بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السلفية.. منهج ومعالم ومحددات:علي عبدالعال

باتت السلفية الشغل الشاغل الآن للباحثين والدارسين والإعلاميين على حد سواء، خاصة لدى الدوائر الغربية ومراكز صناعة القرار بعد هذا الانتشار الذي لقيته والمد الذي تتسع رقعته بمرور الأيام.. وهو نفسه ما دفعني لكتابة هذا الموضوع إضافة إلى ما وجدته من تجافي أو قل (الهوة) بين الإعلاميين والباحثين من جهة وأصحاب ودعاة المنهج السلفي من جهة أخرى حول فهم "السلفية" كمنهج إسلامي.. فهي محاولة لتقريب الأفهام حول هذا التيار الأصولي الآخذ في التمدد، نقف من خلالها على معالم ومحددات المنهج السلفي كما يراه السلفيون.
تعريف: تمثل السلفية منهج محدد المعالم لفهم الإسلام بالتزام الكتاب والسنة وفق فهم "سلف الأمة" وهم أصحاب القرون الأولى من صحابة النبي والتابعين وتابعي التابعين، وأئمة الإسلام كالأئمة الأربعة، وسائر أصحاب السنن كالبخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي. حيث يقول أصحابها إن "السلفية" ليست من تأسيس بشر، وإنما هي الإسلام نقياً، لأنها تتلخص في التمسك بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهو ما يشير إليه د. مصطفى حلمي أستاذ الفلسفة الإسلامية بدار العلوم بالقول: "إذا كان المسلمون يلتمسون اليوم طريقاً للنهوض فليس لهم من سبيل إلا وحدة جماعتهم، ووحدة الجماعة ليس لها سبيل إلا الإسلام الصحيح، والإسلام الصحيح مصدره القرآن والسنة وهذه خلاصة الاتجاه السلفي، عودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله".
الخلفية التاريخية
ظهر مصطلح السلفية كمحصلة لأحداث تاريخية وأوضاع ألمت بالأمة الإسلامية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فالأمة على عهده لم يكن لها مسمى غير "الإسلام" وقد بقيت على ذلك في ظل حكم الخلفاء الراشدين، إذ أن الأغلبية المتمسكة بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة كانت هي الأصل، والأصل لا يحتاج إلى سمة خاصة تميزه، ولم تكن التيارات والفرق المنشقة فيما بعد من الخطورة بحيث تحتاج إلى اتجاه محدد لمواجهتها.
أهل الحديث : على عهد التابعين ظهر مصطلح "أهل الحديث" أو "أهل الأثر" (نسبة إلى الأحاديث والآثار المروية بسندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، وهم الآخذون بعلم الصحابة والناقلون لما كانوا عليه من أمور الدين، وامتد ظهورهم إلى عصر بني أمية وفترة من حكم العباسيين. وخلال تلك الفترة كان الاهتمام كبيراً بالقرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وأقوال الصحابة وتفسيراتهم واجتهاداتهم، فهم (أهل الحديث) أهل نقل ورواية، حرصوا على الالتزام بالإسلام كما أخذوه، ولم يلتفتوا إلى أي أفكار أو آراء منافية لهذا المنهج.
أهل السنة والجماعة: لما استفحل خطر الدعوات الخارجة عن إجماع فهم الأمة لدينها، كالخوارج والمرجئة والرافضة، وازداد نفوذ المعتزلة الذين تركوا الحديث واتجهوا إلى الجدل وخاض الفلاسفة والمتكلمون في عقائد المسلمين بآرائهم، ظهر مصطلح "أهل السنة والجماعة" وكان علماً على الذين تميزوا بمنهجهم المبني على ذم الآراء المخالفة للأدلة الشرعية، وتقديم النقل على التأويلات العقلية.
وفي هذه الفترة عرف الإمام أحمد بن حنبل ب "إمام أهل السنة والجماعة" بعد ثباته في ما عرف بفتنة "خلق القرآن" وتمسكه بمنهج أهل السنة في الاستدلال بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة في مواجهة المعتزلة.. وخلال هذه المعركة اشتهر على لسان الإمام أحمد عبارته: "لست أتكلم إلا ما كان من كتاب أو سنة أو عن الصحابة والتابعين، وأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود"، وهو ما كان له أبعد الأثر في إعلاء شأن السنة النبوية، حتى أصبح الإمام أحمد علماً على التمسك بمنهج أهل السنة والجماعة.
ظهور مصطلح السلفية: ظل أهل السنة من بعد الإمام بن حنبل على المنهج المميز لهم، إلى أن ظهر (أبو الحسن الأشعري) الذي استخدم المنهج الكلامي في الدفاع عن عقائد أهل السنة في مواجهة المعتزلة، ودعا تلاميذه وأتباعه إلى نصرة العقيدة الإسلامية بمنهاج المعتزلة أي باستعمال علم الكلام معتبراً علم الكلام من العلوم الشرعية إذا أريد به موافقة الكتاب والسنة. وكان الأشاعرة يعتبرون أنفسهم امتداداً لأهل السنة وخلفاً لهم فأطلقوا على أنفسهم لقب الخلف، إلا أن نظرياتهم الكلامية لم تلق قبولاً لدى المتمسكين بمنهج أهل الحديث المأخوذ عن الصحابة والتابعين، وبظهور مصطلح "الخلف" صار لقب "السلف" يطلق على أهل السنة والجماعة.. ثم استمر يطلقه مجددو السلفية على أنفسهم مع إحيائهم للمنهج كلما تباعدت الأيام واندثرت معالمه بين الناس حتى الآن.
قواعد المنهج السلفي في الاستدلال
لما كان المنهج السلفي يقوم على الاتباع أي السير على منهاج الرسالة النبوية وذم الابتداع (إدخال أمور في الدين ليس عليها دليل شرعي من الكتاب والسنة) فقد وجد أن السفلية تقوم على عدد من القواعد الأساسية:
1 الاستدلال بالكتاب والسنة
منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع منعقد على وجوب الأخذ بكافة أحكام الكتاب والسنة، دون التفريق بينهما في الاستدلال الشرعي، فما كان الصحابة ولا من جاء بعدهم يفرقون بين حكم ورد في القرآن وبين حكم وردت به السنة، لأنهما معاً وحي من الله، ومن الآيات التي يستدلون بها: "وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا"، وفي الحديث: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"، وهو المنهج الذي التزمه السلفيون في السابق ويتمسك به مجددو الدعوة السلفية في عصرنا الحالي.
فالكتاب والسنة بمنزلة واحدة من جهة التشريع وإن كان القرآن مقدم تشريعاً وتعظيماً لأنه كلام الله، لكن السنة أيضاً أصل في الاستنباط قائم بذاته، ثبت وجوب الأخذ بها في نصوص كثيرة واردة في القرآن نفسه، لذا لا يجوز الاستغناء عنها بزعم الاكتفاء بالقرآن، لأن السنة تشرح القرآن وتفسره "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" بل هي خير تفسير يفسر به القرآن بعد القرآن، وقد يتوقف فهم مجمل القرآن على تفصيل السنة، وقد تأتي السنة بأحكام غير مذكورة في القرآن، وهو ما يوجب الأخذ بالكتاب والسنة جميعاً دون تفريق بينهما.
ومن هذه المنطلقات أولى السلفيون في القديم والحديث اهتماماً كبيراً بهذين النبعين (الكتاب والسنة) عند الاحتجاج، واعتمدوا عليهما في الرد على كافة التساؤلات المطروحة من المسلمين وغير المسلمين حول حقائق الدين، وأيضاً في التعبد بالتلاوة والحفظ والفهم والتفسير والاقتداء.
2 التمسك بفهم الصحابة للدين
يقوم المنهج السلفي على فهم القرآن والسنة والعمل بهما وفق فهم الصحابة لهما، وذلك راجع إلى ما للصحابة من فضل وسبق في الإسلام.. فهم حواريو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم الأمة بالكتاب والسنة، صحبوا النبي وشهدوا أحواله وأخذوا عنه الدين شفاهة، فهم أشد الناس تمسكاً بالإسلام وتضحية في سبيله، شهد الله تعالى لهم بالإيمان والصدق، وأجمعت الأمة جيلاً بعد جيل على إمامتهم وعدالتهم، كما أثبت لهم التاريخ انتصاراتهم المذهلة، وما حققوه من أعمال لنصرة الدين والجهاد ونشر الدعوة الإسلامية.
يقول عبد الله بن عمر: "كان أصحاب رسول الله خير هذه الأمة قلوباً، وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلفاً، اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه ونقل دينه". ويقول د.مصطفى حلمي: "لا يمكن تفسير الانتصارات المذهلة للصحابة إلا في ضوء استجابتهم لعقيدة الإسلام وفهمها حق الفهم وتطبيقها عملياًً، فاجتذبوا غيرهم من الشعوب ذات الحضارة العريقة، فكان الصحابة في وضع الطلائع والصفوة الممتازة".
لذلك فإن ما ورد عن الصحابة من آراء فقهية، وأحكام دينية، وأقوال اجتهادية، أنزلها السلفيون منزلة خاصة، فما أجمع عليه الصحابة فهو حجة ملزمة لا يسع أحد الخروج عنه. وإن كان الإجماع حجة، فأقوى الإجماع إجماع الصحابة، ثبت بالتواتر ولم يتفق الفقهاء على إجماع سواه. يقول ابن القيم الجوزي: "إن الصحابي إذا قال قولاً، أو حكم بحكم، أو أفتى بفتيا فله مدارك ينفرد بها (...) وإن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به".
لكن السلفيون وإن كانوا يقرون بأن إجماع الصحابة معصوماً إلا أنهم لا يقرون بذلك للرأي الذي ينفرد به أحدهم، إذ ليس الصحابي معصوماً من الخطأ في اجتهاد تفرد به، وفي ذلك يقررون رد الخطأ إن تبين مخالفته للكتاب والسنة مع الاحتفاظ بالعذر للصحابي.
وصواب الأخذ عن منهج الصحابة في فهم الدين نهج خطه كبار أئمة الإسلام قديماً، حيث يقول الإمام أبو حنيفة: "إذا لم أجد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله أخذت بقول أصحابه (...) ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم". ويقول الإمام الشافعي في كتابه "الأم": "إن لم يكن في الكتاب والسنة صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله، أو واحد منهم".
ومما يستند إليه السلفيون في ذلك كثرة الآيات والأحاديث النبوية التي تبين فضل الصحابة، منها: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة)، (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم)، (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه). أما الأحاديث ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون)، وفي صحيح مسلم أيضاً :(أنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).
3 تقديم النقل على العقل
من أهم أسس الاستدلال في المنهج السلفي: تقديم النقل (النص الشرعي المأخوذ من الكتاب والسنة الصحيحة) على العقل (الأدلة العقلية المأخوذة من الفلاسفة والمتكلمين). ذلك لأن العقل الإنساني غير معصوم بل ومن الوارد وقوعه في الخطأ، ومن ثم فليس له أن يحلل شيئاً أو يحرمه، وإنما مرد ذلك إلى الشرع وحده، يقول الشاطبي في الاعتصام: "إن الشريعة بينت أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه على ألسنة أنبيائه ورسله"، فالعقل وإن كان شرعاً مناط التكليف، إلا أن الإسلام لم يجعل له دوراً في تشريع الحلال والحرام أو تحديد الواجبات الدينية والمنهيات الشرعية.
علاوة على ذلك أن هناك أموراً لا يقدر العقل بمقاييسه المحدودة أن يحيط بها علماً، في الكون والحياة، وهذا ما يؤكده التطور العلمي عصراً بعد عصر، وأهم من ذلك الأمور الاعتقادية والغيبية التي هي فوق مستوى العقل وإدراكه، والتي ينبغي إرجاعها كاملة إلى الوحي المتمثل في الكتاب والسنة، وهذا من أصل الإيمان بالرسل والأنبياء والكتب المنزلة.
وفي تفاصيل هذا الأساس السلفي كون العقل مخلوق خلقه الله وأودعه في الإنسان، وهو يؤدي وظيفته من خلال قدراته المحدودة، ومن خلال ما يدركه بحواس الإنسان المحدودة، فالقدرة المطلقة والإحاطة الشاملة، هي من صفات الخالق وحده وليست من صفات العقل المخلوق.
ومن هذه النظرة يؤكد السلفيون على ترك أي رأي يخالف الكتاب والسنة مهما كان صاحبه، وإن كانوا يحتفظون بالعذر لمن اجتهد فأخطأ إلا أنهم لا يرون عذراً لمن قلد الأئمة في آرائهم التي اتضح مخالفتها للكتاب والسنة، فلم يكن من منهج السلف التقيد بكل ما يفتي به إمام من الأئمة، بل وكان كبار أئمة الإسلام أنفسهم يحثون تلاميذهم على تقديم الكتاب والسنة على اجتهاداتهم وآرائهم إذا تبينت مخالفتها.. فالإمام أحمد يقول: "ليس لأحد مع الله ورسوله كلام"، وهو نفس مقصد الإمام مالك من قوله: "ما من أحد إلا ومأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله". والإمام الشافعي يقول: "إذا صح الحديث فهو مذهبي وإذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي الحائط"، أما أبو حنيفة فيقول: "لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي".
لكن لا يعني تقديم السلف للنقل على العقل، واقتصارهم في الاستدلال على الكتاب والسنة، أنهم ينكرون دور العقل في التوصل إلى الحقائق والمعارف، أو أنهم لا يستعملون الفكر والنظر في الآيات الكونية. ولكن ذلك يعني أنهم لا يسلكون مسلك المتكلمين في الاستدلال بالعقل وحده في المسائل العقائدية والغيبية، وتقديمه على كلام الله، أو تقديمه على السنة النبوية.
4 رفض التأويل الكلامي
يعرف ابن خلدون علم الكلام بأنه: "علم يتضمن اللجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية". وينسب تنظيم علم الكلام وتبويبه وتفريعه إلى المعتزلة، لأنهم أول من فعل ذلك، حين تكلموا في الوعد وإنكار القدر ثم نفوا الصفات الإلهية. ورفض التأويل الكلامي من السمات البارزة للمنهج السلفي في الاستدلال، ويتلخص "التأويل" في التفسيرات والآراء العقلية التي أوجدها المتكلمون لمسائل العقيدة والدين بغير دليل شرعي، فالتأويل إذاً إنما يعني اتخاذ العقل أصلاً يكون النقل (الأدلة الشرعية) تابعاً له فإذا ما ظهر تعارض بينهما تم تأويل النص الشرعي حتى يوافق العقل، حسبما يرى المتكلمون.
وهذا التأويل يلجأ إليه المتكلمون في أبحاثهم الكلامية في مسائل التوحيد والعقائد الغيبية والصفات الإلهية، وهو ما يجعلهم على طرفي نقيض من أصحاب المنهج السلفي، الذي يرون الأخذ بمسائل الاعتقاد كما وردت في الكتاب والسنة وإجراء النصوص على ظاهرها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. كما أن الإيمان المبني على التسليم للوحي يجعل الموقف السلفي يقوم على أساس دخول العقل تحت الوحي، بمعنى أن الوحي هو الموجه والعقل يمارس وظيفته في ظل توجيهات الوحي. يقول ابن أبي العز في شرحه للعقيدة الطحاوية: "وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته مع وجود النص، أو عارض النص بالمعقول فقد ضاهى إبليس حيث لم يسلم لأمر ربه بل قال:"أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ".
ويعتقد السلفيون أن منهج المتكلمين في تأويل النصوص باطل لأسباب منها:
1- أن هذا النوع من التأويل هو في حقيقته تحريف للنصوص وتعطيل لها.
2- لا يجوز شرعاً معارضة كلام الله بمصطلحات كلامية وضعها البشر، وهي مأخوذة في الأصل من فلاسفة وعلماء كلام من غير المسلمين.
3- أن موافقة المتكلمين فيما ذهبوا إليه تؤدي إلى الاستخفاف بأدلة الكتاب والسنة، والتقليل من قيمتها، كما أنه يؤدي إلى صرف الناس عن الكتاب والسنة وفهم معانيهما وهما أصل الدين.
4- أن الحجة العقلية الصحيحة لا تعارض الحجة الشرعية الصريحة بل يمتنع تعارضهما، إلا إذا كانت الحجة العقلية فاسدة، أو الفهم للحجة الشرعية فاشد.
5- أن الشرع الإسلامي قد يأتي بأمور تحتار العقول في إدراكها، ولكنها في الوقت نفسه غير مستحيلة عقلاً.
علي عبدالعال
صحفي مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.