فرنسا: إصابة فتاتين في عملية طعن أمام مدرسة شرقي البلاد    الأندية المتأهلة إلى نصف نهائي الدوري الأوروبي    سلطنة عمان: ارتفاع عدد الوفيات جراء الطقس السيء إلى 21 حالة    اللجان الدائمة بالبرلمان العربي تناقش جملة من المواضيع تحضيرا للجلسة العامة الثالثة للبرلمان    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    تم جلبها من الموقع الأثري بسبيطلة: عرض قطع أثرية لأول مرّة في متحف الجهة    دعوة إلى مراجعة اليات التمويل    خلال الثلاثي الأول من 2024 .. ارتفاع عدد المشاريع الاستثمارية المصرّح بها    جوهر لعذار يؤكدّ : النادي الصفاقسي يستأنف قرار الرابطة بخصوص الويكلو    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    عاجل/ بعد "أمير كتيبة أجناد الخلافة": القبض على إرهابي ثاني بجبال القصرين    ارتفاع عائدات صادرات زيت الزيتون بنسبة 82.7 بالمائة    عاجل/ هيئة الدفاع عن الموقوفين السياسيين: اللّيلة تنقضي مدّة الإيقاف التحفّظي    وزير الدّاخليّة يشرف على موكب إحياء الذكرى 68 لعيد قوّات الأمن الدّاخلي    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    توزر.. افتتاح الاحتفال الجهوي لشهر التراث بدار الثقافة حامة الجريد    سوسة: الاستعداد لتنظيم الدورة 61 لمهرجان استعراض أوسو    نقابة الصحفيين التونسيين تُدين الحكم بالسجن في حق بُوغلاب    أنس جابر خارج دورة شتوتغارت للتنس    طبربة: إيقاف 3 أشخاص يشتبه في ترويجهم لمواد مخدرة في صفوف الشباب والتلاميذ    تخصيص حافلة لتأمين النقل إلى معرض الكتاب: توقيت السفرات والتعريفة    سيدي بوزيد.. تتويج اعدادية المزونة في الملتقى الجهوي للمسرح    الرصد الجوّي يُحذّر من رياح قويّة    عاجل/ محاولة تلميذ طعن أستاذه داخل القسم: وزارة الطفولة تتدخّل    محمود قصيعة لإدارة مباراة الكأس بين النادي الصفاقسي ومستقبل المرسى    بعد حلقة "الوحش بروماكس": مختار التليلي يواجه القضاء    عاجل : هجوم بسكين على تلميذتين في فرنسا    كأس تونس لكرة القدم: تعيينات حكام مقابلات الدور السادس عشر    جلسة عمل مع وفد من البنك الإفريقي    حملات توعوية بالمؤسسات التربوية حول الاقتصاد في الماء    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    انخفاض متوسط في هطول الأمطار في تونس بنسبة 20 بالمئة في هذه الفترة    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    عاجل/ فاجعة جديدة تهز هذه المنطقة: يحيل زوجته على الانعاش ثم ينتحر..    أبطال أوروبا: تعيينات مواجهات الدور نصف النهائي    عاجل/ تلميذ يطعن أستاذه من خلف أثناء الدرس..    بوركينا فاسو تطرد 3 دبلوماسيين فرنسيين لهذه الأسباب    عاجل : نفاد تذاكر مباراة الترجي وماميلودي صانداونز    هام/ تطوّرات حالة الطقس خلال الأيام القادمة..#خبر_عاجل    اجتماعات ربيع 2024: الوفد التونسي يلتقي بمجموعة من مسؤولي المؤسسات المالية الدولية    قيس سعيد : ''تونس لن تكون أبدا مقرا ولا معبرا للذين يتوافدون عليها خارج''    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    الحماية المدنية: 9 حالات وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    في انتظار قانون يحدد المهام والصلاحيات.. غدا أولى جلسات مجلس الجهات والأقاليم    ضربة إسرائيل الانتقامية لايران لن تتم قبل هذا الموعد..    زلزال بقوة 6,6 درجات بضرب غربي اليابان    عاجل/ هذه الدولة تحذر من "تسونامي"..    سيدي بوزيد: حجز مواد غذائية من اجل الاحتكار والمضاربة بمعتمدية الرقاب    مصر: رياح الخماسين تجتاح البلاد محملة بالذباب الصحراوي..    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    توزر: المؤسسات الاستشفائية بالجهة تسجّل حالات إسهال معوي فيروسي خلال الفترة الأخيرة (المدير الجهوي للصحة)    الكاف: تلقيح اكثر من 80 بالمائة من الأبقار و25 بالمائة من المجترات ضد الأمراض المعدية (دائرة الإنتاج الحيواني)    "سينما تدور": اطلاق أول تجربة للسينما المتجولة في تونس    وزير الصحة يعاين ظروف سير العمل بالمستشفى الجهوي بباجة    جراحة فريدة في الأردن.. فتحوا رأسه وهو يهاتف عائلته    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سقوط الإسلاموية 3/6: حسن الطرابلسي

تتبع الجزء الأزل من البحث التحديد المفهومي لمصطلح الإسلاموية ، ثم حوالنا في الجزء الثاني تتبع هذه الظاهرة تاريخيا منذ عصر النهضة مرورا بالتجربة الإخوانية وتجربة الحركات الوطنية القطرية إبان الحقبة الإستعمارية واليوم نتعرض بالبحث والتفصيل لظاهرة الإسلاموية في التفكير السلفي.
السلفية : الإسلاموية ونهاية التاريخ
ليس من السهل على الباحث الخروج برأي متكامل حول التيار السلفي دون أن يصطدم بجملة من العوائق والإشكاليات التي يمكن أيجازها في النقاط التالية:
تواجهنا الصعوبة الأولى في المفهوم نفسه، فمصطلح السلفية يتخذ دلالات وأبعاد واسعة، ويخضع هذا المفهوم في تحديده لطبيعة الباحث وموقفه من التيار الإسلامي ككل، فهناك من يعتبر أن الصحوة الإسلامية كلها تيار سلفي. وتحيلنا هذه الصعوبة إلى موقفين متضاربين:
الأول أننا إذا نظرنا إلى السلفية من جهة أنها تعني العودة إلى الأصول الإسلامية واتباع سنة وسيرة السلف، تصبح السلفية بهذا المعنى مرحلة زمنية مباركة، كما أشار إلى ذلك الدكتور البوطي1، ويصبح الفكر الإسلامي كله فكر سلفي.
الثاني إذا نظرنا إلى السلفية في تطورها التاريخي وتفصيلاته وما فيه من ثراء يصبح الفكر السلفي، تيارا ضمن تيارات الفكر الإسلامي2، إلا أنه منذ نهاية الستينات تشعب وانفتح حتى الإنشطار والتشظي وأدى إلى ظهور جماعات وشخصيات متعددة متضاربة بل متناقضة.
هذا التشظي الذي أشرنا إليه يجعل هذا التيار واسع الإنتشار ولكنّه غير متجانس، على عكس التيارات والأحزاب الإسلامية الأخرى، سواء كانت تتمثل في حزب سياسي قطري أو في تيار إسلامي عام كالإخوان المسلمين، إلا أنها ترتبط فيما بينها بتصور واضح يجمع بين ممثليها. في حين أن التيار السلفي أقرب منه إلى التيار الواسع والعام ولكنه في نفس الوقت غير متجانس وغير موحد في رؤيته ومواقفه فلا يوجد رابط يجمع بينهم سوى تكفير الآخر ونفيه. وترسيخ الإسلاموية في أعتى صورها.
تواجد مجموعات عديدة، تتحدّث كلها باسم السلفية، منها ما هو أصيل ومنها ما هو زائف لا أصالة فيه، فيمكن أن يظهر شخص معين يجمع حوله أنصارا ويؤسس لفكره “السلفي” ويكفر الآخرين كما هو الحال مع أيمن الظواهري.
ينتج عن العائق السابق أن هذا التيار يكون أحيانا هامشيا، أي لا علميا، وغير متجانس إذ أنّ قطاعا مهما من ممثّليه شباب أغلبهم في العشرينات ولكنهم يتصدرون للفتوى بلا فقه، ويدعون للجهاد بلا أولويات ، ويبشرون بإسلام بلا روح. ولهذا فإن شباب هذا التيار يتعاطفون مع القاعدة ويهللون للتفجيرات في ديار الإسلام أو في الغرب وأمريكا وينتقدون حماس3 ويكفرون الإخوان المسلمين، ويتهمون الفكر الوهابي بالعمالة، فيصدق فيهم وصف الشيخ الغزالي، رحمه الله، بقوله: “إن الدعوة الإسلامية تحصد الشوك من أناس قليلي الفقه، كثيروا النشاط، ينطلقون بعقولهم الكلية، يسيئون ولا يحسنون” 4
عدم التخصص سواء العلمي5 أو الشرعي أساسا سمة بارزة للعديد ممن يحسبون على هذا التيار، وهذا ما نجده أساسا في الأشرطة المسموعة والخطب المتداولة التي تأكد ضعف علمية هؤلاء.
تذبذب في المرجعية، فلئن مثلت السلفية السعودية مدرسة واضحة المعالم والرموز الفكريين تعود تاريخيا إلى الإمام أحمد بن حنبل (164241 ه/780855 م) لتتواصل خاصة مع الإمام محمد بن عبد الوهاب (11151206 ه/17031792 م) ثم الشيخ ابن باز وا لشيخ العثيمين، رحمهما الله، وغيرهما إلا أنّ العديد من ممثليه خاصة في الغرب لا يمتلكون أية مرجعية ولا أية ضوابط فكرية، رغم إدعاء الكثير منهم العودة إلى فكر ابن تيمية (661728 ه/12631328 م) وتلميذه ابن قيم الجوزية (691751 ه/12921350م)
التركيز على القشور والمظاهر الخارجية للإسلام، كإعفاء اللحية، ولبس الجلباب الأبيض والسروال القصير، وحلق الشارب وفي بعض الحالات حلق شعر الرأس، واستعمال عطورات المسك وما شابهها والتسوك المبالغ فيه مما يجعل الباحث الإجتماعي ينظر إليهم على أنهم شكل من أشكال الثقافات المتعالية التي تعيش بالتوازي مع المجتمع.
هذه الأسباب وغيرها تجعل دراسة هذا التيار صعبة خاصة وأنه يسير على الحدود مع الإسلاموية فهو في اللحظة التي يدعي فيها تملك حق الكلام باسم الإسلام ونفي المخالفين يسقط في الإسلاموية، وفي هذا الإطار تتنزّل العديد من الأشرطة والكتب التي توزع مجانا في أوروبا والتي تنشر فكر النفي وتقصي الآخر ولو كان إسلاميا وهو ما أتمنى أن تراجعه الدول التي توزّع هذه الكتيبات والأشرطة.
هذه الصعوبات جعلت بعض الإستعمالات لمفهوم السلفية تعمم لتعطي نسخة سلبية تهدف من ورائها إلى إبراز موقفها من الإسلام كما يفعل غلاة اليسار في تونس فيتحوّل الحديث عن السلفية كما يصف الجورشي بدقة إلى “غطاء اصطلاحيّ لتمرير النقد الموجه لبنية التصوّر الديني”6
ولو حاولنا الآن تلمس الإشكالية رويدا رويدا لوجدنا أن الجماعات السلفية نشطت وتكاثرت في نهاية الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي، إثر هزيمة حرب حزيران 1967 وما نجم عنها من تداعيات إجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، ولا سيما حالة الإحباط التي غذت الايديولوجيا التقليدية وزادتها قوة ونفوذا، إضافة إلى تراجع تيار الوسطية الإسلامية الذي انهمك في واقعه الداخلي من أجل إعادة بنائه ولملمة صفه بعد الحقبة الناصرية، كما رأينا مع الإخوان المسلمين.
إلى جانب اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979 وما أعقبها من أحداث سمتها الأساسية خيبة الأمل في الرسمية العربية انتهت باغتيال أنور السادات، ومحاصرة “الإسلام السياسي” ومتابعة ناشطيه.
وبالتوازي مع ذلك ساهم الفكر السلفي الحنبلي في نسخته الوهابية بشكل كبير في انتشار هذا التيار، وقد ساعدته الثروة النفطية على تصدير ونشر فكره بشكل كبير.
إضافة إلى جملة من العوامل الخارجية كإحتلال أفغانستان والدعم المتزايد للكيان الصهيوني، وحرب العراق الأولى والثانية وما خلفته من دمار وخيبة أمل. ثم أخيرا فشل المشروع الديمقراطي الجزائري بعد سنة 1991.
ورغم هذا التحديد السريع لتوسع التيار السلفي ثم انتشاره فإنّ تداخل عناصره وتشعب مكوناته وتناقض ممثليه يعيدنا دائما إلى طرح السؤال الحي والمبدع: كيف يمكن ان نفهم هذا التيار؟ ونميز بين غثه وسمينه، بين صالحه وطالحه؟
النظرة العابرة إلى ممثلي التيار السلفي تجد أنهم موزّعون علميا من العالم النحرير إلى الجاهل الشرير، وعمريا من الشيخ الخبير إلى الشاب الطائش الصغير، وهم جغرافيا موزعون في كلّ أنحاء العالم، في شكل مؤسسات وخلايا ومساجد وأفراد، ولئن اشتهر تقليديا بأن السعودية وأساسا فكر محمد بن عبد الوهاب هو المحضن الأساسي للفكر السلفي إلاّ أن هذا التصوّر يحمل في طياته الكثير من التعسف على الفكر الوهابي وعلى المملكة العربية السعودية لأن العديد من السلفيين لا يتخذون السلفية الوهابية مرجعية.
ولئن يرجع آخرون الفكر السلفي إلى الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، والذي نشره ودافع عنه أساسا الإمام بن تيمية وتلاميذه ابن قيم الجوزية والإمام الذهبي وغيرهم، فإن من الثابت ان الخروج بوحدة نظرية وبتصوّر واضح “للعقل السلفي” إذا جاز هذا التعبير، ليست بالأمر الهين لأن الوضعية الحالية لهذا التيار يكتنفها الكثير من الغموض.ومن ثمة فلا بد أن يستعد القارئ إلى مجموعة من المفارقات التي سنثيرها في هذا البحث عساها تكشف بعض الحجب عن علاقة هذا التيار بالإسلاموية.
يحتوي الفكر السلفي نوعا من “الإشتباه” كما يقول حسن حنفي، والإشتباه يعني عنده “توتّرا بين قطبين، كلاهما صحيح، تناقضا بين طرفين، كلاهما ضروري. ودون هذا التوتر في الوتر المشدود لا يصدر نغم ولا يسمع لحن”7 “ولا يدل الإشتباه ، عند حنفي، على أي نقص في الوضوح الفكري أو أي تردد في الموقف العلمي، بل كلّما كان الإشتباه قويّا كان الفكر أخصب وأعمق، وكلّما كان التوتّر حادّا كان الصوت أعلى”، “ولذلك لا يوجد في الإشتباه صواب أو خطأ، حق أو باطل، صحيح أو فاسد. فكلا الطرفين، وكلا القطبين صواب، إنّما يكون الميل لأحد القطبين أكثر من الآخر، والإنحياز إلى أحد الطرفين طبقا للتربية والمزاج وتقدير الموقف”8
ولئن طبق حنفي منهجه على الفكر الرشدي، إلا انه يمكن تطبيقه على الفكر السلفي لثرائه ولتعدده وتشعبه وإمكانية قراءته قراءات قد تصل إلى التناقض أحيانا.
وأحيانا يكون الفكر السلفي لا تاريخيا، إذا أمسك بالقشور وركز على النصوص وقدّم نفسه، على أنه المتحدّث باسم الإسلام والمدافع عن حياضه. هذه اللاتاريخية التي تظهرعند الشباب خاصة، هي موقف نفي للآخر قد يعمد إلى العمل من أجل القضاء عليه. وهو ما يؤدي ليس فقط إلى الإسلاموية وإنما إلى العنف والإرهاب.
ويمكن أن نجمل إشكالية هذا التيار في مجموعة من المتاضدات كالتالي:
جمود أو سيرورة
أول مظاهر الإشكال السلفي نجدها في مصطلح “السلفية” نفسه. فالعودة إلى المعاجم تحيلنا إلى شحنة مليئة بالإيحاءات الإيجابية لأنها تصب في اتجاه أساسي مفاده العودة إلى الإسلام الأصيل أن ما سلف هو ذلك المأمول في الوصول إليه، وبلوغه هو غاية المرام، فهو التاريخ “النقي” الذي تطمح النفس في العودة إليه. فالسلفية تغدو بهذا المعنى نوعا من أنواع التصالح مع التاريخ، والعودة إليه لا لتبقى فيه بل لتمتلكه كقوة تعيش به في الحاضر وتسير به إلى المستقبل. فيغدوا التاريخ هو البعد “الخلاق” بلغة برغسون9 أو هو القوة التي تمتلكها الأنا لتعيش بها في الحاضر كما اعتبره لويس لافال10.
ولكن العودة إلى التاريخ تستبطن بعدا مسكوتا عنه وهو أن هذه العودة هي عودة إلى الطهر، إلى النقاء والصفاء، هي عودة إلى الكمال اعتماد على الأثر المشهور “خير أمتي القرن الذي أنا فيه “ (رواه مسلم وأبو داود والإمام أحمد) ولا شك أن هذه القراءة تضفي على التاريخ بعدا قدسيا يصعب بعده التعامل معه تعاملا حواريا لأنه أصبح قوة هيمنت على الحاضر وألغته، فلم تكن قوّة تعين على فهمه لبناء المستقبل بل أصبح قوة تكبل الحاضر وتعيق بناءه، فتصبح الأمة “تستفتي الأموات في كلّ شؤون الحياة” كما يقول الدكتور عمارة11. ويصبح التاريخ طبقا لهذا الفهم عود إلى الوراء لا سيرورة نحو الأمام وهو ما يتعارض ما طبيعة الأشياء ومع طبيعة الخطاب القرآني الذي من أهم سماته الإنفتاح على المستقبل، وما تعظيم المسلم للتاريخ إلا لأنه شهد لحظة التأسيس التي كانت مع نزول الوحي وإعلان بناء الإنسان، باعتباره التاريخ كما يقول السخاوي.12
ومن خطر هذا التفسير الإنحداري للتاريخ أنه يرفض كل الجهد الذي بذل في تاريخ الفكر الإسلامي فينفى المعتزلة والفلاسفة وأيضا الأشاعرة لأنهم كلّهم أعتمدوا الرأي والقياس وأولوا النصوص ورفضوا الأخذ بالنص الضعيف. وطبقا لهذا الفهم يصبح “ الزمان ، كما يقول حنفي، تناقص تدريجي من الأكثر كمالا إلى الأقل كمالا، فإذا ما نشأت حركة إصلاح فإنّها لا بد أن تكون سلفية بالضرورة”13 أي نافية لما بذل من جهد في التاريخ وبالتالي نافية لهذا التاريخ. ولهذا فإن حامل هذا الفكر يكره الأشعري أكثر من كرهه لجورش بوش.14
وفي هذا المستوى تعلن هذه القراءة نهاية التاريخ وانغلاقه في الماضي، ولكن حامل هذا الفكر إذا نظر إلى واقعه وجد حقيقة مغايرة لهذا الفهم وهي أن التاريخ لم ينته، بل إن موقعه في هذا التاريخ هو المشكوك فيه، لأن هذا الواقع المحيط به لم يصنعه ولم يساهم في صنعه بل هو مفعول به فيه، وإذا علمنا أن أغلب ممثلي هذا التيار في العقود الأخيرة من القرن الماضي من محدودي الثقافة والتجربة فإنّه ينتفض على هذا الواقع ويكفر به وينفيه وينخرط في إسلاموية مدمّرة تقود عادة إلى العنف والإرهاب.
محاربة البدعة أو إقصاء الآخر
هدفت السلفية مع الإمام أحمد إلى محاربة بدعة خلق القرآن ومن ثمة الدفاع عن الإسلام ضد غلوّ المعتزلة الذين فتنوا المسلمين وأرادوا حملهم بقوة الدولة التي خضعت لهم إلى تبني هذا الإعتقاد، ولكنّ الإمام احمد استطاع ان يقف في وجههم وينادي بأن القرآن “كلام الله” وهو وحييه الذي أنزله على رسوله المصطفى.
كما ان ابن تيمية استطاع أن يقف في وجه البدع التي انتشرت في عصره وحارب مسألة ما سمي بالحيل الفقهية التي راجت حتى أدت إلى نوع من العبث بالفقه وبالتالي أصبحت تهدد العقيدة السليمة. كما نجح محمد بن عبد الوهاب في محاربة البدع ودعوة المسلمين إلى العودة إلى صفاء العقيدة الإسلامية.
ولئن قادت “عملية تطهير العقائد حالة تحرر واتساع النظرة، إذ بالحس الإقصائي ينمو عند بعضهم بشكل فضيع” كما يقول صلاح الدين الجورشي15.أدت حالة الإقصاء هذه إلى نفي الإبداع والإجتهاد وحرمت الآخر، حتى المسلم، من التفكير والإجتهاد وعمقت النفي وبالتالي الإسلاموية.
النص أو الواقع
أكدت السلفية على النصوصية، أي العودة إلى النص، ووضعت لذلك أصولا خمسة لخصها الإمام ابن القيم كالتالي:
الأصل الأول: النصوص، فإذا وجد النص أفتى به، ولم يلتفت إلى من خالفه...
الأصل الثاني: ما أفتى به الصحابة....
الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة تخيّر من أقوالهم ما كان أقرب إلى الكتاب والسنة...
الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف...
الأصل الخامس: القياس للضرورة 16
تعتمد هذه المبادئ على النصوص والمأثورات وتقف عندها، وتنكر استعمال الرأي والقياس، وقد أثر عن الإمام ابن حنبل قوله: “إياك أن تتكلّم في مسألة ليس لك فيها إمام” أي نص.
أدى هذا النهج النصوصي الذي اعتمدته السلفية إلى تغييب العقل وقاد بالتالي إلى فهم مشوّه للواقع لا يحقق في أفضل الحالات المناط في الفتوى. إذ قد يكون نص الفتوى صحيحا ولكنه لا ينسجم مع الواقع، مثل فتوى التواجد الأمريكي في السعودية أو غريبا مثل تحريم سياقة النساء للسيارات بدون محرم أو ما شاع مؤخرا أن أحد العلماء أفتى بعدم شرعية السجدة التي يقوم بها لاعبوا كرة القدم بعد تسجيل هدف ، وكلّ هذه الفتاوى تدل على أن النص، في هذا الفهم، متعال كثير على الواقع ولا يستجيب له.
ولذلك ساهم الفهم النصوصي في خلق الكثير من المتنطّعين الذين فتحوا كتب أهل الحديث واستمدوا منها أحكاما إقصائية، تخريبية وعنيفة وجعلت التيار السلفي أهم المغذين للإسلاموية.
سماحة أم تعصب
قامت دعوة الإسلام على الجدال بالتي هي أحسن “ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”
وإلى اعتماد منهج يجعل الحقيقة هدفا ومقصدا يطمح الناس إلى الوصول إليه عبر الحوار الموضوعي “وإنَّا أّوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِين” (سبأ، 24) ولكن أدت القراءة السلفية للواقع إلى نوع من التفسير الشمولي والعام للظاهرات والأحداث دون الغوص فيها، فغدى المعارض للقراءة السلفية، خاصة عند الشباب، معارض للإسلام ككل وهو ما قاد إلى تعميق روح التناقض والصراع مع الواقع، فالحكومات كلها كافرة ولا خير فيها، والغرب كله صليبي معاد للإسلام ومساند للصهيونية وأن كل علماني كافر وعدوّ للإسلام. إلا أن الواقع يشهد في أكثر من حالة بغير ذلك حيث يمكن للتيار الإسلامي أن يكون له أصدقاء علمانيون أو حتى شيوعيون .
كما أن نظرية عداء الغرب للإسلام من المسلّمات التي يجب مراجعتها، خاصّة أنّ السياسة الدولية قائمة على المصالح، فهي براغماتية بالأساس ولئن شكل البعد الحضاري أحيانا دورا معينا فهو في أحيان أخرى كثيرة يكون هامشيا.ولقد سمحت لي إقامتي في الغرب وزيارة عدد من بلدانه والحوار مع العديد من نخبه الثقافية والسياسية والمساهمة مع العديد من مؤسسات المجتمع المدني في نشاطات عدة أن الإطلاقية السلفية لا يمكن أن تصدق على الواقع.
صمود أو خذلان
أعتمدنا مصطلح الصمود عوضا عن مصطلح الثورة لتجنب الإيحاء العنفي لمصطلح الثورة ولنحافظ على القيمة الحضارية والتاريخية لما قام به بعض رموز الفكر السلفي وعلى رأسهم الإمام أحمد الذي صمد في محنة خلق القرآن رغم التعذيب الأليم والفتن التي تعرّض لها ورفض أن يكون كلام الله مخلوقا ونادى بأعلى صوته أن القرآن الكريم كلام الله أوحاه على نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم. كما أن ابن تيمية صمد ضد طغيان السلطان بل استشهد في السجن من أجل أن يدافع عن حياض الإسلام ودعى الأمة للدفاع عن نفسها ضد التتار، ويروي ابن كثير أنه كان يقاتل ويبشر المسلمين بالنصر. واستطاع ابن عبد الوهاب في بيئته البدوية البسيطة أن يحول دون الإنحرافات العقدية السائدة آنذاك.
كما كانت السلفية في بعدها القطري دعوة إلى تحرر الشعوب من الإستعمار كما هو الحال في السودان وليبيا والجزائر والمغرب وغيرها...
ولا شك أن هذه الجهود داخل الفكر السلفي ساهمت في الدفاع عن حياض الإسلام، ولكننا على الجانب الآخر نجد إشكالا في مبادئ السلفية نفسها يبعدها عن هذا الجانب “الثوري” ويحيلها إلى تيار يحارب العقل والإبداع. ويخضع بل يركن ويصدر فتاوى تبرر ظلم وطغيان السلطة ويتحالف معها لضرب التيار الإسلامي والوطني.
وهكذا يمكن أن نلخص بعض القضايا والتناقضات التي طرحت حتى نصل إلى النتائج التالية:
1.أدى الفهم النصوصي عند العديد من السلفيين، خاصة المعاصرين، إلى نفي الآخر وتدعيم الإسلاموية.
2.السلفية الوهابية التي كانت تتجه إلى إصلاح العقيدة من البدع والإنحرافات هي نفسها السلفية الوهابية التي أصبحت فتاواها لا تحقق المناط. وهذه حقيقة لا مناص من التهرب منها وهي نفسها قد ساهمت في دفع الإسلاموية وتقويتها.
1.الشباب الذي فقد في أغلب الأقطار العربية والإسلامية المعلّم والشيخ الذي يبصره الطريق، إما بسبب السجن أو محاصرة الصحوة أو بسبب التهجير أو الضغوط الخارجية فقد ملكة الفهم فأخطأ التقدير وأفسد من حيث أراد أن يصلح.
4.لابديل عن الحرية وإعادة الدور للعلم والإجتهاد وفرض الحريات السياسية للخروج من قمقم ضيق الفتوى، ومن ضغط السلطان السياسي.

الهوامش:
1 البوطي، د. محمد سعيد رمضان: السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، دار الفكر
2 عمارة، د. محمد: تيارات الفكر الإسلامي، طبعة دار الشروق الثانية، 1418ه/1997
3 قد تكون أحداث غزة 2008/2009 عاملا في تغيير هذا التيار لموقفه من حماس في المستقبل
4 الشيخ محمد الغزالي، فقه الدعوة، نقلا عن صلاح الدين الجورشي، في التيارات الإسلامية المعاصرة، بحث ضمن كتاب إشكاليات الفكر الإسلامي المعاصر، منشورات مركز دراسات العالم الإسلامي، الطبعة الأولى خريف 1991، ص 224
5 أثناء أدائي لفريضة الحج سنة 2003 بدعوة من خادم الحرمين الشرفين الملك فهد رحمه الله تيسر لي التعرّف على العديد من الطاقات والأساذة الذين قاموا بزيارتنا، في مقر الندوة العالمية للشباب الإسلامي التي أشرفت على المكرمة. وقد تحاور ضيوف خادم الحرمين مع هؤلاء الأساتذة وخرجوا، حسب ما لاحظته وسمعته من تعليقاتهم، بانطباعات إيجابية . وقد ساهمت هذه الزيارة في تعديل الكثير من مواقف كاتب هذا البحث حول الفكر السلفي عموما، والفكر الوهابي خصوصا.
ولكن مع الأسف لا تجد لهؤلاء العلماء الأفاضل أي ذكر خارج المملكة العربية السعودية ، خاصة لدى المهاجرين في أوروبا إذا استثنيا الشيخ سلمان بن فهد العودة المعروف عالميا. أما ما يصل إلى أوروبا والغرب عموما فهي أشرطة في أغلبها ضعيفة المضمون تعيسة المحتوى أو كتيبات عامة تبسيطية.
6 صلاح الدين الجورشي، في التيارات الإسلامية المعاصرة، بحث ضمن كتاب إشكاليات الفكر الإسلامي المعاصر، منشورات مركز دراسات العالم الإسلامي، الطبعة الأولى خريف 1991، ص 204
7 حنفي، الدكتور حسن: الإشتباه في فكر ابن رشد، مجلّة عالم الفكر، المجلّد السابع والعشرون، العدد الرابع، أبريل/يونيو 1999، ص 119
8 حنفي، نفس المصدر، ص 120
9 Bergson, Henri; Zeit und Freiheit, Europ. Verl.-Anstalt, Hamburg 1999
10 Lavelle, Louis; le temps et l´étrenité
11 عمارة، دكتور محمد: الحركات الإسلامية، رؤية نقدية، دار نهضة مصر ، مارس 1998 ص 20
12 السخاوي، شمس الدين محمد بن عبد الرحمان: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، دار الكتاب العربي، بيروت 1403 ه/ 1983، ص 7
13 حسن حنفي، المصدر السابق، ص 127
14 أثناء دراستي الجامعية في ألمانيا أتاني يوما من الأيام طالب عربي ومعه جهاز تسجيل وهو في أشد حالات التأثر والفرح وقال وهو يشرق بابتسامة : لقد عثرت على شريط رائع لأحد الدعاة سوف ينال إعجابك حتما” ولما سألته عن وجه الروعة قال : “إنّ هذا الداعية استطاع أن يثبت بطلان الأشاعرة وهو يسرد شعرا رائعا في هجائهم.” ثم صمت قليلا وأعطاني الجهاز حتى أسمع جزءا من الشريط فإذا بهذا “الداعية” يسرد هجاء للأشِعري وهو يبكي بكاءا حارا، فرددت الجهاز إلى صاحبه الذي أضاف قائلا : “ألا تعلم يا أخي أن هؤلاء الأشاعرة قد ضيعوا الدين”. وكان هذا الطالب جديدا في ألمانيا، لا يزال في السداسي الأول في شعبة علمية.
حسن الطرابلسي ألمانيا 14.04.2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.