الأزمة المالية العالمية ليست حدثا صغيرا وعابرا بل هي حالة يقدر لها أن تدوم لفترة لا تقل عن 3 سنوات مقبلة حسب أغلب الخبراء. هذا الوضع وضع كل الدول أمام حقيقة لم تعايشها منذ أزمة 29-30 الشهيرة تقريبا مما استوجب اعتماد خيارات وسياسات أزمة الكثير منها يتناقض إيديولوجيا مع الخيارات الأساسية للدول. بل إن خبراء صندوق النقد الدولي والبنك العالمي طرحوا بدائل خاصة بالنسبة للدول النامية كانت قبل فترة محرمة مثل موضوع الشراكة بين القطاع الخاص والقطاع العام وضرورة وجود قطاع عام منتج ومتماسك و الدعوة إلى قيام تكتلات اقتصادية ونقدية إقليمية مثل دول المغرب العربي. في مقابل هذا لا نرى الحكومة التونسية تراجع خيارتها أو على الأقل تؤجلها إلى غاية انجلاء غيوم الأزمة خاصّة وأنّ تأثر الوضع الاقتصادي بهذه الأزمة بدا واضحا في الفترة الأخيرة من خلال تراجع الاستثمار الخارجي وتدنّي نسبة الصّادرات وتأجيل عدّة مشاريع إستثمارية عربية كبرى و مازال الخطاب عن العولمة وفضلها وايجابية الانخراط فيها هو الخطاب السائد وكذلك مواصلة التفويت فيما بقي من مؤسسات القطاع العام وأيضا الخيارات النقدية التي سبق وان تناولناها بالدرس والتحليل في مقال سابق ثلاث قرارات أقدمت عليها الحكومة مؤخرا شدت اهتمامنا ونعتبر أن أثرها الاقتصادي مهم: 1- تخلي الحكومة عن اعتماد التوقيت الصيفي : لقد قررت الحكومة التخلي عن اعتماد التوقيت الصيفي وبررت قرارها بتزامنه مع شهر رمضان المبارك ومتجاهلة بذلك ما قد يوفره تغيير الساعة من اقتصاد في الطاقة. لقد استمعنا وخاصة في السنة الفارطة لخطاب رسمي يمجد اعتماد التوقيت الصيفي ويؤكد انه يساهم في اقتصاد هام في الطاقة رغم انه تزامن أيضا مع شهر رمضان ولا نعرف كيف تتخلى الحكومة في هذا الظرف الحساس عن مكاسب في مجال الطاقة حتى لو عمدت إلى إلغاء العمل بالتوقيت الصيفي خلال شهر رمضان فقط. ليس لدينا من تفسير إلا أحد الاثنين إما أن التوقيت الصيفي لا يمكن من اقتصاد في الطاقة وهذا يتناقض مع ما تعودنا على سماعه وفي هذه الحالة يستوجب سياسيا وأخلاقيا مساءلة من كان وراء الدراسات والأرقام والمعطيات إن تأكد خطؤهاا أو أن هناك أمورا مسكوتا عنها وفي هذه الحال كان على الحكومة البحث عن مبرر أكثر إقناعا لان شهر رمضان المبارك سيلازمنا بإذن الله في الفترة الصيفية لمدة لا تقل عن 10 سنوات مقبلة مما يعني التخلي نهائيا عن مسالة التوقيت الصيفي 2- مسألة تقويم الدينار: المتتبع لقيمة الدينار مقابل العملات الرئيسية مثل الدولار والاورو يلاحظ التراجع المستمر لقيمته رغم تدني قيمة الدولار أمام العملة الأوروبية أو العكس بالعكس. لقد تعلمنا على مقاعد الدراسة أن العملة في شكل من أشكالها تترجم حالة الوضع الاقتصادي فبقدر تماسك الوضع الاقتصادي تتماسك العملة وبقدر تراجعه لا تستطيع العملة الصمود. طبعا هناك عوامل أخرى عديدة فاعلة في هذا المجال مثل العامل الخارجي وتعويم العملة وغيرها. الحكومة تصر على سلامة النهج الاقتصادي وعلى ما تحقق من مكاسب وتصر على تماسك الوضع الاقتصادي الذي تمكن من بناء قاعدة تضمن له الصمود أمام ألازمة. غير أنّنا نفهم أن تراجع قيمة صرف الدينار أمام الدولار "1.4 " واليورو"1.9" في الفترة الأخيرة يترجم في تصورنا عكس هذا الخطاب وهو نتيجة سياسة معتمدة منذ مدة تسمح بما يسمى بالانزلاق أي تخفيض غير رسمي أو غير معلن لقيمة الدينار. قد يبرر البعض هذا الإجراء الآن بموضوع التجارة الخارجية وخاصة في مجال قطاعات المزاحمة الشديدة مع بعض الدول مثل المغرب ومصر وغيرها غير أنهم يتناسون أو ينسون اثر هذا الإجراء على الأسعار الداخلية بالنسبة للمواد المستهلكة أو بالنسبة للمواد الأولية أو الشبة مصنعة المستوردة من الخارج وهو على حد ما تعلمناه مسار تضخمي بامتياز. البعض قد يبرر ذلك بموضوع السياحة الذي يمر بصعوبات نتيجة الأزمة وإذا كان ذلك كذلك فإننا لا نتصور أن أهل القرار يغيب عنهم أن الغالبية العظمى من السياح الوافدين يدفعون ما عليهم بالعملة الصّعبة وفي بلادهم ولا يعنيهم الدينار كثيرا وما ينفقونه في تونس قليل جدا كما إننا لا نرى فائدة تذكر لهم إذا تراجع الدينار وارتفعت الأسعار. 3-إصدار ورقة نقدية بقيمة 50 دينارا أعلن البنك المركزي التونسي عن قراره إصدار ورقة نقدية جديدة بقيمة 50 دينارا كما يبدوان قطعة نقدية بقيمة 10 دنانير في طريقها للصدور والتداول إن لم تكن قد صدرت بعد. أحد أصدقائي من أهل الاختصاص أرجع إصدار هذه الورقة إلى مبررات ثلاث - خمسينية البنك المركزي والحاجة للاحتفال. - لا توجد دولة في العالم غير تونس تعتمد ورقة بقيمة 30 دينارا وهي فرصة للتخلص منها باعتبارها كانت حلا شبه مغلوط. - تسهيل التداول و تخفيض كلفته من خلال طبع العملة الجديدة وحملها وتداولها. قد تكون هذه المبررات صحيحة ولو جزئيا ولكن الفهم العام والشعبي لهذا الإجراء مرتبط بغلاء المعيشة وتدني القدرة الشرائية و تدني القدرة الشرائية للعملة وهي أيضا ظاهرة على حد علمنا تضخمية بامتياز. وهنا لا نفهم كيف تستطيع الحكومة التحكم في نسبة التضخم في حدود 3 في المائة وتضطر لإصدار ورقة نقدية عالية القيمة حتى لا يجبر المواطن على حمل كم كبير من الورقات النقدية لقضاء حاجته والاكتفاء بعدد اقل من هذه الورقات وهو وضع لا تفسير له غير ارتفاع متطلبات العيش أي غلاء المعيشة. هناك بالتأكيد أشياء أحرى عديدة تدل إذا تناولناها بالدرس والتمحيص على شيء من الاضطراب والتناقض بين خطاب الحكومة وبين ما تطبقه على الأرض والوضع السليم يتطلب حدا اكبر من الشفافية في التعامل مع المواطنين الذين يريدون تجاوز عقلية الرعايا ليكونوا شركاء وأصحاب قرار. إن المرحلة التي نمر بها حساسة وندرك جيدا ما تحاول الحكومة القيام به والتزامها بالحفاظ على التوازن العام والسلم الاجتماعي ولكن تحمّل المجموعة الوطنية آثار المرحلة لا يكون إلا من خلال اطلاعها على الأمور بشكل شفاف ودقيق بعيدا عن الخطاب الانتصاري أو الدعائي وبعيدا عن الإجراءات غير المدروسة بعمق وموضوعية. صحيفة الوطن التونسية المصدر بريد الفجرنيوز