شهدت شوارع العاصمة يومي 8و9 أفريل 1938 انتفاضة وطنية ضد سلطة الاستعمار الفرنسي رفع خلالها الوطنيون الأحرار شعار المطالبة ببرلمان تونسي اختزالا لرغبة الشعب في الحرية والاستقلال والسيادة على أرضه وخيراتها وتعبيرا عن شعور بانتماء مغاير لسياسات التنصير والفرنسة والتغريب. وقد مثلت تلك الانتفاضة وعيا وطنيا مبكرا بأهمية المؤسسة البرلمانية في تجسيدها لروح الاستقلال والسيادة والتعبير عن طموح الشعب واعتزازه ببناء مصيره ومستقبله وهو طموح عبرت عنه مبكرا كوكبة من المصلحين والمفكرين من رجال النهضة العربية في تونس وفي بلاد العروبة بصفة عامة,وما كان لهذا الطموح أن يكبر وينمو ويتجسّد كهدف وشعار تسعى لأجله قيادات الحركة الوطنية ويجد أوّل تنزيل له في اجتماعات المجلس التأسيسي يوم 8 أفريل 1956 لولا تضحيات ومجاهدات أجيال من الوطنيين المخلصين الذين وضعوا المصلحة الوطنية فوق كل مصلحة واعتصموا في كفاحهم ونضالهم السّياسي بتاريخ شعبهم وقيمه وحضارته مستفيدين بما تلقوه من علوم قانونية وسياسية و دعم خارجي في المشرق والمغرب. ولعل أقدس ما يذكره تاريخ البلاد عن تلك المرحلة صور الشهداء و المناضلين ممن ماتوا لنحيا وسجنوا لننعم بالحرية وركبوا الصّعاب ليسهّلوا عيشنا وعبّدوا لنا الطريق لنواصل المشوار أوفياء لدمائهم وتضحياتهم ومركزية شعاراتهم في " الاستقلال التام أو الموت الزؤام"و" برلمان تونسي". ونحن نقف عند ذكرى هؤلاء الرّواد لا يمكننا إلا أن نجدّد ولاءنا ووفاءنا لدمائهم وتضحياتهم وتمسّكنا بالمبادئ التي أعلنوها مشروعا لمستقبل تونس حتى يحيا شعبها حرّا مستقلّا متأصّلا في تاريخه وحضارته مستفيدا من كل تيّارات الفكر والحضارة والإبداع حوله كما لا يمكننا إلا أن نربّي الأجيال على أن الشّهداء إنّما هم رموز لكلّ معاني الخير و العطاء والوطنيّة الصّادقة التي تعطي ولا تأخذ تنتج ولا تستهلك توحّد ولا تفرّق تتقدّم عند التضحية وتعفّ عند المغانم فتمثّل بكل ذلك جوهر المشروع الوطني الأصيل بل جوهر الوجود الإنساني كما نصّت عليه الدّيانات السماوية واختزنته ملاحم الشّعوب عبر التاريخ. وفي ذكرى الشّهداء,لا يسعنا أيضا إلا أن نعمل وندعو لتأصيل مبادئهم وصيانة إنجازاتهم وتثبيت مشروعهم المقاوم للاستعمار والتخلّف و التبعيّة صونا لمكاسب أجيال ونهوضا بطموحات أجيال وأجيال. وإذا كان جيل الشهداء والمقاومين الرّواد قد كسب معركة التحرّر السّياسي وبناء مؤسّسات الدّولة الوطنية الحديثة وجعل مستقبل البلاد بين يدي أبنائها فإنّ تجربة أكثر من نصف قرن من الحكم الوطني مع ما صاحب التجربة من تجاذبات التّأسيس وتحدّيات المسار داخليّا وخارجيّا وإن كانت قد حقّقت قدرا عاليا من طموحات الشهداء في الاستقلال والتنمية والحياة المادّية الكريمة لجموع النّاس إلّا أنّ ارتباطها التاريخي بفكر وفكرة الزّعيم الأوحد والحزب الواحد أيّام الرئيس السابق الحبيب بورقيبة قد ألحق ضررا بالغا بجوهر المشروع الوطني من حيث عجز عن الارتقاء بفكرة النظام الجمهوري من مستوى الخيار الدّستوري إلى مستوى التّنزيل السياسي الواقعي في شرايين الدولة ومؤسّساتها واستحال على الدولة أن ترتقي بالشّعب من مستنقع الرعيّة إلى فضاءات المواطنة أو أن ترتقي بمؤسسة رئاسة الجمهوريّة من شموليّة الحكم الملكي للبايات إلى ديموقراطية الحكم الجمهوري ممّا قاد إلى نهج في الحكم تراكمت أخطاؤه وخطاياه ولم تسعفه نجاحاته التنموية في تفادي استحقاقات المواطنة والديمقراطية بل لم تمنعه من مواجهة عدد من الانتفاضات ذات البعد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الشيء الذي استوجب تغييرا حتميّا في نهاية الثمانينات مع حركة السّابع من نوفمبر1987 والتي حمل بيانها مشروعا إصلاحيا متكاملا يؤسّس لمسار من المعالجات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويضع حدّا لوضع لا تاريخي يمثّل عبءا على مجمل البناء الوطني ويفتح أمام الشعب أبواب الأمل والعمل للمشاركة في صنع المستقبل الذي ضحّى من أجله الشهداء والمناضلون. ولعلّ تراكمات المسار الإصلاحي الذي بدأ في السّابع من نوفمبر على المستويين التشريعي والممارسة إلى جانب تحدّيات الواقع الدولي والإقليمي وتنامي الانتظار الديمقراطي تمثّل كلّها دعوة للتقدّم أكثر نحو تحقيق حلم الشهداء وأجيال المصلحين والمقاومين من شتى المشارب الفكرية والسياسية في أن يروا البلاد تحتفل باكتمال مشروع سيادتها في تثبيت دعائم النظام الجمهوري وتأصيل كيانها الحضاري والثّقافي و التعليمي وتطوير جهدها الاقتصادي وتنمية دورها الأصيل مغاربيا وعربيا وإسلاميا و تبقى مسؤولية الحكومة والأحزاب السياسية والنخب الثقافية في مؤسّساتها الأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني المسؤول الأول عن تحقيق حلم الشهداء وطموحات أحفادهم من الأجيال الحاضرة واللاحقة .