يروي مارتن إنديك، السفير الأميركي السابق في إسرائيل، في كتابه «أبرياء في الخارج.. سرد حميم لدبلوماسية السلام الأميركية في منطقة الشرق الأوسط» الصادر عن دار «سيمون وشوستر» الأميركية قصة غريبة حدثت يوم 28 سبتمبر 1995، وهي كما يرويها إنديك حرفياً «في وقت لاحق من تلك الليلة أقام الرئيس بيل كلينتون حفل استقبال على شرف صناع السلام في قاعة كوركوران غاليري التي تقع على الجهة المقابلة في الشارع نفسه الذي يطل عليه البيت الأبيض، وفي تلك القاعة الفخمة المزدانة بالأعمدة المزخرفة، اختلط عدد كبير من السياسيين والدبلوماسيين وأعضاء جماعات الضغط الواشنطنيين مع ممثلي الجاليات اليهودية وجاليات الأميركيين ذوي الأصول العربية. وبعد برهة من الوقت ظهر الرئيس كلينتون ونائبه آل غور جنباً إلى جنب مع الزعماء (العرب واليهود) على منصة في الطرف الجنوبي من القاعة الفخمة كي يتحدثوا إلى الحضور، لم يكن عرفات ورابين قد توقعا سلفاً أن يُلقيا كلمة، ولأنه قد سنحت له الفرصة كي يشرد عن ديباجته المعتادة التي كانت تطالب بالعدالة للشعب الفلسطيني، فإن عرفات ألقى في الواقع كلمات دافئة عن أهمية السلام مع (أبناء العم) اليهود، وجاء رد رابين بالأسلوب نفسه، إذ نوه إلى أن اليهود لم يشتهروا بقدراتهم الرياضية، إلا عندما وصل الأمر إلى نقطة إلقاء الخطب، وهي النقطة التي أثبت فيها أنهم (أي اليهود) أبطال أولمبيون، واستدار رابين نحو عرفات وقال: (يبدو لي، سيدي الرئيس، أنك قد تكون يهودياً بعض الشيء!)، عندها ضحك الحضور وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي عرفات ثم رد معلناً: (نعم، نعم. إن راشيل هي خالتي)، لكن اللغز هو كيف، بالضبط، استنتج عرفات أن له صلة قرابة بتلك الشخصية التوراتية، وهو اللغز الذي بدا مثل أشياء أخرى كثيرة كانت تتعلق بذلك الرجل الغريب؟ لكن كان من الدلالة الرمزية المهمة بالنسبة لتلك المناسبة أن شخصاً (عرفات) كان يفتخر بأنه زعيم من زعماء العالم الإسلامي قد اختار أن يزعم على الملأ أنه ينتمي إلى أسلاف يهود». ليس الهدف من رواية هذه القصة اتهام الرئيس الشهيد عرفات بأنه يهودي أو ميال لهؤلاء، فهذا ليس مدار الموضوع، لأسباب كثيرة بينها تاريخ عرفات نفسه وحقيقة أن الرجل قاتل محتلي أرضه طويلاً وأن نسبه الحقيقي هو كوفيته وسلاحه، ولكن المحيّر هو ملاحظة المدى الذي بلغه الرئيس الراحل في مجاملة أعداء الأمس واليوم أملاً في الحصول على بعض من أرضه وبعض من سيادة شعبه وبعض من دولة موعودة ولكن الرجل لم يحصل على شيء وقضى شهيداً في مشهد مأساوي قبَر «عملية السلام» برمتها. ولم يكن استشهاد عرفات في 11/11/2004 مانعاً من إعطاء إسرائيل المزيد من التنازلات، بل إن المحير أن القائد الجديد للشعب الفلسطيني لم يكد ينتهي من عملية الدفن حتى شرع في تقديم تنازل ديموغرافي لا حدّ له يتمثل في التخلي عن حق العودة بصفة نهائية، والرجل يعلن قناعاته بصفة واضحة حينما يتحدث مع الغربيين، ولكنه يواريها عند الحديث مع العرب، وقد رصد الكاتب الفلسطيني الدكتور إبراهيم الحمامي سلسلة تصريحات مثيرة لمحمود عباس، وهي كما نشرها في مقال بعنوان «اعترف وبصموا» مرتبة تاريخياً في لقاء مع صحيفة المصور المصرية بتاريخ 03/12/2004 قال عبّاس: «إنني لا أريد أن أغير ديموغرافيا الدولة «الإسرائيلية» ولكننا نطلب التوصل إلى «حل» لمشكلة اللاجئين، وتحقيق حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وفق القرار 194 وعلى أساس قرارات قمة بيروت عام 2002». • في شهر يناير 2005 أعلن عبّاس أنه على استعداد لتقديم «تنازلات مؤلمة» بالنسبة لموضوع اللاجئين! ليضيف في حديث مع ال «بي.بي.سي» البريطانية بتاريخ 02/01/2005 أن الحل العادل لمشكلة اللاجئين هو بالتفاوض حول القرار 194. • في حديث نشرته صحيفة دير شبيغل الألمانية يوم الاثنين 21/02/2005 قال عبّاس فيما قال إنه «مستعد للتفاوض بشأن المكان الذي سيعود إليه اللاجئون»، مضيفاً: هناك 5 ملايين لاجئ نعرف أنهم لن يعودوا جميعاً، مشيراً إلى أن كثيرين منهم لا يريدون العودة لأنهم يعيشون حياة كريمة في الولاياتالمتحدة أو سعداء في الأردن ولكن يجب تعويضهم، على حد وصفه، وأضاف: «إننا واقعيون وقد تعلمنا من تجربة قمة كامب ديفيد الفاشلة أنه لا يمكن حل مشكلة كهذه عمرها قرن خلال 16 يوماً، فقد يحتاج الأمر سبعة إلى ثمانية أشهر وربما سنة كاملة للوصول إلى حل شامل». وهكذا بعد أن تنازل عرفات عن جزء كبير من التاريخ والأرض جاء أبومازن ليتنازل عن نصف الشعب الفلسطيني ويعلن بوضوح «هناك 5 ملايين لاجئ نعرف أنهم لن يعودوا جميعاً» وكأن سيادة الرئيس قد سأل كل فرد بينهم وسأل ميتهم وحيهم ووافقوه جميعاً على دعواه! في ذات الاتجاه كانت بقية الدول العربية تتابع مسيرة التطبيع المعلن والمخفي مع إسرائيل تحت لافتة تحقيق السلام العادل والشامل، ولكن شيئاً من ذلك لم يتحقق، بل إن «الدولة» التي تنازل لها العرب عن كل شيء ليحظوا ب «بعض السلام وبعض السيادة وبعض الأرض»، هذه الدولة نفسها انتقلت من مرحلة تسليحه إلى أخرى ومن استعداد لحرب برية- جوية- بحرية شرسة إلى وضع الخطط العملية لحرب فضائية لا تبقي ولا تذر، ولنا في اعتراف جنرال الاحتياط الإسرائيلي إيتان بن إلياهو، قائد سلاح الجوّ الإسرائيلي الأسبق، خلال مشاركته في نشرة «إسرائيل في الفضاء- جوانب استراتيجية» الصادرة عن «مركز بيغن- السادات للدراسات الاستراتيجية» في جامعة بار إيلان خير دليل، حيث قال الجنرال بالحرف: «في ظل هذا الوضع لم يعد استخدام الفضاء لأغراض عسكرية شأناً مستقبلياً، بل إنه يحدث الآن»، ولم يكتم الجنرال خبراً بل قال بوضوح: «إن قمراً اصطناعياً إيرانياً يمرّ فوق إسرائيل يستطيع أن يصوّر بحرية وبدقة ووضوح جيدين، ولدينا (في إسرائيل) الكثير من الأمور التي لا نرغب في تمكن الإيرانيين من تصويرها». والنتيجة المطلوبة هي أنه إذا توافرت لإيران بالفعل قدرة جمع استخبارية فضائية فإنه «سيتعين على إسرائيل أن تستعد لذلك من ناحية عسكرية». هكذا تغير الوضع بين عامين هما 1995 و2009.. في العام الأول كان عرفات يجامل اليهود بالانتساب لخالته راشيل وفي الثاني طوت إسرائيل كل أوراق السلام، وهي تستعد لحرب من نوع آخر لا تحسب فيها حساباً لكل العرب الذين تخلوا عن حقوقهم حقاً بعد آخر، وعن أسلحتهم وعن ذواتهم. بين سنتين رمى العرب كل أوراق التوت ولبست إسرائيل «لامة الحرب» المقبلة، أما المستقبل فلن يكون بعيدا عن البذور التي وضعناها بأيدينا. العرب 2009-04-24