بكل إيجابياتها وسلبياتها، وبكل حلاوتها ومرارتها، وبكل الحياة التي فيها، وبشيء ما.. بما بعد الحياة، تمر أربعون سنة على الهجرة المغربية إلى هولندا.قبل أربعين سنة، وصل العمال المغاربة الأوائل إلى هولندا، على أساس أنهم ضيوف مؤقتون، تستفيد هولندا من يدهم العاملة، ويستفيد المغرب من العملة الصعبة، ويستفيدون هم أنفسهم من دخل يتجاوز أحلامهم البسيطة، ليعودوا به من حيث أتوا، ويسعدوا بحياة افضل مع أحبتهم هناك. ولكن سرعان م تبدد الحلم واتضح أن العودة ستؤجل، وان الوحدة لا تُحتمل، فوصلت الأسر الأولى في السبعينيات، في إطار التجمع العائلي. التحق الأطفال بالمدارس، وتعلمت النساء التسوق وزيارة الطبيب باستقلالية، والطريق المؤدي إلى مدرسة الأطفال. ثم تأجلت العودة مرة أخرى. كبر الأطفال، ,أحبوا وتزوجوا ورزقوا بأطفال. وهكذا تعيش الآن أجيال ثلاثة من المغاربة في هولندا والجيل الرابع في الطريق. ويظل السؤال الذي راود كل هذه الأجيال مطروحا: أين الوطن، وأين سيكون المقر الأخير؟ القبر؟ النهاية أخبرتني صديقتي أنها وزوجها- وهما أجنبيان- قررا أن يدفنا هنا ولذلك فهما في صدد البحث عن مصلحة تأمين خاص بشركة متخصصة في إقامة العزاء ومراسيم الجنازة والدفن وإلا فان التكاليف ستكون باهضة إذا أديت بالكامل في حينها. قالت صديقتي انه لابد لمن يحيا هنا أن يفكر فيما بعد الحياة، فهي لا تريد أن تعود في تابوت إلى هناك، لترقد بمكان منسي، قد لا يزوره أطفالها أبدا، ولن يتذكرها فيه أحد، بل وقد لا يكون هناك من أحد يتولى تنظيفه: " أتمنى أن أرقد للأبد بمكان جميل نظيف، وأتلقى زيارة أسبوعية أو شهرية من أطفالي وأطفالهم، يضعون فيها زهور التوليب على قبري ويترحمون علي". أدهشتني صديقتي وهي تتحدث كما لو كانت تحكي عن أمور معتادة ليس إلا.. وحين أخبرت زوجي بالأمر، أدهشني أيضا، فقررت أن أؤجل تفاصيل الحديث إلى أن أتمكن من السيطرة على دهشتي. البداية أتذكر أنى أنجزت قبل سنوات، روبوتاجا عن تاريخ الهجرة لراديو هولندا الوطني، وبعد بثه، طلب نائب برلماني نسخة منه، ليعتمد عليها في بحثه ودراساته للهجرة داخل البرلمان الهولندي. تحدثت في الروبوتاج إلى السيدة التي كانت أول امرأة مغربية تطأ أرض هولندا، وقد حكت بسرد شهرزادي، يجعل المستمع متشوقا إلى معرفة المزيد، عن المحطات التي مرت بها منذ البداية إلى الآن، حيث قررت بعد أن استقل كل أبنائها بحياتهم، أن تقضي ما تبقى من العمر بالمغرب وأن تزور هذه البلاد مرة أو اثنين في السنة، لتطل على الأبناء ولتشرب القهوة مع صديقتها الهولندية. تحكي السيدة عن كل البدايات: أول انطباع بعد الوصول، أول تبادل للزيارات بين المغاربة المهاجرين، أول مسجد للصلاة خاص بالمغاربة، أول مجزرة إسلامية، أول زفاف مغربي على أرض هولندا، وأول نقل لجثمان إلى المغرب، ثم أول مقبرة إسلامية.. كان التفكير بالمقبرة الإسلامية متأخرا، جاء بعد معاناة معنوية ومادية وجسدية وعاطفية مع نقل الجثث، ففكر المغاربة في إنشاء مقبرة إسلامية، يرقد فيها الصغار على الأقل، ومن رغب في ذلك من الجيل الأول، ومن لا يستحق أن تنقل جثته. من؟ " من يرتكب معصية"، هكذا كان الرد. " ترقد بالمقبرة مثلا سيدة انتحرت". ما بين البداية والنهاية تغيرت ملامح الهجرة كثيرا منذ البداية إلى الآن ولم تعد تقتصر فقط على اليد العاملة. حين قرر رجال الجيل الأول أن يظلوا هنا لأجل أبنائهم الذين ضاع الكثير منهم بين هنا وهناك. كان استقرار غير نهائي، فالعودة ظلت الهاجس الذي يراود دوما وأبدا نفوس هؤلاء. إن قلوبهم وفكرهم ومستقبلهم الذي أبى أن يأتي، وكل ما لديهم ظل هناك بالوطن الذي هجروه قسرا وان لم تتحق العودة في الحياة، فلابد أن تتحقق فيما بعد الحياة. لم يكن هذا التمزيق بالأمر الهين، فلا استطاع العودة من أرادها، كما أرادها.... التفكير في العودة ما بعد الموت، منهكة عاطفيا وماديا أيضا، وتنغص الفرحة بحياة قبل عودة لن تكون إلا ما بعد الحياة. كريمة ادريسي 18-05-2009