هل يمكن أن نتوقع مفاجأة سياسية لافتة تصدر عن الفاتيكان بمناسبة زيارة البابا هذا الأسبوع للأردن وفلسطين؟ تغري بهذا التساؤل مؤشرات متصلة بالزيارة مثل كونها الأولى إلى بلد عربي يقوم بها الحبر الأعظم منذ انتخابه لاعتلاء السدة البابوية في أبريل 2005 وكونها جاءت إثر تكثيف للعلاقات الحوارية بين قيادات ونخب عربية مسلمة وبين البابا وعدد من أعضائه ومستشاريه في السنتين الفارطتين، وأن توقيتها يوافق ذكرى انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في 15 مايو 1948 وما تلاه من إعلان الحركة الصهيونية قيام الكيان المغتصب. لكن أكثر ما يدفع إلى هذا التوقع هو أن الزيارة تأتي بعد العدوان الأخير على غزة والذي اقتصر فيه البابا، للتعبير عن استيائه، على عبارات واهنة استثارت إنكار الكثيرين، مسلمين ومسيحيين، مثل هذا الوهن يمكن أن يغري البعض بتوقع موقف استدراكي أكثر وضوحا بمناسبة هذه الزيارة الأولى إلى «الأرض المقدسة». مع ذلك فإن هذه المؤشرات لا تقوى على مغالبة ما كاد أن يصبح ثابتا من ثوابت التوجه الفاتيكاني اللامبالي بمشاغل العرب والمسلمين ومكانتهم الدينية والحضارية. ذلك ما يقوي استبعاد دواعي التفاؤل بهذه المناسبة وتعذر صدور أي موقف يدين صراحة اعتداءات الكيان الصهيوني أو يدعم الشعب الفلسطيني في معاناته ونضاله. لقد قطع القاصد الرسولي أنتونيو فرانكو الطريق على كل تلك المؤشرات حين أعلن تمهيدا للزيارة البابوية أنها «زيارة حج وليست خطوة سياسية»، رغم «إمكانية دفعها لعجلة السلام والوفاق والتلاحم بغية ضمان الخير لهذه الأرض». لم يعدل البابا من تصريح ممثله بعد ذلك حين قال: «سأقوم بزيارة حج إلى الأرض المقدسة حيث أسأل الرب في زيارتي هذه للأماكن التي قدسها بمروره فيها نعمة الوحدة الثمينة، ونعمة السلام في الشرق الأوسط وللعالم أجمع». أكثر من هذا، فلقد أعلنت حاضرة الفاتيكان، آخر فبراير 2009، عن قبول البابا «استقالة» وزيره المسؤول عن شؤون المهاجرين ورئيس المجلس البابوي للعدالة والسلام، الكاردينال ريناتو مارتينو (Renato Martino)، مع العلم أن نفس الكاردينال «المستقيل» كان، في أوائل يناير 2009، قد وصف غزة أثناء العدوان الصهيوني ب «أنها معسكر اعتقال نازي»! باستبعاد أي إفراط في التفاؤل مما يمكن أن ينجم عن الزيارة البابوية من موقف ينتظره الكثيرون في الشرق والغرب بخصوص القضية الفلسطينية وعموم الحوار مع المسلمين فإن السؤال الذي يظل مطروحا أمامنا يتعلق بطبيعة الأسباب التي تعوق البابا عن إدانة العدوان على غزة والوقوف من أجل حل عادل للقضية الفلسطينية؟ - هل المسألة راجعة إلى قوة اللوبي الصهيوني المخترق للكنيسة والإعلام الغربي؟ وهل يجد البابا نفسه نتيجة ذلك، وهو الألماني الأصل، تحت طائلة تهمة «معاداة السامية» إن هو عبر عن معارضة أو نقد تجاه قادة الكيان الصهيوني؟ - هل ينبغي تفسير هذا التهاون الكاثوليكي الرسمي بعامل الفراغ السياسي الذي يكتنف عموم السياسة الدولية فضلا عن العربية منذ عقدين على الأقل بما أتاح المجال أمام المنظمات اليهودية الأميركية لممارسة ضغوط متزايدة واستغلال كل فرصة للتشهير بالبابا كما حصل منذ أشهر عندما قرر رفع الحرمان الكنسي عن الأسقف البريطاني ريتشارد وليامسون (R. Williamson)؟ - هل تعود المسألة إلى شخصية البابا نفسه وإلى رؤيته الفكرية وأسلوبه في التعامل مع كل المختلفين معه في التصور والاعتقاد، كما صرح أخيرا اللاهوتي السويسري هانز كونغ (H. Küng) وهو الزميل السابق للبابا عندما كانا في ستينيات القرن الماضي مدرسين بجامعة «توبنغان» الألمانية؟ عند التمعن في هذه العوامل يتبين للملاحظ الدارس لملف العلاقات الإسلامية المسيحية منذ عقود أن جملة تلك العناصر تعين على تفسير الوهن الفاتيكاني من قضية السلام والعدل الأولى في البلاد العربية. حضور اللوبي الصهيوني بفاعلية سر ذائع وقوة حاضرة لا يتوقف تأثيره بل إن مما يزيد من ضراوته تعثرات المسؤولين الإعلاميين والاتصاليين الفاتيكانيين في أكثر من قضية بما أثبت سوء تقديرهم لعقلية المجتمعات المعاصرة ولما تقتضيه التطورات التي تعصف بالعالم. من هذا التلاحم بين الجانبين أجبر الفاتيكان في الأشهر المنقضية على أكثر من تصحيح في أكثر من مسألة. زاد من هذا الارتباك تلك الحملة الإعلامية الهوجاء في الغرب الأوروبي التي لم تتردد في الإساءة إلى البابا بكل الوسائل إلى حد القول، استنادا لسبر للآراء، بأن %43 من الكاثوليك الفرنسيين يطالبون البابا بالتخلي عن منصبه. انضم إلى هذه الحملة المناهضة سياسيون أوروبيون راسلوا البابا بلهجة حادة مؤكدين ضرورة قيامه بمراجعات لبعض ما أقره من مواقف. جاء ذلك خاصة بعد ما صرح البابا في رحلته التي قادته إلى بعض أقطار من إفريقيا السوداء التي يفتك بها مرض الإيدز بأنه «من المتعذر التغلب على هذا الوباء بتوزيع الأوقية الذكرية» معتبرا أن العلاج الحقيقي يتطلب تلازما بين «الحياة الجنسية وبين خلقية العفة والإخلاص داخل رابطة الزواج». قبل ذلك كانت المناهضة بخصوص تطبيع علاقة الفاتيكان مع توجه محافظ كاثوليكي ينكر بعض رموزه ما يعرف بالمحرقة اليهودية. اللافت في هذه الحملة الإعلامية هو توقيتها وحدتها وكأنها جاءت لصرف الأنظار عن الفظائع الصهيونية في فلسطين. لقد تلت عدوان «الرصاص المذاب» على غزة وما أنتجه من حملات استنكار في أنحاء العالم لمنظمات حقوقية تطالب بمحاكمة المسؤولين عن قتل المدنيين خاصة الأطفال واستعمال أسلحة فوسفورية وأخرى ممنوعة دوليا. لكن العنصر الأهم في تفسير عجز الفاتيكان عن اتخاذ مواقف صريحة بخصوص قضية فلسطين وغيرها من القضايا الشائكة يعود في تقديرنا إلى اعتبارات داخلية، فكرية ولاهوتية، تتشبث بها القيادة البابوية الحالية بما يزيد من ضبابية رؤيتها واضطراب مواقفها. من هذا المقتل بالذات تتمكن مراكز الضغط المختلفة في أوروبا وأميركا من ممارسة نفوذها المذهل مستفيدة من الفراغ الدولي والاضطراب الإقليمي اللذين ولدتهما تناقضات السياق الحضاري الحالي خاصة في مجاله السياسي. ما ذكرناه من تفسير هانز كونغ لظاهرة الوهن الفاتيكاني لا يعني تجريحا لشخص البابا الحالي بل يتجه إلى نوعية الفكر الذي يعتمده وإلى التصور الديني الذي يتأسس عليه. هو في هذا يلتقي مع أصوات مسيحية كاثوليكية معاصرة مثل كارل راهنر (Karl Rahner) الألماني وكلود جيفري (Claude Geffré) الفرنسي وريمون بانيكار (Raimon Panikkar) الهندي-الإسباني وبينيزيت بوجو (Bénézet Bujo) الكونغولي، وليوناردو بوف (Leonardo Boff) البرازيلي. ما يجمع هؤلاء على اختلاف مرجعياتهم الثقافية وتنوع رؤاهم الفكرية هو التقاؤهم في أن طبيعة رسالة المسيح عليه السلام في تصديه للظالمين ووقوفه مع المستضعفين والمقهورين تقتضي تمثلا فكريا وروحيا منفتحا على العالم بثقافاته ومعتقداته. ذلك ما يسميه جيفري ضرورة الانتقال من الرؤية «التمامية» المرتبطة بالفهم التراثي للمسيحية إلى «لاهوت التعدد الديني» الذي يتطلب الاعتراف بالقيم الخاصة للرسالات الدينية الأخرى. مثل هذا التوجه يقتضي تجاوزا لاهوتيا وفكريا يتخطى القول بأن الإيمان المسيحي ينجز ما تصبو إليه الأديان البشرية وأن المسيح هو الذي يحقق أديان العالم كلها فهو «مآلها الوحيد والنهائي». غاية هذا التخطي بلوغ مستوى للقول بتعدد سبل الحقيقة الموصلة إلى الخلاص ورضا الله وهو ما يوسع مفهوم الخطيئة وضرورة التكفير المؤسسين للإيمان المسيحي. لكن هذا الطموح من أجل فاعلية أوسع لعقيدة «الحب - المحول» وما ترسيه من إنسانية جديدة لرسالة المسيح، مثل هذا الطموح هو الذي ترفضه الإدارة الحالية للفاتيكان لأنه يقتضي إيمانا واقتناعا بفرادة الآخرين وثراء حياتهم الروحية وصدقيتها أمام الله والناس. العرب 2009-05-07