مع نهاية القرن المنقضي وبداية القرن الحالي صدر كتابان لكاتبين لبنانيين معروفين بحثا -كلٌّ بشبكة قراءته الخاصة- قضية الهوية وكيف تحوّلت إلى مصدر اضطراب وفتن في العالم والعالم العربي الإسلامي خاصة. نُشر أوّل الكتابين سنة 1998 بعنوان «الهويات القاتلة» للكاتب والروائي أمين معلوف، الذي غادر لبنان سنة 1976 بعد اندلاع الحرب الأهلية ليستقر في فرنسا, حيث نشر عدة روايات ودراسات لقيت نجاحا واسعا لما اتسمت به من رؤية إنسانية رحبة تجمع بين التعلّق بعبقرية التراث الشرقي وبين تَمثُّلٍ حديث لقيم الحرية وتقدير الآخر المختلف. ينطلق تساؤل «الهويات القاتلة» من تجربة المؤلف الذاتية بصفته لبناني-عربي امتحن في حياته وحياة أهله أشد امتحان مما دفعه إلى أن يهاجر بعيداً عن المذابح التي تقترف باسم هويات عرقية أو دينية أو أيديولوجية. غادر لبنانَه الشهيد ملتجئاً إلى فرنسا ليعيش فيها على إيقاع التطور المذهل لعالم الحداثة والتقنية والاتصالات. لذا جاء الكتاب قراءة في أعماق الهوية وتعدد مكونات الانتماء وفي العولمة وما ينسب إليها من نزوع نحو الوحدة البشرية أو الإنسان العالمي. تتواتر أسئلة معلوف مشكلة محور شهادته على العالم الواسع وما يحدثه التطور فيه من اختراق وتعطل لا يزيده التخبط المنسوب إلى الهويات إلا ضراوة، لذلك نجد المؤلف يقف منكرا أن يُقتل الإنسان أو يَقتل باسم الهوية? ثم نراه يبحث في معنى الهوية ومكوناتها وتفسيراتها وطرق توظيفها في إثارة فتن لا يعود ضررها إلا على المنافحين عن الانتماء المغلق أيّاً كانت مشاربهم ومرجعياتهم. خلاصة كتاب معلوف نجدها في هذه العبارة- النداء التي يسعى إلى أن يحسم بها الجدل المحتدم حول الهويات خاصة في عالمنا العربي حين يقول: «أنا الذي أتبنّى كل انتماءاتي بأعلى صوتي لا أستطيع الامتناع عن الحلم بيوم تسلك فيه المنطقة التي ولدت فيها الطريق ذاته، تاركة خلفها زمن القبائل وزمن الحروب المقدسة وزمن الهويات القاتلة لكي تبني شيئا مشتركاً». ألف الكتاب الثاني عن الهوية المؤرخُ اللبناني وجيه كوثراني سنة 2004 بعنوان «هويات فائضة.. مواطنة منقوصة» مع شبه عنوان «في تهافت خطاب حوار الحضارات وصدامها عربيا» زيادةً في تحديد رؤية المؤلف. بعد ست سنوات من صدور نداء المهاجر أمين معلوف يؤكد لبناني ثانٍ أن قضية الهوية تظل في الفضاء العربي سؤالا فكريا محرجا وبؤرة توتر سياسي لا يهدأ. صدور هذا التأكيد بعد سنوات النار التي تلت الحرب الأهلية اللبنانية وحرب الخليج الأولى ثم بعد كارثة 11 سبتمبر وما تبعها من غزو ودمار وتقاتل في العراق وفلسطين ولبنان والجزائر والصومال وغيرها أثبت أن الحرب والعنف أصبحا أكثر العناصر تأثيرا وتكوينا للشعور العربي المعاصر. لذلك يقول كوثراني وهو الحائز على وسام «المؤرخ العربي» من اتحاد المؤرخين العرب: «يعلو الصوت أن الهويّة في خطر, وحقيقة الأمر أن ثمة فائضاً من الهوية يجعلها هويات: هويات دينية ومذهبية وعشائرية، متنابذة ومتقاتلة». رغم خصوصية مكونات كوثراني الاجتماعية والمعرفية والمنهجية التي ميزته عن معلوف فجعلته مهتما بالدراسات التاريخية -الاجتماعية- السياسية الباحثة في فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه وفي تاريخ المؤسسة السياسية في تركيا والمشرق العربي، رغم هذا التخصص فإنّه لا يختلف جوهرياً عن مقاصد صاحب «الهويات القاتلة» في الاهتمام بعلاقة الدولة بالسلطة، والمجتمع بالعمل السياسي وضرورة بلورة مشروع نهضوي عربي يراعي الواقع العربي والعالمي. لُبنانيتهما بوجهيها المدّمَّر والناهض جعلت كوثراني مثل معلوف يرفض اعتبار غياب الهوية سبب الأزمة العربية الراهنة أو تهديدها. الحقيقة عنده وعند نظيره أن الهوية المأزومة تفيضُ هوياتٍ فتذكي الحروب العربية الأهلية، أما الغائب أو المنقوص عربياً فهو المواطن وثقافة المواطنة. هكذا يصبح القاسم المشترك بين الرجلين في مقاربتهما للهوية هو ضرورة العودة إلى التاريخ لبناء رؤية استراتيجية مستقبلية مع الإلحاح على اعتبار التاريخ صيرورةً وتفاعلاً وتحولاتٍ أي أنّه لا يمكن الفصل بين الحضارات بحجة اختلاف البنى والأنساق بل لا مناص من الوعي بضرورة القبول بمنهج التاريخ العالمي القائم على التعدد والتواصل. ما تجدر إضافته تعقيباً على ما ألمحنا إليه بخصوص الكتابين المتصلين بمسألة الهوية في عصر العولمة يمكن أن نوجزه في النقاط التالية: - لم تحتلّ قضية الهوية مكانة متميزة في المشهد الفكري العربي الإسلامي إلا منذ عقدين من الزمن مواكِبةً بذلك تحولات كبرى داخلية وخارجية. قبل هذه الفترة كانت المشاغل الفكرية المطروحة على المجتمعات وعلى النخب المثقفة والحاكمة تركز على مسائل أساسية لم تكن قضية الهوية مُدرجة ضمنها. لقد تحولت الهويات إلى عنصر فاعل وسبب مباشر في ظهور العنف المنافح عن الانتماء في مجتمعاتنا بتضافر عاملين هامين: التدخلات الأجنبية وتراجع جذوة الاندفاع البنائي في عموم الأقطار العربية نتيجة تعثرات التجارب التنموية القُطرية والوحدوية والاشتراكية. إضافة إلى هذين العاملين الموضوعيين كانت البنية الثقافية الأهلية التي يتحكم فيها نظام العصبيات القبلية والعشائرية العنصر الحاسم في توظيف الهوية ومكوناتها محولة إياها إلى بؤرة توتر ومصدر اضطراب. - نتيجة النظرة التجزيئية تواتر القولُ في المجتمعات العربية بضرورة مقاومة الغزو الثقافي والتغريب ورفض الجاهلية المعاصرة ومعها تولد العداء السافر للعولمة الذي لم يرَ من ثورة المعلومات والاتصالات إلا جانباً منها هو «استكبار» فئة وحرصها على الهيمنة الشاملة. أفرزت هذه النزعة التأثيمية للعولمة عدم السعي لفهم آلياتها في مَركَزَة العالم والإعراض عن طرق التفاعل الإيجابي مع وسائل الإدماج العولمي. من هذا المشهد الفكري-السياسي المعاصر اصطبغ مفهوم الهوية في الفضاء العربي خاصة بظلال التوجس من الأزمنة الحديثة الذي رسّخه الاعتقاد بوجود مؤامرة تحاك باستمرار للإسلام والمسلمين. بذلك تلاشى تدريجياً كل النزوع البنائي الذي عرفته البلاد العربية بعد مرحلة الاستقلال السياسي وما بدأ تحقيقه من إنجازات وطنية أو قومية بدافع إثبات الذات عبر الآلية القاضية بضرورة التغيير والتسريع في حركة التاريخ. - أكثر المسائل إثارة للالتباس بخصوص الهوية هي تحديد طبيعتها, وهل هي بنية واحدة ثابتة وجوهر قارّ لا يتبدل أم أنها جملة من الخصائص والسمات في صيرورة وتشكّل دائبين؟ ما يأنس إليه العديد هو الاعتقاد في فرادة الحضارة العربية الإسلامية، نظير ما يفعله أمثالهم من الراديكاليين في الغرب القائلين بفرادة الحضارة الغربية أي برفض التطوّر وإنكار تاريخية الحضارات. هذا ما دفع بالطروحات الدينية والسياسية المعتمدة في أيديولوجيتها على الهويات إلى ضرب من الجمود الفكري والتصلب السياسي المفضيين في الغالب إلى العنف. ذلك ما طبع خطاب الهويات بطابع الحصرية الثقافية والحضارية وجعل أصحاب ذلك الخطاب يعتقدون أنهم المرجع الأنجع والأمثل لأي بديل فكري وعقدي. المحصلة الجامعة لجملة هذه النقاط يمكن تركيزها في فكرة مستقبلية يتعسر قبولها هي أن الإنسانية مقبلة على عصر جديد مختلف في بنيته وعلائقه عما درجنا عليه منذ عهود وأن العنف الذي تزايد حضوره اليوم ليس ثمرة الاختلاف والتعدد إنما هو على العكس نتيجة إرادة فرض التماثل والتماهي والتنميط. العرب 2009-04-30