حتى هذه اللحظة ربما لم أقرأ، كمياً، لكاتب مثلما قرأت للزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ. كانت صور «الرئيس ماو»، مثلما كنا نسميه كأننا نعرفه بشكل حميمي، إحدى صور الطفولة. صوره «البروفايل» والأمامية، ضاحكاً أو أقل مرحاً، ماو الشاب النحيل فارع الطول (قائداً ل «المسيرة الكبرى» الأسطورية) والكهل ثم العجوز المتثاقل بشكل متزايد، المستلقي على كرسيه بدلال، وهو يهزم اليابانيين، و «شان كاي تشاك» وبقية «البورغوازية الوطنية» دفعة واحدة. صور ماو السباح، الذي يقطع نهر اليانغتسي بشكل روتيني فوق ال 70 عاماً وهو ينظر مبتسماً، مطمئناً، للكاميرا، بينما يقود «الثورة الثقافية». أتذكر الآن أن أحد الأسباب الأساسية التي تجعل «معرض الكتاب» التونسي في الثمانينيات (ولا علاقة لذلك «المعرض» بمعرض هذه السنين) بالنسبة لصبي مثلي آنذاك مطية لرحلة إلى عوالم جديدة مثل زيارة «الجناح الصيني» حيث نشتري بلا حساب القصص المصورة ل «الثورة الصينية» وطبعات جديدة ل «المؤلفات الكاملة». اكتشاف ماو الكاتب عِوض الصورة كان ولادة مؤلمة ولذيذة في الوقت ذاته. بعد كل هذه السنين تتراءى لي نصوصه روايات مليئة بالشخوص بقدر امتلائها بالأفكار. الانغماس في عقل الماوية يجب أن يصل حد تمثل الصراعات والسجالات التي مر بها ماو وهو يعيد تأسيس «الحزب الشيوعي الصيني» على قاعدة «الثورة في الأرياف» واستراتيجيا «حرب الشعب» ضد «الرفاق» المتمسكين بخط موسكو وب «الثورة في المدن»، ويصنع «الجبهة الوطنية» ضد اليابانيين مع «البورغوازية الوطنية»، ليصل إلى السلطة على أنقاض «البورغوازية الوطنية»، ثم ليقود حملة «المئة زهرة» ضد من وصل معه إلى السلطة، وطبعاً، «الثورة الثقافية» ضد... من تبقى من «الرفاق». آه، كم كرهت خصومه بما فيهم «الرفاق»؟! كانت ذروة لذة القراءة تقمص حججه الحاسمة، في «المونولوج» الذي هو نصه حيث لم يكن من المتوقع قراءة الرواية الأخرى، وهي تفحم بلا رجعة خصومه في «صراع الخطين» الذي لا ينتهي إلا ليتجدد، «خصومه» الذين نحس تجاههم بالنقمة في الوقت الذي كنا نخالهم «رفاقه» الخيرين في الفصل السابق. كانت عملية القراءة ذاتها، وتمثلاتها، حالة تراجيدية الضامن الوحيد فيها الاطمئنان إلى حقيقة أساسية غير مصرح بها وهي أنه مع كل التغيرات والاضطرابات وانعدام الثقة المنبثق عن «صراع الخطوط» هذا فإن «الرئيس ماو» كان «عموماً» وفي نفس الوقت «دائماً» على حق. فمثلما هو الحال مع ماركس وأنجلز ولينين وستالين كانت «الحقيقة» مجسدة بشكل شخصي في فقه وسنة «الخمسة المعلمين» الكبار. وهكذا ك «ماويين» (بداعي التأصيل الإيديولوجي كان من قبيل الاستقامة والتهذيب الثوريين أن ننسب أنفسنا إلى «الماركسية اللينينية الماوية»، أو «فكر ماو تسي تونغ» في رواية أخرى) كان الجدال يعني، مثلما هو حال أي جدال «أصولي»، أن من هو على «حق» هو ذلك الذي يلتزم أكثر من الآخرين بالتأويل والتفهم والاستنباط ضمن حدود متن الأحاديث «الماركسية اللينينية الماوية». لم يكن نص «الحديث» الماوي ذاته محل الجدال بل كيفية فهمه. و «المنتصر» عادة، في الجدالات الماراثونية لهذا النوع من الفرق الراديكالية يساراً، هو ذلك الذي يحذق التنسيق بين النصوص-الأصول، بالطبع بعد التفوق في جمع أكبر قدر منها. إذ تاريخ «الماركسية اللينينية الماوية»، وهذا لا يعد سبقاً بطبيعة الحال، بعد ماركس ولينين وماو ليس إلا تاريخ «مفسريها» (exegetes) بالمعنيين الحرفي والاصطلاحي للكلمة. لكن بسقوط برلين المقسمة سنة 1989 بدأت كرة ثلج سريعة في الانحدار لتجرف معها الكثير بما في ذلك الاستقطاب بين شقين للحركات اليسارية عبر العالم منذ الثورة البلشفية. إذ تراجع منذ تلك اللحظة «اليسار الثوري» أمام «اليسار الإصلاحي»، ولم يعد «إسقاط النظام الرأسمالي-الإمبريالي» بما في ذلك بقوة السلاح شعاراً جذاباً للموضة اليسارية الجديدة. من بين آخر تمثلات «اليسار الثوري» في تلك الحقبة «الثورات الماوية» التي أظهرت رأسها بشكل متفاوت وبالخصوص في البيرو حيث وجهت منظمة «الدرب المضيء»، الذراع العسكرية ل «الحزب الشيوعي للبيرو»، آخر ضرباتها للحكم الذي بات محاصراً في ليما قبل الانهيار بشكل متسارع في بداية التسعينيات بسقوط «الرئيس غونزالو» (أبيماييل غوزمان) زعيم «الدرب المضيء» في الأسر في أحد الأحياء الراقية في ليما، والذي اكتسب سيرة أسطورية في سياق السرية البالغة التي ميزت تحركاته. كانت صور غوزمان بالملابس المخططة للمساجين «الأكثر خطراً» في قفص كبير، والمعروضة بعناية من قبل القوات الحكومية البيروفية لأجهزة الإعلام الدولية، التعبير المرئي الأكثر كثافة عن التراجع الكبير ل «اليسار الثوري» آنذاك. على مدى ال 20 سنة الماضية بقي نبض «اليسار الثوري» بالكاد حيا خاصة من خلال التعبيرات المرئية المحسوسة والمثالية لرموزه. الترويج المركنتيلي لصور «تشي غيفارا» كسلعة (commodity) من بين سلع بصرية أخرى لم يكن تمثلا لهذه الاستمرارية فحسب بل أيضا للشكلانية التي اصطبغ بها «اليسار الثوري». غير أن المأزق السياسي والاقتصادي المتعاظم للولايات المتحدة وبقية النظام الدولي في السنين الأخيرة قدم على ما يبدو ما يكفي من الأسباب لاسترجاع بعض «اليسار الثوري» بعض قواه. بالإضافة إلى البروز المتزايد للقوى «الفوضوية» (أو «اللاسلطوية») خاصة في مناسبات المؤتمرات الدولية من خلال التظاهر «الثوري» في الشوارع، يبدو البروز الأكثر أهمية من حيث تهديده لمواقع السلطة في الأماكن التي يوجد فيها هو الخاص بالقوى «الماوية». ضمن هذا السياق تبدو الأخبار الراهنة ل «الماوية» مناسبة لإعادة زيارة ما يبدو أنه أصبح قصة قديمة من الماضي تبعث على النوستالجيا للبعض، ولكن أيضاً تدعو للنظر من جديد إلى منظومة إيديولوجية تطل برأسها بعناد رافضة التواري ولو أن ذلك يتم على ما يبدو بالكثير من التكرار و «الأصولية» غير الخلاقة. في الهند، ومنذ منتصف شهر أبريل، حيث تجري الانتخابات البرلمانية الماراثونية طيلة شهر وفي كل ولاية على حدة، كان «الرواق الأحمر» وحده ما يستحق الانتباه في التقارير الإخبارية. «الرواق الأحمر» الهندي، لمن لا يعرف ذلك وهو أمر متوقع للغاية، هو مجال تركز النشاط المسلح للتنظيم العسكري ل «الحزب الشيوعي للهند» (الماوي) والذي يخترق ست ولايات تقع في الشمال الشرقي لشبه القارة الهندية وذلك يعني ما يفوق ال 500 مليون نسمة. التنظيم المعروف باسم «الناكساليين» (Naxalites)، نسبة إلى ثورة فاشلة لتنظيم شيوعي مقرب من الصين الماوية في «البنغال الغربية» سنة 1967، قام خلال الأسابيع الأخيرة بعمليات استعراضية تتراوح بين التفجيرات الواسعة قرب المراكز الانتخابية إلى خطف قطار محمل بأكثر من ألف مسافر. «الناكساليون» كانوا «خبر» الانتخابات الهندية بلا منازع إلى الحد الذي كانوا فيه موضوع تقرير خاص في العدد الأخير (2 مايو) من نشرية «النيوزويك» دون غيرها. التقرير ينقلنا إلى «المناطق المحررة» في أرياف ولايات مثل «جهارخاند» حيث لا توجد الحكومة الهندية إلا بشكل اسمي في وسط المدن الكبيرة لولايات «الرواق الأحمر»، وحيث يفرض «الناكساليون» إتاوات خاصة على من يعمل في إدارات حكومية «تحت طائلة الخطف». نشأ «الحزب الشيوعي للهند» (الماوي) في خريف سنة 2004 إثر اندماج تنظيمين ماويين هنديين. لكن لماويي الهند تاريخ طويل وسلسلة ثورات فاشلة خاصة أواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. التنظيم الجديد خلق قيادة مركزية لتنظيمات مشتتة وكان تعبيراً ودافعاً في الوقت ذاته عن مرحلة من المد العسكري لحرب عصابات متركزة في الأرياف («محاصرة المدن من الريف»). نفس الرؤى تقريبا بقيت مهيمنة إلى هذه اللحظة. «الأعداء» هم ملاك الأراضي والحكومة يتم النظر إليها على أنها أداة الطبقات «الرجعية» والتعبير السياسي المركز عن المجتمع «شبه الإقطاعي» وعلى رأسه طبقة ملاك الأراضي. وضمن الحكومة، بالمناسبة، يقع تعريف «البرلمان الهندي» وانتخاباته. فيما يشبه أي حملة تكفيرية تم إعلان «الديمقراطية البرلمانية» الهندية كمجرد ديكور لتزويق نمط الإنتاج شبه الإقطاعي. الامتداد الطبيعي لقتل ملاك الأراضي أو مطاردتهم في أقل الأحوال كان «قتل» أي فرص لتحقق أبسط بديهيات «الديمقراطية البرلمانية» أي الانتخابات. • أستاذ «تاريخ الشرق الأوسط» بجامعة روتغرز العرب 2009-05-17