لا خلاف على أن فقد الأبناء والأحفاد هو مما يدمي القلب، لاسيَّما حين يحدث ذلك على نحو مفاجئ، وقد ثكلت أسرة الرئيس المصري الأسبوع الماضي بفقد حفيدها محمد، نجل السيد علاء، الابن الأكبر للرئيس، الأمر الذي يستحق العزاء والدعاء بأن يلهم المصابين الصبر والسلوان. على أن ما جرى في مصر المحروسة خلال الأيام التي تلت وفاة الطفل كان مثيراً إلى حد كبير، وليس من العسير القول إننا كنا إزاء مشهد فيه الكثير من السياسة التي لا يمكن للمراقب أن يتجاهلها إذا كان ممن يرصدون تحولات الوضع العربي ومجتمعاته المحلية. فجأة، ومن دون مقدمات، ولا حتى مبررات مقنعة، اتشح المشهد الإعلامي المصري بالسواد، وتحولت القنوات والإذاعات بمختلف أشكالها وألوانها إلى حالة من التدين العجيب؛ إذ أوقفت أغلبها البث العادي واكتفت بالقرآن الكريم، بينما ذهبت أخرى نحو بث برامج دينية، كان بعضها للمفارقة يتحدث عن منزلة الفقيد في الجنة ويبالغ في الترحم عليه، مع أنه دون سن التكليف كما يعلم الجميع. هنا برزت معادلة النفاق الإعلامي التي تأكدت في حالة وسائل الإعلام والإعلاميين، ليس فقط في القطاع العام، وإنما الخاص أيضاً؛ حيث تسابق القوم في البحث في سجل الفقيد عما يمكن أن يكون مادة إعلامية تشيد به وتبرر الحزن لفقده، فضلاً عن اختراع كل ما من شأنه إظهار تفوق الجهة المعنية على ما سواها في التعاطف مع مصاب السيد الرئيس. السياسيون بدورهم اندمجوا في الدور أيضا، فضلاً عن بعض المشايخ والعلماء، وقدموا ما تيسر من وصلات الحزن والتأثر، بمن فيهم السياسيون المعارضون، وتم أكثر ذلك بقدر لا بأس به من الابتذال، فضلاً عمَّا انطوى عليه من تجاوز لأحزان الآخرين، إذ من المؤكد أنه في اليوم الذي دفن فيه حفيد الرئيس، كان ثمة أطفال كثر دفنوا بعدما قضوا في حوادث سير، وربما حوادث سخيفة مردها البؤس والفقر. ولا حاجة للتذكير بمئات الأطفال الذين قتلوا في قطاع غزة في أثناء الحرب الأخيرة، ولم يؤثروا في منظومة البرامج التقليدية للإعلام المصري. المصريون، وكما سائر العرب والمسلمين لهم وقفتهم الخاصة أمام مشهد الموت، وهم ينسون خلافاتهم في هذا المضمار، لكن للحزن حدوده التي لا ينبغي تجاوزها على نحو ما جرى، لاسيَّما أننا إزاء مواطن قوي الذاكرة لن ينسى أن ضحايا عبّارة الموت وهم أكثر من ألف مواطن مصري لم يحصلوا على عُشر معشار ما حصل عليه الطفل الفقيد من تعاطف، الأمر الذي ينسحب على ضحايا قطار الصعيد قبل سنوات، كما أن ثمة أطفالاً بلا عدد يموتون في العشوائيات يومياً بطرق شتى لا يلتفت إليهم أحد، وهم بالضرورة أعزاء على أهلهم وذويهم، فلماذا يشذ الأمر في حالة حفيد الرئيس؟! إننا إزاء شكل من أشكال الأبوية التي تفرض على الشعوب، وحيث يراد للرئيس أن يكون الأب الذي يحزن الجميع لحزنه ويفرحون لفرحه، بعيداً عن قضاياهم وهمومهم الشخصية. اللافت أن مناسبة فقد الحفيد قد سبقتها مناسبة أخرى تمثلت في عيد ميلاد الرئيس الحادي والثمانين، وهذه كانت مناسبة أخرى لتعداد الإنجازات التي تحققت في عهده على نحو مبتذل ومخالف للواقع، لاسيَّما أن الناس تعيش في البلد ولا تراقبه عن بعد حتى يجري تزييف أوضاعه البائسة في وعيها. إنه مشهد غريب، فبينما يتجه العالم نحو اعتبار الحاكم موظفاً لدى الشعب يقوم بخدمته وفق عقد اجتماعي معروف، يصار إلى عكس ذلك تماماً في العالم العربي، ويغدو على المواطنين أن يتعاملوا مع الحاكم بما هو أكثر من روحية الأب الذي يُغفر له مهما أساء أو تجاوز. ليت ذلك يحدث في بلاد تعيش أفضل الأحوال ويتفانى فيها الحكام في خدمة شعوبهم، إذاً لكان الأمر طبيعياً وتعبيراً حقيقياً عن المشاعر، لكنه يحدث هنا كجزء من منظومة النفاق السياسي التي تلقي بظلالها على كل شيء. رحم الله أمواتنا، وألهم الأحياء الصبر والسلوان. •كاتب أردني العرب 2009-05-27