بابا الفاتيكان معروف قبل البابوية بتأييده لحق اليهود في فلسطين، واعتباره للعرب طارئين على ما يسمى بأرض إسرائيل، وكان معروفا أيضا بعدائه للمسلمين على اعتبار أنهم وقعوا تحت طائلة شخص عبقري في التضليل وهو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ولم يخف البابا هذه المسألة وتحدث علنا بطريقة استفزازية لكل المسلمين. وربما رأى الآن ضرورة إصلاح علاقته مع العرب والمسلمين فقام بجولته الأخيرة إلى المنطقة. وعلى الرغم من أنه قدم بعض اللفتات هنا وهناك التي من الممكن اعتبارها منطلقات لعلاقات جيدة مع العرب والمسلمين، إلا أنه أبدى الكثير من التحيز لصالح اليهود وإسرائيل. وهنا أسجل الملاحظات التالية: هناك ملاحظات تدخل في رصيد الزيارة ويمكن قبولها في ميزان إقامة العلاقات الطيبة منها: أولا: تعتبر زيارته للأردن والضفة الغربية واجتماعه مع مسؤولين فلسطينيين وأردنيين خطوة إيجابية نحو الفهم المتبادل، والزيارات إجمالا عبارة عن آلية جيدة لصناعة التفاهم المشترك بين الأمم والشعوب. ثانيا: التقاء البابا مع رجال دين في فلسطين والأردن يشكل خطوة جيدة لتبادل الأفكار الدينية، ويوفر فرصة جيدة للمسلمين الذين اجتمعوا به لتوضيح الكثير من القضايا الدينية وعلى رأسها الهجوم الذي شهدته السنوات الأخيرة على شخص الرسول محمد عليه السلام. ثالثا: زيارته للمسجد الحسيني في عمان والمسجد الأقصى تكسر بعض الجليد، ولعلها أثرت في نفسيته وأفكاره التي يحملها تقليديا عن المسلمين والإسلام. وزيارته للمسجد الأقصى تحمل معنى خاصا لأنها حصلت في وضح النهار على الرغم من استياء إسرائيل منها. أقر البابا بزيارته بقدسية المكان وأهميته بالنسبة للمسلمين، رغم معارضة اليهود الذين يقولون إن الموقع مقدس لليهود. في المقابل، نطق البابا بأقوال وقام بأعمال تؤكد على فشله في إحداث التوازن، منها: أولا: أعلن في الأردن أن زيارته تؤكد على الروابط التاريخية بين اليهود والمسيحيين، وأكد على وحدة العهدين القديم والحديث. هذا تصريح خارج عن الأصول الدبلوماسية بخاصة أنه انطلق من دولة عربية. كان الأولى أن يؤكد البابا على علاقات العرب والمسيحيين، أو علاقات المسلمين والمسيحيين، لا أن يخرج عن السياق ويخاطب أناسا آخرين ليسوا جزءا من الزيارة. ثانيا: لم يعتذر البابا عن انتقاداته التي وجهها للرسول عليه السلام على الرغم من مطالبة الكثيرين في العالم الإسلامي بهذا الاعتذار. لقد قرر البابا أن يجعل زيارته للأطر الرسمية التي يمكن أن تتجاوز مسألة التطاول على شخص الرسول الكريم، وترك الباب مغلقا في وجه الحركات الإسلامية وجماهير الناس المستائين من تصريحاته. وهذا ما دفع رجال الدين غير "المسلطنين" لمقاطعته وتوجيه الانتقادات له وللفاتيكان، ولمجمل الزيارة. ثالثا: قيام البابا بزيارة عائلة الجندي الصهيوني المأسور لدى حماس استفزت جمهور الشعب الفلسطيني الذي يعاني من أسر أكثر من 11,000 فلسطيني في المعتقلات الصهيونية. كان البابا منحازا بصورة غير محترمة، وأظهر عدم احترام لآلام الشعب الفلسطيني وأحزانه. رابعا: زار البابا الصرح التذكاري لما يعرف بالمحرقة اليهودية، وتحدث بألم عن معاناة اليهود، لكنه لم يتحدث عن المحارق التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، ولم يحاول زيارة غزة المنكوبة والتي يعاني أهلها أشد أنواع الحصار التي عرفها التاريخ. خامسا: لم يأت البابا على ذكر حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم، في الوقت الذي لا يقبل فيه الدين المسيحي تشتيت الناس ونزع ممتلكاتهم والاعتداء على بيوتهم. شدته معاناة اليهود في أوروبا، لكن معاناة ملايين الفلسطينيين على مدى عشرات السنين لم تجد لديه اعتبارا. سادسا: فضل البابا أن يحسم نفسه مع الذين يصفون المقاومة الفلسطينية بالإرهابية عندما طلب من الناس عدم الانجرار وراء ما سماها الأعمال الإرهابية. هو لا يعترف بحق الفلسطينيين بالمقاومة، وأضاف نفسه إلى قائمة المناهضين لحق الشعب بالحرية والتحرير. سابعا: تحدث البابا عن وطن للفلسطينيين، وهذا غير كاف. هناك شعوب في الأرض لها وطن، لكن لا يوجد لها دولة. كان من المفروض أن يكون واضحا في هذه المسألة، وألا يترك الأمر مختلطا بين فكرة الوطن وفكرة الدولة ذات السيادة الحقيقية. ثامنا: لم يدع البابا صراحة وبوضوح إلى رفع الحصار عن غزة فورا، واكتفى بالتعبير عن أمله برفع الحصار وإنهاء معاناة الناس. كان من المتوقع من رجل دين على رأس الكنيسة الكاثوليكية أن يفصل بين السياسة والأمور الإنسانية، وألا يتردد في تعنيف الدول التي تستعمل آلام الناس من أجل الضغط على حركة حماس. تاسعا: زار البابا حائط البراق (المبكى وفق التسمية اليهودية)، وهو يقع ضمن أرض سيطرت عليها إسرائيل عام 1967. لو كان البابا مؤمنا بأنه لا يجوز احتلال الأرض بالقوة، وملتزما بميثاق الأممالمتحدة لما قام بهذه الزيارة التي تعتبر اعترافا بالعدوان والاحتلال. إجمالا، لم تقدم الزيارة حلولا للمسائل القائمة بين المسلمين والفاتيكان، ولم تشكل نقطة تحول في موقف الفاتيكان تجاه القضية الفلسطينية. كان من المأمول أن يكون البابا متوازنا في خطابه، لكنه كان منحازا إجمالا لصالح إسرائيل. هذا التحيز ليس غريبا بخاصة أن الفاتيكان لم يعط انتباها ولو لفظيا للقضايا الإنسانية المتصلة بالقضية الفلسطينية وعلى رأسها عودة اللاجئين وعدم المس بممتلكات المواطنين.