لم يكن الطاهر الهمامي على حد علمنا مسؤولا متقدما بالهياكل النقابية لقطاع التعليم الثانوي الذي انتمي إليه لفترة تقارب الخمس عشرة سنة (من أوائل السبعينات إلى أواخر الثمانينات من القرن الماضي). ولكنّ ذلك لا يمنعنا من أن نقول (دون مبالغة قد يفرضها أحيانا مقام الحديث عن الميت) أنه كان من أنشط العقول النقابية التي عرفتها سنوات السبعينات والثمانينات خاصة. ولنتأكد من ذلك فلنقرأ نص هذه الرسالة التي نشرها الفقيد في كتاب من تأليفه بعنوان "دفاعا عن الديمقراطية النقابية " والذي طبع في أفريل 1985 عن دار النشر للمغرب العربي. ماذا تقول هذه الرسالة التي لا تحتوي على تاريخ إصدارها وإن كان من الواضح أنها أرسلت له بعد أحداث بورصة الشغل إبان الاحتفال باليوم العالمي للشغل يوم 1 ماي 1984 .الرسالة تضمنها مقال وضع لها الطاهر الهمامي، عنوان " طريد الضيعة " أما الرسالة فعنوانها الأخوة الكاذبة".
تقول الرسالة،
الأخ ...........
نظرا لما صدر منك من تجاوزات تمس من مبادئ الإتحاد وأهدافه وسمعته في الداخل والخارج يوم غرة ماي وتعمدك حرمان الشغالين من الإحتفال بعيدهم العالمي، فإننا قررنا تجريدك من الصفة النقابية والسلام.
الكاتب العام المساعد المكلف بالنظام الداخلي
لقد جاء هذا التجريد وسط مناخ اجتماعي شديد التوتر . فبدون العودة إلى الأحداث الأليمة للإضراب العام في 26 جانفي 1978 ، فإننا نكتفي بالإشارة إلى سنة 1984 التي عاشت واقعا يشبه إلى حد كبير ما عرفته البلاد سنة 1978 . هناك أولا الأحداث التي اندلعت يوم 3 جانفي 1984 .هذه الأحداث التي أطلق عليها اسم " انتفاضة الخبز"، لكنها في الواقع لم تكن انتفاضة جياع وإنما كانت تعبيرا عن شعور المرارة والإحباط والغضب لدى كل أولئك الذين أصبحوا يشعرون بالإقصاء وبانسداد الآفاق وموت الأمل لديهم في تحسين أوضاعهم الاجتماعية. لقد بدأ يتصدع ما يسميه الهادي التيمومي بعقد الرشوة الإجتماعية غير المكتوب بين الدولة والشرائح الوسطى لشراء ولائها . لقد ارتأى أصحاب القرار غداة انتفاضة الخبز ضرورة شد الأحزمة أكثر من ذي قبل . لذلك قامت الدولة بتجميد الأجور بداية من 1983 وأعلنت ربط أية زيادة في الأجور مستقبلا بالزيادة في الإنتاج والإنتاجية (كان هذا شعار الوزير الأول محمد المزالي في تلك الفترة) وفرضت على الإتحاد أن يكون عنصرا مشاركا لا عنصرا "مطالبا".( الهادي التيمومي " تونس 1956-1987 ") وقد أسفرت هذه السياسة التي سميت بسياسة التعاقد الاجتماعي عن اتفاقية 13 أفريل 1984 والتي ألغيت بموجبها كل التحركات التي كانت مبرمجة لتلك الفترة ومنها إضراب في قطاع التعليم الثانوي بل جرى الحديث أيضا عن إضراب عام في الوظيفة العمومية ، وذلك ست سنوات فقط بعد مجزرة الإضراب العام الذي قرره الاتحاد ونفذه في 26 جانفي 1978 . لم يقبل النقابيون حينها هذه الاتفاقية وخاصة نقابيو التعليم الثانوي عبر هيئتهم الإدارية التي عبرت عن موقفها داخليا من اتفاقية تهمها مباشرة كسلطة عليا لجزء من قواعد المنظمة. لقد قررت الهيئة الإدارية القطاعية المنعقدة في أفريل 1984 تأجيل الإضراب بدل إلغائه حتى تختبر النوايا الحقيقية لسلطة الإشراف. ثم جاءت أحداث غرة ماي 1984 التي عبر فيها النقابيون عن رفضهم لاتفاق 13 أفريل مختزلين غضبهم "في شعار واحد" دارت حوله كثير من الشعارات الأخرى "لا....لا للفوقية ". وقد أسفرت هذه الأحداث عن سلسلة جلسات نظمتها القيادة المركزية للإتحاد دشنتها بقرار الطرد الشهير الذي كان هدفا له 24 من أعضاء المكتب الوطني بقطاع التعليم الثانوي وأغلب نواب الهيئة الإدارية السابقة الذكر وبالإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق في أحداث غرة ماي، بينما تم إعلام نقابيين من قطاعات أخرى بقرار طردهم وذلك عن طريق نقاباتهم العامة أو جامعاتهم (21 من البريد...6. من قطاع البناء..... الخ). وأرفقت هذه التصفيات بحملة إعلامية تركزت على عدة محاور منها نعت المحتجين ضد سياسة المركزية أثناء الاحتفال بأنهم عناصر مندسة في صفوف الإتحاد " وفوضويون " و " ومخربون " بل نعتوا ايضا بكونهم فاشيين وبأنهم يريدون تهميش مشاكل العمال ويهددون استقلالية الإتحاد ويريدون التسلط عليه وتكسير وحدته. كما جاء في جريدة الشعب الصادرة مباشرة عقب أحداث 1 ماي. هذه هي بعض ملابسات تجريد الطاهر الهمامي من الصفة النقابية. فماذا استخلص الفقيد من هذه الأحداث ومن عملية تجريده في بضعة كلمات وبدون الحاجة إلى القول " ما أشبه اليوم بالبارحة ".؟ لقد اعتبر الطاهر الهمامي أن الديمقراطية النقابية شرط لا يستقيم بدونه أي عمل نقابي وذلك ضمن المنظور الطبقي الذي كرسه في كتاباته. فللديمقراطية في نظره دور في فض مسألة الاستقلالية داخل المنظمة ونسج الوحدة النقابية المنشودة .فعندما تتوفر شروط الممارسة الديمقراطية داخل النقابة ويتاح للقواعد أن تكرس إرادتها فإن ذلك سيضع حدا للجدل حول موضوع انتمائها الفكري والسياسي فمن يحوز على الأغلبية ويحرز القيادة، فالنقابة حتما ستنتمي إليه دون أن تتحول بالضرورة إلى ذيل من ذيوله التنظيمية أو تفقد صبغتها كمنظمة جماهيرية أو تخول له ممارسة البيروقراطية والتسلط. وإذا كان قد بات مفروغا منه لدى أغلب النقابيين وغير النقابيين أن التنظيم النقابي ككل التنظيمات لا يمكن أن يكون محايدا البتة بل يشقه الانتماء والانحياز حتما فإن الديمقراطية بدورها ليست أمرا خارجا عن القوانين الموضوعية المتحكمة في المجتمع البشري وعلى رأسها قانون صراع الطبقات بل هي ذات محتوى طبقي مخصوص يعكس منظور تشكيلة اجتماعية معينة ومصلحتها.
إن الديمقراطية في كتابات الطاهر الهمامي هي نهج الأغلبية وملتقى ومدار مصلحتها أما الأقلية المنتفعة من النفوذ الإداري داخل المركزية النقابية فتحرص على الطابع البيروقراطي للمنظمة، دفاعا عن مصالحها وخضوعا لحسابات ضيقة، ولذلك فإن الشعار الذي رفعه الطاهر الهمامي دائما هو وجيل اليساريين الذي انتمى إليه والذي كان قد تخرج حديثا من الجامعة والتحق بالوظيف العمومي واضطلع خاصة بمهمة التدريس في التعليم الثانوي هو " لا عرش ولا عروشية داخل الإتحاد ،لا ملكية، لا تنصيب ،لا تبعية ،لا فوقية ". هذا هو الإتحاد الذي دافع عنه الفقيد ، هذا هو الاتحاد الذي يدافع عنه كل النقابيين المناضلين ... معركة طويلة ومريرة تحتاج إلى جهد أجيال من المخلصين هل نقول أخيرا إن الأوضاع الحالية التي تعيشها المنظمة ويعيشها الشغالون ليست إلا برهانا ساطعا على أهمية الشرط الديمقراطي في أي عمل نقابي وعلى صحة الشعارات التي رفعت إبان فترة الثمانينات والتي تعني الصراع القديم الجديد داخل المنظمة بين جاذبية التسلط والفوقية وجاذبية التسيير الديمقراطي والاحتكام إلى القواعد ؟
عبدالسلام الككلي جريدة الموقف بتاريخ 22 ماي 2009 المصدر : الفجرنيوز