الانتخابي عام 1992. عايشت تلك المرحلة ولم يتجاوب الشّعب مع منطق ودعاية السّلطة إلا بعد وقوع مجازر مروّعة ذهب ضحيّتها عشرات الآلاف. وما شدّ انتباهي أنّ المراجعات حدثت في كل من مصر وليبيا ولم تحدث في الجزائر إلى اليوم.لماذا؟ لسبب بسيط الانقلاب حدث ضدّ اختيار الشّعب ممّا أعطى أبعادا مختلفة عن مثيلاتها في مصر وليبيا. والجهادية العدميّة تسعى لإلغاء السّلطة الشرعية في تونس لتجد سوقا مفتوحة لترويج أفكارها...وهنا تتقاطع مصالحها مع الانقلابيين من مشارب شتّى. تقاطع المصالح لا يعني التعامل المشترك بين تلك الأطراف عبر خطّ ساخن لإسقاط الحكومة كما يظنّ البعض...ولكن كلّ منهم يعمل على شاكلته لغايات خاصّة به. وهنا وقعت الحكومة بين نارين: عنف أعمى وضغط سياسي واقتصادي عدمي لا يقلّ خطورة عن الإرهاب المسلّح. وما لا يدركه الكثيرون الذين يتّهمون النّهضة بتشجيع الإرهاب أنّ النّهضة هي الجدار الأوّل والأخير الذي باستطاعته منع الظاهرة الإرهابية من الانتشار وإشعال البلاد .دور النّهضة في تحجيم التطرّف الديني أهمّ من جميع أدوار قوّات الأمن مجتمعة وهذا ما يجب أن يدركه جميع التّوانسة قبل فوات الأوان. وعلى الشباب المغرّر بهم أن يدركوا أن محاربتهم لقوّات الأمن هي محاربة لإخوانهم ولعائلاتهم ...وأن يدركوا أنّ دوّامة العنف والقمع الأعمى لن تستثني منهم أحدا إن ساهموا في إسقاط حكومة انتخبها الشّعب. تونس في 24/10/2013