لفهم مدلول كلمة التصحيح في التداول السياسي العربي المعاصر لا نحتاج إلى العودة إلى لسان العرب لابن منظور فهو حتماً لن يسعفنا فيما نبحث عنه، لأن التصحيح لم يعد يدل على تقويم الاعوجاج أو العودة إلى الأصل بقدر ما يدل على معنى الانقلاب والحفاظ على الأوضاع الفاسدة والإبقاء على موازين قوى كان ينبغي أن تتغير، فالتصحيح حتى عندما تبادر إليه نخبة أو أقلية يمكن أن يحظى بالتأييد والإجماع فما بالك حينما يتخذ طابع حركة اجتماعية وتاريخية، ولكن حينما ننظر في الأوضاع العربية من موريتانيا إلى البحرين نجد أن حركات التصحيح ليست إلا عملا فوقيا يعارض إرادة الشعوب ومصلحتها. ونحن في السجن كانت أبرز مواضيع نقاشاتنا (منذ سنة 1991 إلى سنة 1999 على الأقل) حينما كانت تسنح الفرصة للنقاش هي الأوضاع في الجزائر وكلنا يذكر ما عاشته بلاد المليون شهيد من ويلات خلال السنوات السوداء. ولأمرٍ ما أريدَ لما يحدث هناك أن يتخذ طابع الفتنة وأن تختلط الأمور حتى لم يعد المتابع الدقيق يفهم حقيقة ما يجري ولا التمييز بين الجلاد والضحية، فخلف العناوين واللافتات والشعارات واقع دموي سريالي قصدت القوى التي تحركه إلى أن تفقد الأشياء معانيها وأن تحول الحياة الوطنية إلى عبثية ينتصر فيها الأكثر احتمالا للجنون والأكثر استعدادا للإيغال في الاستهانة بكل القيم الدينية والإنسانية ومما يزيد الأمر إيلاماً أن ذلك كان يجري تحت عنوان التصحيح، تصحيح أوضاع ارتضاها الشعب الجزائري في أول وأهم فرصة تتاح له لإنفاذ اختياره لمن يقوده ويحكمه لا بالحديد والنار بل عبر صناديق الاقتراع. وقد عبّر الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران عن ارتياحه لكون انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ جاء عبر الانتخاب وليس عن طريق الثورة الشعبية وهو الذي يدرك بحكم موقعه أكثر من غيره ما يعنيه التداول السلمي والتحول الثوري، قبل أن تتدخل القوى الخفية لإلغاء المسار الانتخابي، عفواً، للقيام بعملية «تصحيح» نيابة عن الشعب دون تفويض أو إذن منه، وبين الإنقاذ الديمقراطي الذي انخرطت فيه جبهة الإنقاذ الإسلامية والتصحيح اللاديمقراطي الذي أقدمت عليه القوى الوصية على الجمهورية وعلى الثورة والشعب الجزائري بونٌ شاسع بل فرقٌ حاسم في المنهج، ولا شك في أن تكلفة الإنقاذ الديمقراطي ليست أكثر من تغيير الأغلبية والأقلية إلى حين، أما تكلفة التصحيح اللاديمقراطي فمئات الآلاف من الضحايا، ولا نعلم عن ديمقراطية حقيقية ولا جمهورية شعبية قتل فيها الآلاف لمجرد التعبير عن الرغبة في التغيير، بل إن تغيير النظام لا يساوي شيئا بالمقارنة مع التخريب المنظم الذي أريد به تغيير طبيعة شعب قدم قبل أقل من ثلاثة عقود مليوناً ونصف من الشهداء من أجل أن يكون سيداً ينعم بالكرامة والحرية، ولا نعلم عن ثورة أرادت الإطاحة بالاستبداد والظلم والفساد جاوزت هدفها رغم أن الثورات ليست معصومة من الأخطاء وليست دائماً خالية من الدماء. وقد احتاجت حركة التصحيح المغشوشة في الجزائر إلى حركة تصحيح من داخلها لكنها لم تبلغ مداها لأن المتورطين في اغتيال الديمقراطية الناشئة لا تزال لهم اليد الطولى في تحديد مصير الجزائر بعد أن أزاحوا الطرف المستفيد منها والمنتصر بفضل انتهاجه لها طريقا إلى التغيير. الزمن لا يعود إلى الوراء ولا تعود الأحداث على بدئها في الحياة الدنيا فما كتب على صفحات التاريخ من وقائع خرج إلى الوجود، وعتْهُ ذواتنا أو لم تعه، فهو كالكلام إذا نطقناه لا يعود إلى ما قبل التصويت. ومن اللافت في الحالة الجزائرية أن الجيش لم يعمد حين أوقف المسار الانتخابي إلى إلغاء الحياة الحزبية بالكلية أو إلجام حرية التعبير إلجاما تاما، وطالما وجدت التعددية وإن كانت منقوصة وحرية التعبير وإن كانت غير تامة فالحلول تبقى ممكنة، لأن الحوار وحده يشير إلى الأخطاء والنقائص ويرشد إلى الحلول والبدائل. فمكر الدولة المختطفة وحيلة الديمقراطية المغتصبة وكبرياء الجزائريين الذي لا يمكن أن تنال منه أي فتنة مهما عظمت وإسلام الجزائر الذي هو هويتها وقدرها ومصيرها وأفقها جعل عملية التعسف في تغيير المعادلة والأوضاع بأسرها في طريق المؤقت والطارئ وسبيل الاستثناء تحسباً للمستقبل، فالجيش كان يحتكر القرار بإصرار دون أن يلغي من اعتباره إمكان اقتسام السلطة أو الإتيان بالرجل المناسب في الوقت الحاسم، وفي تقديرنا لا حل في الجزائر وقد طوت جزئيا صفحة السنوات السوداء بدون موافقة الجيش وبدون مشاركة حقيقية للإسلاميين. غير بعيد من هناك تتعاقب في موريتانيا حركات التصحيح ولكن في الاتجاه المعاكس، فمن التصحيح الحقيقي إلى التصحيح المغشوش، ومن الإنقاذ بالانقلاب على الاستبداد إلى الإنقاذ بالانتخاب، فالانقلاب والاستبداد مجدداً في تنازعٍ على الشرعية والسلطة مجدداً. ولكن إذا كان الجيش في الجزائر قد نجح في إقصاء الشعب من العملية السياسية دون أن يقدر على تصفية كل مكتسباته رغم إغراق البلاد في شلال من الدماء، فإن حماة الديمقراطية في موريتانيا وبعضهم في صف الانقلابيين منعوا الجيش والأجهزة الأمنية من تحييد الشعب الموريتاني بكل فئاته خاصة الشبابية منها ومهما كانت شساعة الفجوة وحدة الخلاف بين الفريقين ومهما كانت طبيعة «الرهان» السياسي والإقليمي ورغم ما تسارع إليه الفئة المستولية على السلطة من فرض الأمر الواقع فإن الأمل في التوصل إلى حل يوافق انتظارات الشعب الموريتاني يبقى قوياً، وكما هي الحال في المثال الجزائري، مع مراعاة الفارق في الظرف الدولي وفي طبيعة الأوضاع الداخلية، فلا حل دون موافقة الجيش أو بالأحرى دون مسايرته للصحوة الديمقراطية للشعب الموريتاني ودون مشاركة كاملة للمعارضة بكل أطيافها خاصة الإسلاميين الذين ساندوا التصحيح الحقيقي ونالوا الاعتراف من الإنقاذ الديمقراطي الذي أسهموا فيه وعارضوا بنفس الإصرار والمبدئية التصحيح المغشوش مقدمة الاستبداد المقبور. إن ما يجري في موريتانيا يدعو للتفاؤل لأن النخبة الموريتانية والقوى الجديدة والشبابية من موقع الممانعة أو المسايرة اختارت المثال الديمقراطي والانتماء الإسلامي العربي وهي تبحث عن أفضل الصيغ وأقصر السبل وأنسبها لتنزيله. العرب 2009-05-05