ملاحظات وأسئلة حول واقع المنظومة التربوية في بلادنا من خلال بعض التصوّرات الاجتماعية والتربوية بقلم الأستاذ: جعفر حسين (*) لقد عرفت منظومتنا التربوية جملة من التحولات والتغيرات الهامة 1على مستوى الأهداف والخيارات والبرامج والسياسات وما يبذل من جهود من أعلى مستوى لهذا القطاع يدل على أهميته باعتباره قطاعا حيويا يولي عناية للثروة البشرية كدعامة أساسية للتقدم والتنمية الشاملة ويساهم بشكل أو بآخر في ضمان واقع أفضل للأجيال القادمة، ورغم هذه التحولات فإن واقع المنظومة التربوية يعرف مجموعة من الصعوبات كأي قطاع وميدان تستدعي طرح مزيد من الأسئلة حول بعض المسائل الهامة وذلك انطلاقا من مجموعة من التصورات الاجتماعية والتربوية، فماهي هذه التصورات من خلال بعض الملاحظات؟ الملاحظة الأولى، متمثلة في أن التعليم التونسي لم يعد تلك الأداة الرئيسية للحراك الاجتماعي والمهني الصاعد، فمنذ بدايات الاستقلال إلى أواسط الثمانينات أصبح للتعليم والشهادة قيمة اجتماعية ومهنية في مستوى العائلات والمؤسسات الاجتماعية والشغل، ولكن تراجعت هذه القيمة لهذا الرأسمال العلمي والثقافي وقد عوضته أدوات أخرى أكثر فاعلية وجدوى مثل مختلف أشكال النفوذ الموجودة داخل مجتمعنا التونسي، وكذلك المكانة التي يحظى بها بعض الأفراد أو الجماعات داخل المجتمع(الفنانين، لاعبي الرياضة...) حيث أصبحت هذه الفئة تحتل مكانة اجتماعية ومادية داخل النسيج الاجتماعي واحترام كبيرين من طرف العديد من الأفراد والمؤسسات، وكذلك هجرة بعض الأفراد خارج الوطن وخاصة من ليس لهم شهائد علمية ولم يواصلوا دراستهم في بلادنا، دون التقليل من ذلك، وبعيدا عن النظرة الدونية، فإنه عند عودتهم في بعض المناسبات أو نهائيا تكون وضعيتهم المادية والاجتماعية أحسن وأفضل بكثير من فرد قضى سنوات عديدة في الدراسة ولم يستطع إنجاز جزء ضئيل مما قامت به بعض الأفراد المهاجرة،و بالرغم من هذه العوامل وغيرها فإن العائلة التونسية تستثمر في التعليم من حيث المصاريف المادية التي تنفقها على تدريس أبنائها، وما تبذله من جهود معتبرة وتضحيات تجاه أبنائها. إن مسألة علاقة التعليم بالتحولات الاجتماعية ومسألة الارتقاء الاجتماعي الصاعد وجب أن يولى إليها اعتبارا بسبب عدة معطيات داخلية وخارجية وقيمية واستراتيجية من مختلف الفاعلين الاجتماعيين تجاه هذا القطاع. الملاحظة الثانية، متمثلة فيما يتصور حول التلميذ التونسي، حيث يشاع بشكل ملفت للانتباه بأنه تلميذ ضعيف في اللغات والعلوم الإنسانية وغير قادر على التعبير وتدني مستواه وعدم قدرته على التفكير والنقد. إن مجموعة هذه الأفكار فيها بعض جوانب من الصحة والوجاهة، لكن في هذا الإطار نرى على سبيل المثال معدلات"خيالية" للعديد من التلاميذ في المناظرات الوطنية(الباكالوريا) تصل إلى حد أكثر من تسعة عشرة من عشرين وهي معدلات غير موجودة في العديد من الدول المتقدمة أو عند بعض المفكرين والمنظرين من خلال مسيرتهم الدراسية وطنيا وعربيا وحتى دوليا، فهنا نلاحظ أنه على مستوى البرامج الرسمية والضوارب المسندة للغات هي ضواربب عالية، لكن الإشكال هنا هل في طريقة التدريس، هل في البرامج، هل في التقييم، هل في ضعف المكتسبات الأولية للتلميذ، هل في تكوين المدرسين أنفسهم، هل في قبول مدرسين في بعض اللغات(اللغة الأنقليزية)، على سبيل مبدأ الطلب والحاجة؟ أما في العلوم الإنسانية فماهي مكانة هذه العلوم داخل منظومتنا التربوية، فهل أن ضوراب بعض المواد المتدنية تجعلنا نراهن على تلاميذ يرغبون في هذه العلوم، لماذا راهنت الهيكلة الجديدة للتعليم الثانوي على المواد "العلمية" فحسب، لماذا وقع إلغاء هيكلة سابقة كانت مبرمجة تقسم شعبة الآداب بصيغتها الحالية إلى لغات وعلوم إنسانية واجتماعية، كما أن صورة هذه العلوم في مجتمعنا بفعل عدة عوامل ساهمت في إضعافها وعدم إيلائها الاهتمام الكافي. و هنا يرى الكثير من الفاعلين الاجتماعيين والتربويين ضرورة الاستفادة من المختصين المتخرجين في العلوم الاجتماعية2 في العناية بالتلاميذ دون احتراز وهو أمر وجب التنويه اليه لأهميته، فهو يأتي ضمن رؤية متبصرة واستشرافية للمؤسسة والمنظومة التربوية، ويتدعم ويترسخ بانتداب المتخرجين من هذا العلم في مختلف الهياكل التربوية وإعطاء فرص أفضل للتدخل لهم وتقديم ما يمكن أن يحسن في أداء هذه المنظومة بشكل إيجابي. و من جهة ثالثة، وفي سياق الملاحظة الأولى، يقال أن التلميذ التونسي غير قادر على التفكير والنقد، وهو أمر نسبي لأن التلميذ مرتبط بفلسفة تربوية وبرنامج مسطر له بصفة مسبقة، ولكن لماذا نلوم التلميذ على عدم النقد والتفكير، هل المسؤولين التربويين والبيداغوجيين مثلا لهم رؤية نقدية لبعض المسائل التربوية والبيداغوجية في بلادنا، لماذا يتلفظ بخطاب مغاير في الأماكن العامة لمسؤولين تربويين وبيداغوجيين، في حين يصرح بكلام آخر ومغاير تماما في حالات عديدة فيما يسمى الاجتماعات والجلسات وحتى الندوات والحلقات التكوينية، ما هي دلالات هذه المفارقة والازدواجية؟ أما الملاحظة الثالثة، فمتعلقة بمستويين، الأول المؤسسة التربوية من خلال الهياكل التربوية الجديدة، لماذا وجدت تعثرا بقطع النظر عن الآراء المتباينة حوله، ويقال في هذا السياق أن هذه الهياكل مسقطة ومفروضة من فوق، وهنا نتساءل حول هياكل تقليدية مثل مجلس التربية والتأديب القديم و"الشرعي" مثلا فإن تركيبته وهيكلته ووظائفة لم تتطور بعد، بالرغم من إلزامية قراراته وعلويتها. كما أن تقييم أداء هذا المجلس على مدى هذه السنوات من حيث نجاعة وفاعلية هذه القرارات، ضروري لمزيد تحسين أدائه وتطويره. كما نلاحظ أيضا داخل المؤسسة التربوية التفاوت الواضح بين الإطار التربوي ككل وهنا نخص كمثال دون نسيان أمثلة أخرى الفوارق البارزة بين من يسمى"إطار إشراف" خاصة فيما يخص المنحة المادية للإشراف والترقيات داخل هذا الإطار. أما المستوى الثاني فمتعلق بما يسمى"الإدارات الجهوية للتربية والتكوين"، إلى أي مدى استطاعت هذه الإدارات تطوير منظومتنا التربوية، وهل هي عامل مساعد أم معرقل للمؤسسات التربوية3 بعيدا عن منطق وخطاب قلة الإمكانيات والضغوطات التي تسمع هنا وهناك. إن هذه الإدارات الجهوية للتربية والتكوين، تحتاج إلى مجموعة من الإصلاحات الداخلية وتطوير أدائها فيما يتعلق بالموارد البشرية وقدرتها على تبسيط مختلف الإجراءات والتراتيب وذلك بتذليل الصعوبات التي تعترض المؤسسات التربوية للقيام بمهامها. إن ما سعينا إليه في هذه المحاولة حول واقع المنظومة التربوية في بلادنا من خلال بعض التصورات الاجتماعية والتربوية تحتاج إلى تطوير وملاحظات أخرى، وهي لم تنفذ إلى مختلف جوانب المواضيع ولكن المهم هو الوعي بأهمية هذه المنظومة في بلادنا وما الجدل والتعدد والاختلاف في الآراء والأفكار والتباين فيما بينها سوى مؤشر إيجابي وصحي لهذه المنظومة أولا والمجتمع التونسي ثانيا الذي يطمح لبناء مجتمع المعرفة في سياق تحولات داخلية وعالمية متسارعة. الهوامش: 1- طارق بن الحاج محمد، الثابت والمتحول في أنظمتنا التربوية في سبيل مقاربة سوسيولوجية لفهم التجديدات التربوية في تونس، مجلة أنوار، المركز الجهوي للتربية والتكوين المستمر بزغوان عدد11 2007 ص 31 2- جعفر حسين، مساهمة المختص الاجتماعي في تفعيل الوسط المدرسي، صحيفة الصباح التونسية يوم الأحد 21 ماي 2006 ص 13. 3- جعفر حسين، ملاحظات حول المعوقات المؤسساتية لتحسين نسب النجاح في المؤسسات التربوية: ولاية قابس نموذجا، صحيفة الصباح التونسية يوم الأحد 28 أكتوبر 2007 ص 12. (*) باحث في علم الاجتماع