يمثل غيرت فيلدرز (Geert Wilders) نموذجاً كلاسيكياً للإسلاموفوبيا في سياقها الأوروبي الراهن. لماذا إذاً يقع تعريف مواقف فيلدرز ضمن دائرة الإسلاموفوبيا؟ من حيث الخطاب المعلن يكرر فيلدرز مقولة متوقعة من أي خطاب إسلاموفوبيّ عندما يتبنى سلوكاً اعتذارياً: «أنا لا أكره المسلمين بل أكره الإسلام» («الغارديان» 17 فبراير الجاري). المشكلة، مبدئياً، هي في الإسلام ذاته وبالتحديد في النص القرآني، لكن تبعاً لزاوية النظر هذه فإن وجود المسلمين الواقعي متوقف على علاقتهم الفعلية تحديداً بالقرآن، حيث دعا فيلدرز المسلمين في هولندا إلى «تمزيق نصف القرآن» («الدايلي تيليغراف» 14 أغسطس 2007) حتى يمكن لهم البقاء فيها. وفي النهاية فإن كراهية الإسلام، أو الإسلاموفوبيا، هي المقدمة الضرورية لكراهية المسلمين إذا لم يكرهوا إسلامهم كله (أو «نصفه» حتى)، أي بنهاية المطاف إذا توقفوا عن أن يكونوا مسلمين، المسلم الجيد وفقاً للعقل الإسلاموفوبي، هو المسلم الذي ينفي ذاته. هذه مقولة مركزية في الخطاب الإسلاموفوبي المعاصر سنجدها تتكرر في أمثلة أخرى. كان شريط «فتنة» الذي لا يستغرق أكثر من 15 دقيقة، والذي لم يجلب الانتباه بسبب جودته الفنية أو التقنية، ذروة جهود فيلدرز لبناء سيرة ذاتية على أساس موقفه الإسلاموفوبي. الشريط يستعمل منهجا سطحيا ولكن مميز للخطاب الإسلاموفوبي من خلال انتقاء آيات قرآنية تتعرض لموضوع الحرب والقتال وعزلها عن المتن التفسيري المعقّد (أسباب النزول) المحيط بها مقابل التركيز على التفسير السياسوي الراهن لتنظيمات مثل «القاعدة»، ومن ثمة ممارساتها التي تدافع عن القتل على أساس العقيدة بوصفها الخلفية الوحيدة التي يجب على أساسها فهم هذه الآيات. طبعاً يتم عبر هذا المنهج التنميطي المسطح وذي البعد الواحد تقديم تعريف شامل للنص القرآني ذاته، ومن ثمة للمنظومة الإسلامية المعقدة، ديناً وتاريخاً، ضمن هذه المرجعيات الاختزالية. هذه منهجية كلاسيكية بالنسبة لأي خطاب يتعمد «الفوبيا» أو خطابات مماثلة مثل الخطاب العنصري، إذ لا يقع الاهتمام بالتفسير والفهم والتوصيف بقدر ما يتم التركيز على الخلاصات التعميمية الشمولية بأسلوب شعبوي مبسط. فجاجة الشريط، التي ربما كان من أهدافها الظفر بفتوى من إمام مسلم معروف «تهدر دم» فيلدرز، جذبت ردود فعل سلبية من داخل الوسط الغربي الأوروبي بقدر ما جلبت ردوداً مماثلة من أوساط مسلمة، وصلت الردود الأوروبية إلى حد الدعوة لحجب الشريط. الدعوة لمنع فيلدرز من التعبير يقع الدفاع عنها من قبل ناشطين حقوقيين هولنديين وأوروبيين ليس لأن الخطاب الإسلاموفوبي «يحرض على العنف» فحسب بل لأن مواقف فيلدرز تدعو فعلياً لحجب ومنع مؤلفات دينية إسلامية، مما جعل هؤلاء يصفونه ب «النفاق». لكن مثلما هي حال أي موقف إسلاموفوبي هناك دائماً خلفية سياسية محددة تيسر فهم هوس مماثل، تشكل هوس فيلدرز بموضوع الإسلام بشكل خاص في السنوات الأربع الماضية، حيث أصبح جوهر خطابه السياسي ومن ورائه حزبه «الليبرالي» المعروف باسم «الحزب من أجل الحرية». الأخير تأسس بمبادرة فيلدرز سنة 2004 بعد الانشقاق عن الحزب «الليبرالي» الهولندي الرئيسي «حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية»، النقطة التي يبدو أنها أثارت الانشقاق هي موافقة قيادة الحزب الأخير على دعم ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي، منذ ذلك الحين تميز «الحزب من أجل الحرية» بعلاقته الخاصة بمؤسسه فيلدرز وهو ما جلب انتقادات وصراعات داخله تتهم الأخير بمركزة الحزب حول شخصه، برنامج «الحزب من أجل الحرية» يتمثل بشكل عام في أجندة ليبرالية كلاسيكية مثل الدفاع عن تحديد وحتى إلغاء بعض الضرائب الحكومية، غير أنه تميز بالتركيز على قضية الهجرة ليتحول إلى حزب يدافع بشكل روتيني عن كل أشكال الحد من الهجرة، خاصة الارتقاء الاجتماعي للمهاجرين من أصول إسلامية، وهو ما جعله في تصادم مع هولنديين متمسكين بأصولهم الإسلامية وصلوا إلى مواقع سياسية متقدمة. مع حلول انتخابات سنة 2006 احتل حزب فيلدرز عملياً عبر أجندته السياسية موقع «اليمين المتطرف» ولو بمساحيق «ليبرالية»، مما جعله أكثر جاذبية من أحزاب «اليمين المتطرف» التقليدية ومن ثم قنص تسعة مقاعد في البرلمان الهولندي، مثل ذلك استثمارا ناجحا للتصاعد النسبي لمشاعر «الكزينوفوبيا» (أو «الخوف من الأجانب») في ظل الصعوبات الاقتصادية في هولندا، غير أن لفيلدرز أجندة أكثر اتساعاً جغرافياً تتجاوز المجال الهولندي، حيث تموقع من حيث خطابه ضمن اليمين الأوروبي المتطرف الذي يدافع عن هوية «مسيحية يهودية» لأوروبا من خلال الدعوة لإحياء ثقافة «تبنى على التقاليد المسيحية واليهودية والإنسانوية لتمثل تحدياً للمشكل الإسلامي» (في حوار مع «دير شبيغل» 31 مارس 2008). الأهم من كل ذلك علاقة فيلدرز بالتحديد بالتيار النيومحافظ، لا يتعلق ذلك بالدفاع المستميت لفيلدرز عن سياسات الإدارة الأميركية المتخلية، وأيضاً التغزل بفيلدرز من قبل رموز نيومحافظة يقع توصيفها روتينياً بأنها تحمل مواقف إسلاموفوبية مثل دانيال بايبس، بل أيضاً من خلال طبيعة مواقف فيلدرز خاصة في علاقة بالصراع العربي الإسرائيلي والتي تستنسخ الموقف النيومحافظ الذي يدافع بشكل مطلق عن استراتيجية المجازر المتبعة إسرائيلياً. المثير للانتباه أن تركز خطاب فيلدرز على الإسلام تَشكّل في الوقت نفسه الذي تطورت فيه علاقته برموز إسرائيلية، حيث برز خاصة مع سنة 2003 بتصريحات مؤيدة بشكل مطلق للسياسات الإسرائيلية، أشار في أحدها إلى أنه برغم زياراته منذ سنوات التي شملت دولاً عربية وإسلامية «من تونس إلى إيران ومن قبرص (؟!) إلى تركيا»، فإنه «يشعر بشعور خاص من التضامن عندما يضع ساقيه في مطار بن غوريون»، الأمر ليس طبعاً مجرد تصريحات ولقاءات جمعته شخصياً بكل من أرييل شارون وإيهود أولمرت، بل هو سجل واضح يتضمن دفاعا مستمرا بما في ذلك في البرلمان الهولندي عن إسرائيل بوصفها خيراً مطلقاً. فيلدرز، إذاً، ليس إلا نموذجاً كلاسيكياً شعبوياً ومهرجاً في الغالب عن تيار إسلاموفوبي أوروبي ترعرع في السنوات القليلة الماضية، لكن المظلة النيومحافظة أي المظلة السياسية هي التي تتطلب الانتباه وهذا هو الوقت الأمثل للوقوف على ميراث هذه المظلة، الرئيس أوباما حرص في خطابه الافتتاحي يوم 20 يناير بشكل واضح على تكرار استعمال كلمة «مسلمين» أو «عالم إسلامي» بشكل غير مسبوق في خطاب أميركي رئاسي افتتاحي. الجملة الرئيسية التي تستحق التعليق هي: «للعالم الإسلامي نقول: إننا نسعى لسلوك طريق جديد إلى الأمام، إنه طريق يستند على المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل»، قال أوباما ذلك ووراءه الرئيس المتخلي بما يعني الإقرار بأن ما «قمنا به» في السابق كان «طريقاً لا يستند على المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل»، ليست هذه مجرد تمارين خطابية، إذ إن اختيار الخطاب الذي شاهده العالم بأسره لكي يعلن ما يشبه الاعتذار عن سلوكيات الإدارة المتخلية أمر يستحق الانتباه بمعزل حتى عن صدقية النوايا. وضمن ظرفية انتعاش المظلة النيومحافظة تحديداً تم حقن بعض الطاقة في نوع آخر من الإسلاموفوبيا وهي تلك المستنسخة من قبل «المحليين» أو «إسلاموفوبيي الخدمة» (Islamophobes de service)، لأن الإسلاموفوبيا موقف وفكرة وليست بالضرورة تعبيراً عن انتماء عرقي محدد «أبيضَ» كان أو «غربياً». * أستاذ «تاريخ الشرق الأوسط» في جامعة روتغرز العرب 2009-02-22