للحياة من بعد غزّة موت لا يرضاه الأعزّاء عبدالحميد العدّاسي، الدّانمارك. قد لا يختلف إثنان في أنّ الغرب "المتفوّق" قد نجح نجاحا منقطع النّظير في جعل همومنا قطريّة وأولوياتنا معيشية وتطلّعاتنا كماليّة دنياويّة أرضيّة رخيصة. فنحن في بلادنا العربيّة وعالمنا الثالث نفتقر كثيرا إلى الرؤية الشاملة والنظرة البعيدة الفاحصة والفكرة الصائبة والخطّة المدروسة الحكيمة والتطبيق أو التنفيذ المحكم. ونحن في بلادنا أنانيون لا تستوقفنا إلاّ مشاكلنا القطريّة أو الجهويّة: فالتونسي، مثلي، لا يكتب إلاّ عن السجن وعن الفساد لأنّ حاكم تونس قد ولع أيّما ولع بهذين العنصرين حتّى لقد كدنا لا نرى في البلاد إلاّ صالحا سجينا أو فاسدا مرسلا. والآخر في الخرطوم لا يكتب - ربّما - إلاّ عن دارفور وجوبا وملكال وكادغلي، وعن السلم والحرب السودانين والوحدة والانفصال السودانيين وعمّا يقترفه "التماسيح" (وأهل السودان يعرفون ذلك) في الأسواق وفي مصارف العملة. وثالث في بيروت أو في البقاع قد لا يكتب إلاّ عن السّاسة والسياسة وعن التفجيرات والمتفجّرات والمفجّرين. وكثير منّا انتصبوا هنا وهناك يردّدون، بلا وعي، كلّ ما يُقال عن الإرهاب والإرهابيين دون أن يشيروا بإصبع مستقيم ناحيّة الإرهابي الحقّ، أو عن الإنسان وحقوقه دون أن يعرفوا مِن الآخر الذي حرّضهم على الموضوع مواصفات هذا الإنسان وماهية حقوقه "المشروعة" أو المتعارف عليها... ولقد دعتني بقيّة إحساس بالآخر، نشّطها ما يجري لأمّهاتنا وأخواتنا وبناتنا وإخواننا وأطفالنا في فلسطين المحتلّة وخاصّة منها في قطاع غزّة الذي غزاه الأهل والأصدقاء بجهلهم وتخاذلهم وعدم رجاحة عقولهم، قبل أن يغزوهم الصهيوني بحقده وبغضه وصواريخه وطائراته ودبّاباته، إلى الحديث قليلا خارج الشأن التونسي راجيا من الله الثبات على الحقّ والحفظ من كيد الكائدين... 1 ) – إنّ ما يجري في فلسطين الآن وخاصّة في القطاع هي جريمة حرب تشترك فيها الإنسانيّة قاطبة ويتحمّل الوزر الأكبر من الجريمة الحكومة الفلسطينيّة المنقلبة على الشرعية حاميّة المفاوضات الفتحاويّة/الصهيومية، والشعوب العربيّة والشعوب الإسلاميّة قاطبة، وكلّ مسؤول غربي أقنع بقوّته الماديّة أو بقوّة السلاح بوجود أولويات في العالم قبل فلسطين والعراق وبلاد المسلمين المحتلّة. كما يتحمّل الوزر هيأة الأمم المتّحدة التي رضت لنفسها أن تكون مجرّد جهاز تنفيذي بسيط عامل لدى إدارة رعاة البقر من الأجلاف المحاربين لمعاني الأخوّة الإنسانيّة... 2 ) – إنّه لمن الهوان وموت الماشي أن يتجللبب حكّام العرب بعار لم يبلغه صدربعل من قبل ولا غيره من المستسلمين، ونحن نراهم مجرّد نُدُلٍ أتقنوا بروتوكول الاستقبال لكلّ نطيحة ومترديّة ممّن جاؤوا يشهدونهم على "فسق" أهليهم... وسبحان الله كيف يقبل وماذا يقول غدا لربّه مَن رضي سماع تهمة لابن عشيرته تتردّد على مائدة أعدّها هو نفسه بمال قومه وجهده (ولقد رأيت بعينيّ حاكما "مرموقا" يعدّ الطعام بنفسه وبمعيّة زوجته لأذلاّء مجرمين ساقطين ولعوا بتقتيل أبنائنا واللعب بأشلائهم)، دون أن ينتفض أو يردّ الفعل... كيف رضي أن يأكل المجرمون مشوياته اللذيذة التي أعدّها ويأكل هو لحم أخيه المشوي دون تردّد يذكر... 3 ) – ليس من غير المسلمين مَن يُخلص الحبّ للمسلمين أو يرضى لهم التقدّم أو السلم الإجتماعية، وقد بدأت رحلتهم مع كراهيتنا من يوم خطّط اللعين بلفور لإيجاد هذا العضو وهذا الورم الخبيث في الجسم الإسلامي في فلسطين. وقد كبّلنا "المتقدّمون" بكبّالات لا نقوى على قطعها، ساعدهم على وضعها بأيدينا حكّامنا "النسوة": فمن نطق كلمة الحقّ وُصف بالإرهابي وعوقب بغير حقّ وربّما نكّل به شرّ تنكيل، حتّى أخذ منّا الجبن مأخذه وظلّت حياتنا يُهدر جانب كبير منها في تخيّر الألفاظ "غير المستفزّة" لكاره الإرهابيين. ولكنّي وأنا أرى ما يجري في فلسطين من تقتيل على ضوء الكاشفات دون أن يتحرّك لهذا العالم ساكن، فلا يسعني إلاّ أن أصف كلّ مَن يرى هذه المشاهد وخاصّة من المسؤولين الغربيين الفاعلين وخاصّة منهم من غرس الصهاينة ودعم تواجدهم (وهم يرونها، وربّما ضحكوا حتّى استلقوا لموت رضيع أو صراخ أمّ ثكلى) باللاّإنساني وبالمنافق وبأنّه مجرم ضدّ العنصر البشري... 4 ) – لمّا تولّى السيد عمرو موسى وزير الخاجيّة المصرية الأسبق مهمّة الأمانة العامّة للجامعة العربيّة، استبشر الكثير من النّاس ورأوا فيه إمكانيّة إنعاش هذا الجهاز الخشبي. وقد كان نشطا في البداية، ولكنّه اليوم قد تمرّس فصار أمينا عامّا حقيقيا للجامعة العرب، تماما كرؤساء العرب، لا تحرّكه الأمور العاطفيّة الصغيرة المتمثّلة في حصار مليون ونصف من المسلمين العرب أو قتلهم أم خنق أطفالهم بقطع الكهرباء الميسّرة للتنفّس الاصطناعي، فتراه في هذه الظروف يحاول حلّ المشكلة اللبنانية التي خطّط لها "المتقدّمون" أن تكون مستديمة... رجائي من السيد عمرو موسى أن يحفر في ذاكرته عساه يجد بقية نخوة وغيرة كانتا لديه قبل المهمّة العربّية، فيصرخ صرخة توقظ بعض – ربّما - من أذهلته الإنتاجات العربيّة المعروضة على النت (معذرة: توجد عشرات القنوات العربية التي تعرض بنات العرب للبيع جهارا نهارا)... عليه أن يتفرّغ الآن لغزّة ولا لشيء غير غزّة... ولقد أنعشنا قليلا موقف السعودية وقيادتها من دعوة بوش إلى الحرب على أيران، فهل نراها تنتفض كذلك (وهي قلب الإسلام) للتعبير عن عدم رضاها عمّا يقترفه بنو صهيون في غزّة خصوصا وفي فلسطين عموما؟!... أرجو ذلك وأتمنّى أن يهبّ كلّ بما يقدر لنجدة إخواننا، فقد كان في قريش ما قبل الإسلام خمسة قرّروا كسر المقاطعة المفروضة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا كان منهم ذلك العزم فعلت الأرضة فعلها بإذن ربّها "يا أيّها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضلّ أعمالهم"... عبدالحميد العدّاسي، الدّانمارك.