عجز الكاتب الأمريكى مارك توين عن استخدام سلاح السخرية الهائل الذى يجيده، حين صدمته الممارسات التى تورطت فيها القوات الأمريكية عند اجتياح الفلبين عام 1901م. إذ وجد أن تلك الممارسات الفظيعة تمت تغطيتها بعبارات بليغة عن التحرير والهدف النبيل والمهمة الرسالية. وبرر موقفه بقوله إن قائد القوات الأمريكية فى تلك الحملة، الجنرال فردريك فانستن هو المسئول عن العجز الذى أصابه، لأنه ما من سخرية باتت قادرة على أن تعطى ذلك الرجل حقه، بعد ما تجسدت فيه حتى أصبح يحتل قمتها. هذه الخلفية خطرت لي حين تابعت جلسة مجلس الشعب يوم الاثنين الماضى 3-23، التى ناقشت موضوع تفويض رئيس الجمهورية فى عقد صفقات شراء السلاح، إعمالا للنص الدستورى (المادة 108) الذى يقضى بأنه عند الضرورة وفى الأحوال الاستثنائية وبناء على تفويض من مجلس الشعب لرئيس الجمهورية أن يصدر قرارات لها قوة القانون، على أن يكون التفويض لمدة محددة. الموضوع كان فى ظاهره بسيطا وسهلا للغاية، فالقانون الذى أدخل صفقات السلاح فى نطاق التفويض الممنوح للرئيس صدر فى عام 1972، فى أجواء العمل على إزالة آثار عدوان 67، وحرب الاستنزاف التى أعقبته. إذ منذ ذلك الحين وحتى الآن، حوالى 40 عاما، والرئيس ينفرد بعقد صفقات السلاح، فى غياب أى رقابة برلمانية. وحين طرح موضوع تجديد هذا التفويض كان السؤالان اللذان خيما على المناقشة هما: هل ما زالت الضرورة والأحوال الاستثنائية قائمة حتى الآن؟ ثم، ألا يعد استمرار التفويض طوال هذه المدة انتقاصا من حق البرلمان فى الرقابة وعدوانا على سلطاته الدستورية؟ إلى هنا والكلام جاد ومعقول، لكن الكوميديا بلغت ذروتها فى الرد على السؤالين. فى البداية قدمت لجنة الدفاع والأمن القومى، التى يفترض أن تكون الأكثر اعتناء بالموضوع، تقريرها الذى أعلنت فيه استقالتها من المهمة. إذ قالت ما خلاصته إن الدنيا تغلى من حول مصر وأمنها مهدد، الأمر الذى يتطلب اتخاذ قرارات سريعة وفى سرية تامة، ويقتضى استمرار العمل بتفويض الرئيس فى شراء السلاح لثلاث سنوات قادمة (تنتهى عام 2012). تحدث كثيرون من أعضاء الحزب الوطنى فى هذا الاتجاه، مؤكدين أنه ما لم يتم التفويض المذكور فإن كارثة ما ستحل بالبلد، حيث سينكشف أمنها القومى وسنصبح جميعا فى حيص بيص. وزاد أحد الأعضاء من جرعة التنبيه إلى الخطر، حين قال إن حكومة متطرفة يجرى تشكيلها الآن فى إسرائيل. وسيشغل ليبرمان وزير الخارجية، وهو الذى هدد بضرب السد العالى وإعادة احتلال سيناء لتهجير الفلسطينيين إليها. الأمر الذى يعزز أهمية منح التفويض للرئيس للتعامل مع تداعيات هذا الموقف (زكريا عزمى). قال آخرون إن التفويض ضرورة، وإن المسألة ليست سهلة، فالرئيس مبارك مسئول عن أمن مصر وأمن المنطقة وأمن أفريقيا وهو حريص على السلم والأمن العالمى (كمال الشاذلى)، وأننا بصدد الاستفتاء على حب مصر، ومن يعارض التفويض يكون مشكوكا فى ولائه للبلد (محمود خميس)، وقال ثالث إن التفويض يعد تعبيرا عن الثقة فى حكمة الرئيس مبارك (مفيد شهاب) ويبعث برسالة تحية إلى قائد ديمقراطية مصر الحديثة (أحمد عز). أضاف خامس أننا نسلم للرئيس أرواحنا، فلماذا نعترض على تسلمه لكمية من الحديد؟ (العمدة أبوالحسن). لم يتطرق أحد إلى موضوع عمولات السلاح ربما اطمئنانا إلى مصيرها، لكن أصوات المعترضين ضاعت وسط الهرج السائد، خصوصا قول أحدهم إننا نشترى السلاح من نفس البلد الذى يبيع لإسرائيل والادعاء بالحاجة إلى السرية باطل من أساسه (محمد شردى)، وقال آخر إننا لم نعرف بالضبط ما إذا كنا فى حالة حرب أم سلم، أيام غزة قالت الحكومة إن مصر فى حالة سلم، والآن تقولون إننا فى خطر وفى حالة حرب (سعد عبود). انتهت الجلسة بموافقة الأغلبية على التفويض، الأمر الذى أعاد إلى ذهنى كلام مارك توين، فتساءلت هل هناك سخرية يمكن أن تعطى ذلك المشهد حقه؟ الشرق القطرية التاريخ النشر:يوم السبت ,28 مارس 2009